للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة السنة التاسعة

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إنا نحمدك على ما آتيت من المواهب والقوى، وأنزلت من البينات
والهدى، ونصلي على نبيك المصطفى، الذي بعثته لإصلاح جميع الورى
ونستمطر رحمتك ورضوانك على مَن صلح باتباعه واهتدى، ثم أصلح بحاله وقاله
وهدى {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا} (الكهف: ١٠)
ولا تهلكنا بما فعل أهل السرف منا والهوى، واكفنا اللهم شر من ظلم من رؤسائنا
وبغى، وفتنة من ضل من مرشدينا وغوى، وخُسْر من عصى من دهمائنا واعتدى،
واجعل اللهم لنا على نيران هذه الحوادث هُدى، ويسِّرنا بفضلك لليسرى، وانفعنا
بما أنزلت من الذكرى، وآتنا ما وعدتنا في الآخرة والأولى.
هذا ما يفتتح به المنار سنته التاسعة: تذكير ودعاء، يبعثهما أمل ورجاء،
على حين سحلت مرائر الآمال، وخويت من الرجاء قلوب الرجال، وأحاط الخطر
بالمسلمين من كل جانب، وتنازع إرث ما بقي من أرضهم الأجانب، بين سلطان
يحارب العلم وسلطان يحاربه الجهل، وأمير مفتون بالدَّثر، وأمير مغبون بالفقر،
وعالم ينافس بكسوة التشريف، وعالم يحسد على الرغيف، ومرشد يؤيد حكومة
يستغل سلطتها، ومرشد يخادع أمة يستدر غفلتها في بلاد أمات الاستبداد قلوب
كبرائها، وبلاد أفسدت الشهوات أخلاق أغنيائها، دع ذكر البلاد التي نزغ بين
زعمائها شيطان السياسة فأغراهم بالتنازع على الرياسة، والأمة من وراء هؤلاء
الكبراء تذل كل يوم وتخزى، سنة الله في القرون الأولى {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه:
١٢٨) .
نعم، إن المسلمين أمسوا كالريش في مهب رياح الحوادث، وكالغثاء في
مجرى سيول الكوارث لا رأي لخواصهم فيما يراد منهم، ولا شعور لعوامهم فيما
يراد بهم، وللأجانب يد في تصرف حكامنا في سياستنا ويد في تصريف أموالنا في
مصلحتهم دون مصلحتنا، ويد تطبع الأرواح بأخلاق وعادات تنافي آداب ملتنا،
وتودع في العقول عقائد وأفكارًا تقوَّض بناء وحدتنا، فأي شيء بقي في أيدينا من
شئون أمتنا، اللهم إنه يقل فينا من بقي له أذن تسمع وعين تبصر، وقلب يشعر
وعقل يفكر ويقل في هؤلاء القليلين مَن له إرادة تتوجه إلى عمل للأمة، وثبات فيما
يحاول من كشف الغمة، والرجاء بفضل الله تعالى محصور في هؤلاء الأقلين،
فمن يتصل بحزبهم حينًا بعد حين، والعاقبة للمتقين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ٢٤٩) ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: ١٣٢) ،
{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه:
١٣٣) .
بلى قد جاءتنا صحف الأولين، فكانت مثالاًَ لما رأينا في صحف الآخرين،
إنه لم تستيقظ أمة من نومتها، ولم تبعث دولة بعد موتتها، إلا بصيحة نفر من أولي
الألباب، ومثقفي العقول والآداب، الذين يغير الله ما في نفوس أقوامهم بما يلقيه
من الحكمة في ذلاقة ألسنتهم ونفثات أقلامهم، فيستبدلون الاعتصام بالانفصام،
والاتفاق بالشقاق، والوحدة بالفرقة، والمقة والحب، بالبغضاء والمقت، ولذلك
يشعر الأفراد بمعنى الأمة، ويعملون بالتعاون فيكونون أمة، {سُنَّتَ اللَّهِ الََّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: ٨٥) ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: ٣١) .
ما المنار إلا صحيفة أو صحف أنشئت لتأييد دعاة العلم للأمة والعمل لها سواء
منهم من دعا إلى الإصلاح قبلها ومن يدعو إليه معها , ولتكثير سواد الدعاة الذين
يتعلمون للأمة، ويعملون للأمة، ويحيون للأمة، ويموتون في سبيل الأمة، بذلك
صرحنا في فاتحة السنة الأولى وبذلك نصرح في كل سنة من السنين، مهتدين
بهدي كتاب الله المبين، وسنة خاتم النبيين والمرسلين، اللذين هما ينبوع الهداية،
واتباعهما ينبوع السعادة، من تمسك بهما نجا، ومن تركهما ضل وغوى، وخزي
في الآخرة والأولى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: ١٢٤-١٢٧) .
