للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد أفاضل الكتاب في دمشق ـ الشام


الإصلاح الإسلامي
لأحد أفاضل الكتاب في دمشق -الشام

رنّ في هذه الأيام صدى كلمة الإصلاح في هيئة المجتمع الإسلامي لتقويم أوده
وإرجاع سالف مجده، وهي الكلمة التي أصغت لسماعها الآذان حينًا من الدهر،
ورصدت لها العيون ظهورًا في هذا العصر، وقد أخذ نبهاء الكتاب، ممن أوتوا
الحكمة وفصل الخطاب - في سلوك سبل توصل إلى هذا المقصد العزيز، وأناروا
مصباح رأيهم في هذا الميدان الرحيب، الذي ضربت عليه سرادق ظلام الجهل،
وخفيت فيه أنوار العلم والفضل، حتى تاهت في بيدائه العقول وحارت في أرجائه
الألباب، إلى أن أسفر للبعض منهم صبح من الإصلاح سار تحت ضيائه، وأرشد
الكافة إلى نوره وسنائه، والبعض لاح له حباحب يضيء، فظن أنه سيظهر شمسًا،
أو يكون في عالم الإصلاح بدرًا، والبعض رأى ما رأى مما وقفتم عليه في الجرائد،
ولكلٍّ وجهة اتجه إليها، وعول فكره عليها، إلا أن من سبر غور الحوادث وتتبع
سير تقلباتها وتنوع أطوارها - علم أن سيرها على جادة مستقيمة وخطة قويمة ما
كانت تحدث طفرة بل بسير متتابع بعضه خبب وبعضه عنق.
ونحن إذا نظرنا إلى ما اقترحه الكتاب من الأخذ بالأسباب المزعوم بها
الإصلاح وجدنا مقترحهم من نوع الطفرة التي هي محال في سير الزمان وتقلبات
الأحوال، وقد تبرعوا به في غير وقته، وكان الأجدر أن يلتفتوا إلى ما هو أمامه من
العقبات التي تعيق دون الوصول إليه فإذا مهدت ظهر نجاح مقترحهم [١] (لا ندري
من يريد بطالبي الطفرة) .
وما دامت هذه الأطواد الشوامخ حائلة في طريق الإصلاح ولها السيطرة القوية
والنفوذ التام على الخاص والعام فمن المحال الوصول إلى المطلوب إلا بالطريق
الذي سلكت عليه أوربا أول حضارتها، وقد علمتم أسبابه وكشفتم نقابه. وفي مقدمة
تاريخ (شرلكان) ما فيه كفاية للوقوف على نهضة الأمم الغربية من رقدتها، وكيف
زحزحوا العقبات الناشبة في طريق تقدمهم حتى ظفروا ببغيتهم، ولم يتنبه
المعترضون في سبيلهم إلا والقوة كانت في طرف أخصامهم فهبوا إلى إثارة شرار
الشر ضدهم فلم ينجحوا، وخاب مسعاهم فلم يفلحوا، أو بالطريق الذي سلكت عليه
اليابان في تقدمها ونشأة حضارتها إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك
الإسلام وإمدادهم فيه.
فأُولى هذه العقبات عقبة النفع الذاتي الذي يتخلل الأعضاء والجوارح وتنمو
الأجسام عليه حتى صار ملكة راسخة يعسر زوالها ولا يرجى برؤها، وهي أعظم
حائل دون المرام من الإصلاح، وما دامت هذه الروح الخبيثة تتردد في شغاف القلب
وتجول في ميدان اللب، فلا وأبيك نرى إصلاحًا لفسادنا ولا نجاحًا لأعمالنا (إنما
يضر حب الذات الذي تضيع به الحقوق العامة وهذا عرض يزول بالتربية والتعليم
الصحيحين) .
