للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دروس جمعية شمس الإسلام
(٤)

(أماليّ دينية - الدرس الرابع)
(٨) أحكام العقل: الإيمان هو تصديق العقل بقضايا الدين جزمًا في البعض
وظنًّا في البعض الآخر، وقد قلنا في درس سابق أن العقل مشرق أنوار الدين، وأنه
يجب أن لا يكون في الدين ما يجزم العقل بامتناعه، وأكثر كتب التوحيد التي يعلم
بها في المساجد والمدارس مبنية على أن العقيدة الإسلامية هي معرفة ما يجب لله
تعالى وما يستحيل في حقه وما يجوز له، وما يجب ويستحيل ويجوز في حق
الأنبياء عليهم السلام، وما ثبت بالسمع من أحوال عالم الغيب الجائزة عقلاً،
والتصديق الذي فسرنا به الإيمان حكم من أحكام العقل، والوجوب والاستحالة
والجواز التي بنيت عليها كتب العقائد التي أشرنا إليها هي أنواع الحكم العقلي التي
ترجع إليها جميع الجزئيات، ولذلك أراني مضطرًّا لبيانها وإن كنت أخذت على
نفسي أن أجلي لكم المسائل الدينية غير متقيد بالاصطلاحات العلمية.
قال إمام الحرمين: من لم يعرف أنواع الحكم العقلي ويفرق بينها فهو ليس
بعاقل، أبين مفهوم هذه الكلمات الثلاث بعبارة سهلة أرجو أن يتناولها فهم كل سامع
سالكًا مسلك السنوسي في جعلها أقسامًا للحكم العقليّ لا للمعلوم كما جرى عليه بعض
العلماء، فقد حقق أستاذنا الأكبر في رسالة التوحيد أن المستحيل لا حقيقة له فَتُعْلَم،
وإنما يسمى معلومًا مجازًا، وبين هذا بما لا محل لشرحه هنا لما فيه من الدقة التي
تنافي ما توخيناه من التسهيل، أبدأ بالبديهي من ذلك وأوضحه بضرب المثال
فأقول:
(٩) الوجوب والواجب: لا ريب أن الإنسان لا يستطيع أن يتصور جسمًا
غير متحيز أي آخذ مقدارًا من الفضاء الموهوم بقدره، فحكم العقل بالتحيز للجسم
الذي في يدي مثلاً حكم جازم لا يقبل الانتفاء، وهذا النوع من الحكم العقلي هو الذي
يسمونه الوجوب العقلي، والمحكوم به يسمى واجبًا، فالتحيز للجسم واجب عقلاً لا
يمكن انتفاؤه، ولا يتصور في العقل عدمه.
(١٠) الاستحالة والمستحيل: إذا قيل لكم: إن هذا الجسم متحرك وساكن في
حالة واحدة، فإن عقل كل واحد منكم يحكم بأن هذه الدعوى كاذبة لا تقبل لذاتها
الثبوت؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور جسمًا متحركًا وساكنًا في آنٍ واحد، كما لا
يستطيع أن يتصور شيئًا موجودًا ومعدومًا في آن واحد، وهذا النوع من الحكم
يسمى الاستحالة، والمحكوم عليه بالاستحالة يسمى مستحيلاً ومحالاً عقليًّا.
(١١) الإمكان والممكن؛ إذا قلت: إن في جيبي الآن تفاحة، فلا شك أن كل
عاقل يحكم بأن مفهوم هذا القول يجوز أن يكون ثابتًا متحققًا، ويجوز أن يكون
منتفيًا لا حقيقة له، وهذا الحكم هو الذي يسمى الإمكان، فوجود التفاحة في جيبي
ممكن قطعًا.
(١٢) البديهي والنظري: لا يرتاب فيما ذكرنا ذكي ولا بليد؛ لأن الأمثال
التي ضربناها بديهية، ولا يحتاج في فهمها إلى نظر واستدلال، ومن هذه الأحكام
ما لا يعرف إلا بالنظر العقلي والاستدلال، ولكن الدليل الصحيح لا بد أن ينتهي إلى
البداهة المعلومة بالضرورة بعمل فكري كثير، بل يحكم العقل بالتفاتة واحدة
باستحالة الترجيح من غير مرجح.
(١٣) الترجيح بلا مرجح: هذه الكلمة تدور على ألسنة المتكلمين في
الاستدلال على وجود الله تعالى وتنزيهه عن الحدوث، ومشابهة المحدثات،
ويعدونها من البديهات في العقليات، كما هي في الحسيات، فإن الميزان إذا تساوت
كفتاه لا يمكن أن ترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح كجسم يقع فيها أو هواء
يحركها، ومن هنا يجيء المثال الذي لا بد فيه من عمل فكري كثير، ولنجعله
حدوث العالم.
