للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحرب المدنية الكبرى

بلغ العالم المدني في العلوم والصناعات وشئون الاجتماع شأوًا لم تعرف
له الأرض نظيرًا، فرماها بقاصمة من الحرب المدنيَّة لم تر لها نظيرًا، فهذه
الحرب تشغل اليوم عقول أعرق الأمم في العلم والمدنية، وجميع قواهم
وجوارحهم، وما كسبته في الأيام الخالية من علم ومال، وما أنشأته من الآلات
وعدد القتال في انتقام عدة أمم ودول من أمم ودول أخرى، وكل دولة مقاتلة
تتوسل إلى من بقي على الحياد من الدول لتجذبها إليها، وتجعلها من أحزابها، فلو
نال كل فريق من المقاتلين ما يتمناه من مساعدة غيره له لاحترقت الأرض كلها بنار
هذه الحرب، وكان البشر كلهم حولها كالفراش يتهافتون فيها.
لو فكر كل امرئ من الناس بكنه هذه الحرب، ونكباتها وشرورها، وما
تصبه في كل ساعة، بل في كل دقيقة، بل في كل ثانية من أصوات العذاب
وصواعق النكال على الألوف من إخوانه البشر، وما يخسره العالم بفقد من تصعقهم
من العلماء والحكماء والصناع والزراع، وأرباب البيوت الذين خلفوا وراءهم
نساءً وأطفالاً لا عائل لهم من دونهم - لو فكر كل امرئ في ذلك وأعطاه حقه من
التصور والتدبر لاضطرب قلبه وحار لبه، وسالت عَبِرته وعظمت عِبرته،
ولكن شُغل كل امرئ ما أصابه، أو يتوقع أن يصيبه من شر هذه الحرب عما
أصاب غيره، وقلما يوجد أحد في الأرض آمِنٌ من مصائبها، وما جعل الله لرجل من
قلبين في جوفه.
إن أبعد الناس عن مواقع القتال وأقربهم إلى الأمن على أنفسهم من نيران
مدافعها وبنادقها وأسنة حرابها - لهم فيها شواغل أخرى بما نقصته من مكاسبهم،
وما قطعته من موارد أرزاقهم، فقد اضطربت المعاملات المالية في العالم كله منذ
بدأت؛ لأن هذه الدول التي أشعلت نارها هي القائمة بمعظم تجارة العالم، والصانعة
لأكثر ماعونه ولباسه وسائر أدوات عمله، وما هذا الشاغل عند الأكثرين إلا
دون ما لكل منهم من الضلع والميل إلى أحد الفريقين المتحاربين على الآخر،
فترى أمثال هؤلاء أكثر تفكيرًا في عاقبة الأحلاف المحاربة من التفكير في عاقبة
أمر أنفسهم في معاشهم، وموارد رزقهم، ورزق من يعولونه، لِهوًى لهم في ذلك
يرضونه، أو نفع من ورائه يرجونه.
هذا وإن الناس يزِنون أخبار الحرب بموازين أهوائهم، ويحكمون في عواقبها
بأمانيهم لا بآرائهم، فحكمهم هذا لا يتوقف على معرفة أخبارها الصادقة، ولا على
كنه قوات الدول المحتربة , على أن من هذه القوات ما هو معلوم بالتواتر، أو
الاستفاضة لا يماري فيه أحد من عوام الناس - دع خواصهم - ومنه أن دولة إنكلترا
أقوى دول الأرض في البحر، وأن دولة ألمانيا أقواهن في البر، وثانيتهن في البحر
واختلف الناس في المفاضلة بين الدول في الأساطيل الجوية، فذهبت الصحف
عندنا إلى أن فرنسا صاحبة السبق في هذا المضمار، وأن لها القدح المعلى فيه، ثم
ظهر أن ألمانية هي المبرّزة فيه، كما كنا نظن وفاقًا لكثير من الناس، بل المعلوم
بالإجمال عند جماهير الناس في الغرب، وأكثر المتعلمين في الشرق أن ألمانية أشد
الدول استعدادًا للحرب، وإتقانًا لنظامها وعُددها وكراعها، وأنه لولا أن إنكلترة
تكثرها في أساطيل البحر، لما لها في ذلك من السبق، لسهل عليها أن تسود الأمم
كلها بقوتها.