والثانية من هذه العقبات العصبية القومية التي إذا التفتنا إلى جهتها نقضي
لأول نظر باليأس من النجاح في خطة التقدم والفلاح؛ فإن ما نراه ونسمعه من
السعي في إفساد ذات البين الذي جاء الإسلام بحظره وخطره يحملنا على إنكار القول
بإمكان الإصلاح (هذا غلو في اليأس) ولا يخفى أن الأمة الإسلامية وحدت كلمتها
وضمت متفرقها برفع المغايرات الجنسية، فإذا انحلت هذه الرابطة ونظر كل شعب
وقبيل إلى نفعه حكم بتفريقها وتوزيع سلطتها ضرورة كالحبل المؤلف من أجزاء، فإذا
انحلت أجزاؤه ذهبت متانته وتلاشت منه القوة التي يقتدر بها على حمل الأثقال، وقد
استلفت الدين الإسلامي الجمهور إلى التمسك بعروة الإخاء الديني كيلا تتمكن
الدسائس الإبليسية والشهوات النفسانية من حل عُرَاه، وقد أبت السياسة الخرقاء إلا أن
تفرق هذه القبائل والشعوب التي أمر الله بتعارفها وائتلافها لوجهة من السياسة مظلمة
وطريق من التحكم وعر.
وإذا نظرنا إلى تقابل الطوائف الإسلامية التي فرقتها اللغات وجمعها الدين نراه
كالتقابل بين الأمم التي فرقتها الألسن، والأديان ولا يسعنا الحال الحاضر أن نبين
مقدار الانفراج الحاصل بين الشعوب الإسلامية؛ لئلا ينكشف الطلاء.
الثالثة منها الاختلافات الطرائقية والمذهبية، ولا يحقر شأن هذه الاختلافات
التي باعدت بين الأمة وقد أحدثت خللاً عظيمًا يصعب تلافيه.
الرابعة منها السعي في إفساد الأخلاق والآداب من أفراد يعلم شأنهم.
الخامسة منها السعي في انحطاط درجة علماء الدين من أنظار الأمة، وقد أخذ
بعضهم في لومهم لتقصيرهم عن القيام بإرشاد الأمة، وقد ذهل اللائم عن السبب
الباعث على سكوتهم وسكونهم وما هو إلا ما اتُّخِذَ من الحجر على أسباب معاشهم
وحصرها تحت يد مَن يتسنى له تسييرهم على مقتضى أغراضه وأهوائه (تأملوا
أيها العلماء بماذا يدافع عنكم من يعذركم من الأمة فما بال من يعذلكم؟ !) ولم يزل
السعي بتقليص نفوذهم من أنظار الأمة بأسباب معلومة واتخاذ من تشبه بهم من
أراذل الناس في الوظائف؛ لتتسع دائرة التهم عليهم فينحط شأنهم ويسقط سلطانهم.
ويكفي لانحطاط شأنهم ما يلقى في بعض المكاتب العالية إلى التلامذة من بعض
المعلمين من أن علماء الدين هم السد بين الأمة والترقي (ولماذا لا يكذبونهم بفعلهم؟)
وهذا الفكر تلقفوه من الأورباويين وقلدوهم في إطلاقه، وما علموا الفرق بين
سلطة العلماء في الدين الإسلامي وسلطة رؤساء الدين المسيحي؛ فإن من تتبع
تواريخ الأمة الإسلامية لا يقدر على إثبات حادثة تسند إلى علمائه تداخلاً في شؤون
الحكومات إلا ما كان من ضمن دائرتهم، ولم يكونوا في عصر ما حاجزين الناس عن
تعلُّم ما يفيد في معاشهم ومعادهم (في هذا نظر ظاهر إلا إذا أراد الحجز بالقوة
وليس من شأنهم) والتصانيف العديدة في أنواع العلوم والمعارف شاهدة (أين
مصنفات علماء هذا العصر من الفنون؟ !) وإعطاء حرية الأفكار ضمن صحائفها
مما يعلم به درجة التقدم، وثمة عقبات وسدود أرجأتها لوقت آخر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (م. ع. م)

(المنار)
لقد جمعت هذه المقالة على إيجازها ما لم تجمعه المطوَّلات التي كُتبت في
موضوعها، لكن فيها إجمالاً وإبهامًا لا بد معهما من بعض البيان والتفصيل.