(١٤) حدوث العالم: من العالم ما نشاهد حدوثه بأعيننا كأشخاص الحيوان
والنبات، وما لم نشاهد حدوثه، فإننا نلقيه إلى العقل ليحكم عليه بأحد أحكامه
الثلاثة، أما الاستحالة فلا تأتي ههنا؛ لأن المستحيل ما لا يتصور وجوده، وهذا
موجود قطعًا، ولا سبيل للحكم عليه بالوجوب؛ لأن الواجب هو ما لا يتصور العقل
عدمه، ولا موجود في هذا العالم يمنع العقل عدمه، وكل ما تساوى في نظر
العقل وجوده وعدمه فهو ممكن، فإذا وجد الممكن فلابد من مرجح لوجوده على عدمه
المتساويين؛ لأننا أثبتنا أنهما متساويان، ورجحان أحدهما ينافي التساوي، فيلزم
أن يكونا متساويين وغير متساويين في آن واحد، وهذاهو التناقض المحال، فثبت
أنه لابد من مرجح لوجود العالم على عدمه والمسبوق بالترجيح حادث لا محالة بل لا
معنى للحدوث إلا هذا، ولك أن تقول: إن الترجيح فعل، وهو لا يعقل إلا حادثًا ومتى كان حادثًا فمفعوله حادث، فالعالم حادث لا محالة، وللاستدلال على هذا
الحدوث طرق أخرى لا حاجة لبيانها هنا.
(١٥) حكم الواجب والمستحيل: يشترك الواجب والمستحيل العقليان في أنهما
لا تتعلق بها قدرة الله تعالى؛ لأن وظيفة القدرة الإيجاد والإعدام، والواجب
وجوده لذاته فهو قديم ويستحيل عدمه، والمستحيل منتف لذاته ولو أمكن أن يوجد لم
يكن مستحيلاً، فلا يُقال: إن الله تعالى قادر على إعدام الواجب كذاته تعالى وتقدس،
أو إيجاد المحال كجعل الشيء موجودًا ومعدومًا، أو ساكنًا ومتحركًا في آنٍ واحد،
ولا يقال: إنه ليس بقادر إذ ليس هذا من وظيفة القدرة فيثبت لها أو ينفي عنها،
وقد غفل الجلال السيوطي عن هذا فقال في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: ١٢٠) هذه العبارة (وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر)
وفاته أن العموم في كل شيء بحسبه، فإذا قلت: إنني أبصر كل شيء في هذا
المكان لا يدخل في عموم قولي الأصوات والروائح؛ لأنها ليس من شأنها أن تبصر،
ولا يعد هذا نقصًا في القدرة الإلهية، كما لا يعد عدم إدراك الأصوات والروائح
نقصًا فيها.
(١٦) العقليّ والعاديّ: يشتبه على كثير من الناس المُحال العقلي بالمُحال
العادي، ولا يكاد يسلم من هذا الاشتباه إلا الذين درسوا العلوم العقلية بالإتقان، ثم
سألت القوم: هل يجوز في العقل أن تثمر شجرة النخل تفاحًا أم يستحيل؟ فأجاب
طائفة من أمثل الحاضرين (يستحيل) فقلت لهم: إن العقل كما يتصور ظهور
الثمرة التي تسمى بلحًا من هذه الشجرة يتصور أيضًا أن تظهر منها الثمرة التي
تسمى تفاحًا، ولكن هذا إنما يمتنع في العادة دون العقل، أرأيتم إذ قلت: هل يقدر
الله تعالى على إخراج التفاح من شجرة النخل، فما أنتم قائلون؟ فأجاب أنه قادر
على ذلك، فقلت: وهل يقال إنه قادر على جعل النخلة موجودة ومعدومة في آنٍ
واحد، فقالوا: كلا، فقلت: قد اتضح الفرق، وليس لنا أن نقول: إن هذا الشيء
مُحال عقلاً إلا إذا كانت استحالته بديهية أو عليها دليل ينتهي إلى البداهة كالجمع بين
النقيضين، وما عدا ذلك مما لم تجر العادة بوجوده إما لعدم وجود سبب وعلة
تقتضيه، أو لأنه مخالف لسنن الكون - فهو ممكن في نفسه مُحال في العادة، كما
اهتدى الإنسان إلى جعل الشجرة تأتي بثمرة شجرة أخرى من فَسيلتها بالطريقة
المعروفة، يجوز أن يهتدي إلى طريقة طبيعية أخرى في الأشجار التي ليست من
فصيلة واحدة كالنخل والتفاح، إن هذا الأقرب في نظر العقل من وصول الأخبار
إلينا من الصين وأميركا في نحو دقيقة واحدة بآلة التلغراف، ومن مخاطبة أهل
الأنحاء الشاسعة بعضهم بعضًا بآلة التليفون، لولا الجمع بين النقيضين وما في معناه
أو يؤدي إليه لكان من الصواب ما قال نابليون الأول أن يحذف لفظ المستحيل من
معاجم اللغة، وفي هذا القدر من البيان غناء لقوم يتفكرون.
((يتبع بمقال تالٍ))