هذا وأن جميع الدول الأوربية متقاربة في الاستعداد للقتال، وقلما تسبق واحدة
إلى اختراع شيء، أو إحداث عدة، أو إنشاء حصن، وتستطيع إخفاءه زمنًا طويلاً
عن غيرها، فإن لكل منهن عيونًا أحد أبصارًا من زرقاء اليمامة، وأشد استراقًا
للسمع من الشياطين، ولكل من فنون العلم ودور الصناعات ما يمكنه من مبارة
الآخرين في الاستعداد الذي يحتاج إليه لحماية حقيقته، وحفظ مكانته، ولم يكد يبقي
للسابقين من مزية على اللاحقين في شيء بل صار الأول آخرًا، وعاد البدء ثنيانًا
في كثير من الشؤون، حتى خيف بعد تلك المساواة، أو المقاربة في العلم والعمل
أن يستعلي شعب واحد على شعوب أوربا كلها فيسود بذلك العالم كله.
الفرنسيس أذكى الأوربيين أذهانًا، وأشدهم إقدامًا، وأسبقهم إلى المحامد يدًا
ولسانًا، والإنكليز أرجح الشعوب أحلامًا، وأشدهم حصافةً وإحكامًا، وأمثلهم سياسةً
وأعدلهم أحكامًا , فلهذا سبق هذان الشعبان جميع الشعوب إلى استعمار الممالك،
والاستمتاع بثروة الأمم في المغارب والمشارق، وقد تنافسا وتناظرا، وتنازلا
وتصاولا، فكان الفلج والظفر لأهل الأناة والروية، على أهل الذكاء والأريحية،
وبذلك كان للإنكليز المقام الأعلى في العالم منذ عدة أجيال، ويليهم الفرنسيسن في
الثروة والاستعمار.
ثم نبغ الألمان وبرعوا في جميع العلوم والأعمال والصناعات والتجارة حتى
بذوا الفرنسيس والإنكليز في ذلك، فصار النماء النسبي في ثروتهم أعلى من مثله
في ثروة أولئك وخيف أن يصير اللاحق سابقًا، والثنيان بدءًا , واشتدت المناظرة،
حتى أفضت إلى هذه الحرب الحاضرة.
وأما سائر الدول والأمم المحاربة مع هؤلاء فهي أنما حاربت بالتبع لها ,
وأقواهن الروسية، فهي شديدة الأسر، راسخة الأصل، نامية الفرع، غزيرة العدد،
وافرة المدد، ولو كان شعبها كالألمان في العلوم والفنون، لسادت الناس أجمعين،
ولكنها دون النمسا وإيطاليا في العلم والصناعة، وفوق الدولة العثمانية التي
قنعت من المدنية الأوربية بتقليد الأوربيين في ظواهر النظام والزي وأساليب
المعيشة، دون العلوم والفنون التي ترقي الصناعة والزراعة والتجارة، وتنمي
الثروة، وتغنيها عن الأجانب فيما تحتاج إليه من أسباب القوة، وأقله معامل السلاح
والذخيرة.
ولولا أن الأمة العثمانية حربية بالطبع، ولولا موقع عاصمتها الذي تنافس فيه
وتحاسد عليه أقوى دول الأرض، فلم يسمح به بعضهن لبعض، ولولا مكانتها من
نفوس الشعوب الإسلامية التي كانت توادها لأجله الدولة البريطانية - لولا ذلك كله
لأسرعت الدول الكبرى في الإجهاز عليها، بدلاً من هذه المطاولة بنقصها من
أطرافها، والاكتفاء بفتح النفوذ الاقتصادي، والسياسي في أحشائها.
ولا يسع الباحث أن يغفل عن سائر الدول الصغرى التي اشتغلت نار الحرب
في بلادها أولاً، وهي الصرب والجبل الأسود وبلجيكا فجيشهن لا تفضله
جيوش الدول الكبرى في الشجاعة، والبلجيكيون من أرقى الشعوب في العلم
والصناعة، والتجارة.