أشار الكاتب إلى أن للإصلاح طريقين اثنين لا ترتقي أمة إلا بأحدهما أو
كليهما. ذلك بأن الارتقاء إما أن يكون من قبل الأمة كارتقاء أوربا، وإما أن يكون من
جانب الحكومة كارتقاء اليابان التي نهض بها إمبراطورها (الميكادو) نهضة واحدة
وقد أشار الكاتب إلى هذا بقوله: (إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك الإسلام
وإمدادهم فيه) ، وكان الأَوْلى أن يقول: متوقف على نهوض ملوك المسلمين وأمرائهم
وقيامهم به. وأما الأول فقد بينه بعض البيان بذكر العقبات الخمس. ذكر خمس
عقبات وسكت عن بعض العقبات والسدود أو أرجأها، ولكنه أهمل بيان الأطواد
الشوامخ التي يسهل بالنسبة إليها كل حَزَن وتقتحم كل عقبة.
تلك الأطواد مؤلفة من سلسلتين عظيمتين، وهما: رجال الدين، ورجال
الحكم والسلطان. فقد كان الفريقان متحدين في أوربا على مقاومة: كل ما يسمى
علمًا واكتشافًا واختراعًا وحرية وعدالة ومساواة، وإن شئت قلت: مقاومة كل ما
يصرف قلوب الناس عن العبودية لهما ويجعلهم مستقلين في إدارتهم كاملين في
إنسانيتهم. أما رجال الدين، فكانوا يعادون بالعقل والعلم ونتائجهما باسم الدين وكانوا
يزعمون أن كل علم أو عمل لم ينطبق على ما في كتبهم الدينية - فهو كفر وإلحاد،
ومن جاء به مباح الدم والمال. وكان الملوك والحكام تبعًا لهم ومنفذين لإرادتهم، وما
ذلك إلا لأن الفريقين كانا مشتركين في تلك السلطة المطلقة والمشيئة النافذة، وما كانا
يقابَلان به من الخضوع الأعمى والطاعة التامة. نعم، كانوا يعادون العلم؛ لأنهم
جهلاء، والناس أعداء ما جهلوا، فلما علموا صاروا أنصار العلم وأعوانه، كانوا
يرون أن العلم يصدهم عن حفظ الدين، فصاروا يعتقدون أنه لا يمكن حفظ الدين
وإبقاء شرفه إلا بالعلم؛ ولذلك ترى نظار المدارس وأكثر أساتيذها من الرهبان
والقسيسين، بل معظم المدارس في الغرب والشرق للجمعيات الدينية، وهل الترقي
إلا بالمدارس وفي المدارس ومن المدارس. فمبدأ ترقي أوربا الإصلاح الديني
وإمام المصلحين فيها هو الرجل العظيم (لوثر) .
ونتيجة هذا كله أن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء
ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية - التي هي محور الثروة والقوة والعزة -
ضرورية لا مندوحة عنها، ويجب أن تُعلم مع الدين وأن يقوم بتعليمها رجال الدين؛
لأن تركها للمدارس الأميرية والأجنبية التي يقولون: (لا دين فيهما) - يجعلها
خاصة بمن لا دين لهم وهؤلاء لا يرجى منهم خير للأمة والملة ولا يسقط الوجوب
بهم، وتركها بالكلية مُذهب للدنيا والدين؛ إذ الدين لا يمكن حفظه إلا بالدنيا فتعين
أن يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا (الرياضيات والطبيعيات) .
وإن الشريعة الإسلامية تصرح بأن تعلم الصناعات التي يحتاج إليها البشر في
معاشهم واجبة على مجموع الأمة، وأن ما يتوقف عليه الواجب المطلق كالجهاد واجب
أيضًا، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الجهاد والصناعات ممكنة بغير هذه الفنون،
مع هذا كله نجد أكثر رجال الدين عندنا يعادون هذه الفنون وأهلها بل يكفرونهم،
ومنهم من عمي عن الوقت والزمان فزعم أنها لا حاجة إليها ألبتة. ومن العجيب أن
فقههم يقتضي أن تعلُّم الفنون العسكرية التي يتوقف عليها الحرب - فرض عين في
أكثر البلاد الإسلامية وهذا الحكم الذي لا نزاع فيه بينهم يستلزم أن جميعهم فساق
تاركون للفريضة، وربما يستلزم أكثر من هذا لا سيما باستحلال هذا الترك.
هذا وإن هناك عقبات أخرى في طريق الإصلاح دخلت على الأمة من خروق
وكوى فتحت في جدار الدين، فإذا لم تسد هذه الخروق والكوى فإن الإصلاح يكون
كالعلاج مع تناول الأغذية المضرة، وقد أخذنا على نفسنا الدأب في هذا العمل
الشريف طول حياتنا، ولنا الرجاء في عقلاء العلماء أن يوازرونا ويعضدونا ولا بد
أن ينتهي هذا الجهاد بانتصار الحق وانكسار الباطل والعاقبة للمتقين.
وأما السلسلة الأخرى (الأمراء والحكام) فإنها لا تغلب إلا بالعلم فهي تستبد
في الأمر وتستعبد الرعية ما دامت الرعية جاهلة خرقاء، فإذا علمت ما لها وما عليها،
وصارت رشيدة عاقلة؛ يرتفع الحجْر والاستبداد بالطبع. ولله در السيد جمال الدين
الحكيم الإسلامي الشهير حيث كان يقول: (إن العاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) ؛
ولهذا نقول: إن المطالِب بالإصلاح قبل كل أحد العلماء وهذا. هو المراد بكونهم
ورثة الأنبياء. وكل العقبات التي ذكرها الكاتب الفاضل تزول بإرشادهم وإصلاحهم إذا هم قاموا به على وجهه إن شاء الله تعالى.
ثم إن لنا كلامًا في العقبة الخامسة: وهو أن ما ذكره من السبب في سكون
العلماء وسكوتهم عن الإرشاد صحيح إلا أنه لا ينهض حجة شرعية ولا عقلية على أنه
عذر لهم عند الله والناس، إلا إذا كانت الرشوة حجة على عذر المرتشي إذا هو ظلم
وضيع الحقوق، نعم، إن الحكومة استمالتهم إليها بجعل معاشهم من الأوقاف في
قبضتها، وبإعطائهم الرتب والوسامات حتى أذعنوا لباطلها وسكتوا على انحرافها
عن جادة الشرع، بل صاروا يمدحونها ويعظمونها تملقًا ونفاقًا حتى سقطوا من
عين الأمة والحكومة معًا، وضعف نفوذهم فيهما، ولو وقفوا عند الحدود المشروعة
وقاموا، بوظيفتهم المقدسة مع مراعاة الحكمة لزادهم الحكام والمحكومون تعظيمًا
وتبجيلاً، ولكل هذا أمثال مشهودة لا يستطيع أحد إنكارها.
ثم إن جماهيرهم مُعْرضون عن معرفة أحوال الوقت في غيبة عما يحتاجه
الناس وعن طرق الوصول إلى تلك الحاجات بحسب الزمان والمكان، ولذلك صار
الناس لا يشعرون بأن لهم حاجة إلى العلماء إلا في مسائل شاذة نادرة. ويسهل
عليهم أن يختبروا حال الأمة بالامتزاج بالعامة وتقصي أمورها المعاشية والدينية
والأدبية والوقوف على رغائبها ثم إيقافها على ما تحتاج الوقوف إليه من الطرق
التي يوافق رغائبها ويسهل عليها سلوكها.
عند هذا تشعر الأمة بشدة حاجتها إليهم فتزيد في تعظيمهم وتبجيلهم وإكرامهم
ولهذا أيضًا أمثلة مشهودة لا يستطيع إنكارها إلا من يكابر الحس وينكر الموجود. من
فهم هذا يتجلى له أن المنار قد خدم العلماء وتعمَّل في زيادة تعظيم شأنهم؛ حيث قد
ألقى معظم تبعة الأمة عليهم؛ لأن أكثر الناس كانوا يظنون أنه لا شأن لهم في
الإصلاح، كما أنه خدم الحكام بعدم حصر التبعة فيهم كما كان يعتقد السواد
الأعظم، وما أقصد بهذا وذاك إلا بيان الحق والإصلاح من طريقه، والله عليم
بذات الصدور.
((يتبع بمقال تالٍ))