فجملة القول في المجموعتين المتقاتلين: أن إنكلترة وفرنسة وروسيا وبلجيكا
والصرب والجبل الأسود، أكثر من ألمانيا والنمسا والعثمانية رجالاً ومالاً، وأساطيل
بحرية وهوائية، ولكن ألمانيا وحدها أعلى منهن استعدادًا ونظامًا، ولولا الأسطول
الإنكليزي لرجحت على الجميع رجحانًا ظاهرًا، بل لأمكنها أن تحارب أوربة
كلها وتنتصر عليها.
بيد أن هذا السبق في الاستعداد، ليس مما ينتظم في سلك الخوارق والآيات،
بل يمكن الدول الأحلاف أن يلحقوها به، إذا عجزت في أول العهد عن بطشة
فاصلة في فرنسة، أما إذا وقف مدها عند تدويخ بلجيكة، والاستيلاء عليها، وعلى
بضع ولايات من شمال فرنسة، وجانب من بولاندة الروسية، فما بعد المد إلا
الجزر. فإذا أمكن للحلفاء أن يزيدوا عدد جندهم ويمدوه بما لم تستطع هي مثله عاد
لهم الرجحان عليها من قبل في البحر.
فمحل الرجاء للحلفاء إنما هو التغلب بالكثرة بقاعدة قول الشاعر العربي:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
أما هذا المدد الذي يكون به الرجحان البري فلا يرجى إلا من قبل بريطانيا
العظمى؛ لأن الفرنسيس قد بذلوا كل ما في وسعهم، والروس - وإن كانوا أكثر
عددًا - لا يجدون من الذخائر والسلاح ولا من الضباط ما يمكنهم من
تجنيد العدد الذي تسمح لهم به كثرتهم، فالإنكليز وحدهم هم القادرون على مضاعفة
جنودهم، وعلى إيجاد ما يحتاجون إليه من السلاح والذخيرة لكثرة معاملهم وعمالهم
ومالهم، وليس عندهم جندية إجبارية تستغرق العمال، وتوقف حركة الأعمال،
وإنما يعز عليهم التعجيل بإيجاد ضباط أكفاء لجيش كبير يجددون تنظيمه تجديدًا،
ولكن الإنكليز أهل صبر وأناة، فما لا يدركونه في سنة يرضون بأن يدركوه في
سنين، وتاريخهم مرآة أخلاقهم في ذلك , وقد قدر لورد كتشنر ناظر الحربية القائم
بتجهيز الجيوش الإنكليزية مدة هذه الحرب بثلاث سنين.
بين لنا ما تقدم ما يراه كل الواقفين على الحقائق من أن هذه الحرب ليست إلا
المظهر الأجلى للتنازع على السيادة والنفوذ والاستعلاء في الأرض بين الإنكليز
وأبناء عمهم الألمان، وسائر الدول تبع لهما في عللها ومعلولاتها، ومقدماتها
ونتيجتها.
دع البحث في المقدمات فقد انتهى أمرها، وسيحكم التاريخ حكمه العادل فيها،
وأما النتيجة فيه أن السيادة العليا في الغرب والشرق ستكون لإنكلترة، أو لألمانية
لا محالة ويكون أحلافهما تبعًا لهما فتكون لإنكلترا إذا فازت هي وأحلافها بالنصر
التام؛ لأنهم لن ينالوا ذلك إلا بها، ولا تنتهي الحرب إلا وقد انتهكت قواهن من
دونها، واستحدثت هي من القوة فوق ما كان لها إذ شرعت بتأليف قوة برية لم يكن
لها مثلها في قوت من الأوقات، كما أنها تزيد الأسطول قوةً على قوة، وحينئذ
تكون أعظم الدول ربحًا، وأقلهن خسارةً، وإذا كان من بواكر هذا الربح مصر ,
وقبرص , والبصرة , ومعظم مستعمرات ألمانية في إفريقية , أو جميعها كما هو
المنتظر فكيف تكون أواخره.
وأما إذا كان النصر التام الألمانية وأحلافها فقد طالما لهجت الجرائد الإنكليزية
والفرنسية، وغيرها بأن ألمانيا حينئذ تجعل أوربة كلها تحت سيطرتها، وتنتزع
منها جميع مستعمراتها، وأنها بذلك تسود العالم كله، ولعلنا نعود إلى تفصيل القول
في نتيجة الحرب على كل تقدير، بقدر ما تسمح به المراقبة الرسمية على الصحف
ونلم في ذلك بأماني الشرقيين عامةً، والمسلمين خاصةً؟