هذه نُذُر الكتاب المبين، لمن ترك الاعتصام بحبله المتين، يجازى بالضيق
والضنك في معيشته الأولى، وبالعذاب في الدار الأخرى، وقد قال تعالى وهو أقوم
قيلاً: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} (الإسراء:
٧٢) ؛ فالدنيا مزرعة الآخرة، وسنة الله تعالى فيهما واحدة فإذا سلكنا سبل الظلم
والإفساد، حتى زال عزنا وسلطاننا من البلاد، فلا ينجينا في الآخرة لقب الإسلام،
ولا الانتساب إلى أولئك السلف الكرام، أَمَا سمع المغرور حديث الصحيحين: (يا
فاطمة بنت محمد سَلِيني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفى} (النجم: ٣٦-٤١) .
القرآن حجة على شعوب المسلمين في هذا العصر، بما أصابهم وأصاب
دولهم من الخُسْر، الذي جنبه الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر، وبأخذ الأمم والدول إياهم أخذًا وبيلاً {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: ١٤١) .
نعم، إن المؤمن يبتلى ويفتن، ولكنه لا يهن ولا يحزن، بل يصبر حتى
تكون العاقبة للمتقين {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل
عمران: ١٣٩) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} (الحج: ١١) فما انتفع المغرورون بهذه الذكرى، ولا اتبعوا هذه الهداية
العليا {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى * أَمْ
لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} (النجم: ٢٣-٢٥) .
نعق به ناعق أئمة الجور، ونصير الاستبداد والظلم أن لا نجاة لكم من
البلاء الذي أصابكم، ولا أمن لكم من الخطر الذي يوشك أن ينزل بكم، إلا بفناء
إرادتكم في إرادة حكامكم، لا بتغيير ما في أنفسكم من أوهام وخرافات، وأخلاق
ذميمة وعادات، ولا بتربية العقل والإرادة على الاستقلال، والتعاون على البر
والتقوى والاشتراك في الأعمال، ولا بجعل الشورى قاعدة الأحكام، وإقامة
الشريعة في الحلال والحرام، ولا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وصاح بهم خطيب فتنة الوطنية أن لا حياة لكم
بالرابطة الملّية، لأنها ممقوتة في نظر أهل المدنية الغربية، الذين سادوا بترك
العصبية الدينية، فعلى أهل كل قطر إسلامي أن يعتزوا بسكان بلادهم الأولين، ولا
يحبوا من هاجر إليهم من المؤمنين، فضلاً عن إيثارهم كما فعل الأنصار مع
المهاجرين، فما اعتز به المسلمون الأولون من آداب القرآن قد نسخته مدنية أوربا
في هذا الزمان، فالوطنيةَ الوطنيةَ , الزموها تكونوا من الفائزين، والدخلاءَ
الدخلاءَ , احذروهم وإن خدموا الأمة والدين، إن يبغون بدعوة الوطنية إلا العصبية
الجاهلية والهوى، وكثرة العرض والغنى، والزلفى عند أهل المراتب العليا،
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (النجم: ٢٩-٣٠) .
اختلفت عليكم الدعوة أيها المسلمون، وكل حزب بما لديهم فرحون {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: ٢٤) فله
وحده دعوة الحق، وما خالفها فهو باطل أو فسق {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ
تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} (الشعراء:
١٥٠-١٥٢) . ها نحن أولاء قد خرجنا عن استقلالنا الاجتماعي زمنًا طويلاً،
أطعنا فيه ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، وأخذنا الأجانب من ناحية سلطتهم أخذًا
وبيلاً، فما أغنت عنا ذلة العبودية لهم فتيلاً، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلى
رَبِّهِ سَبِيلاً} (الإِنسان: ٢٩) ولا سبيل إليه إلا باتباع هدايته، والسير على
سنته في خليقته {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: ٨٤) ] وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى*
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [ (الليل:١-١٠) .
فعليكم أيها المسلمون وقد أعوزت النجاة واختلفت دعوة الدعاة، أن تجيبوا
داعي الله، وتكونوا من حزب من أعطى العفو من ماله لإعلاء كلمة الله ومواساة
عياله، واتقى أسباب الفتن والمحن، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وصدق
بالشريعة الحسنى، والخليقة الفضلى، تصديق إذعان، يتبعه العمل بالجَنان
والأركان، والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، فإذا فعلتم ذلك يسر الله
لكم خط النجاح لليُسرى، وأقامكم على طريق الفطرة المثلى، وأعزكم في هذه الدنيا،
ولكم في الآخرة الجزاء الأوفى، ولا تكونوا ممن بخل بفضل نعمته، واستغنى
بالتعزز بماله عن الاعتزاز بأمته وملته، وكذب في نفسه بأن الشرعة الحسنى،
والخليقة الفضلى هي طريق السعادة الكبرى، فإن الله تعالى لا ييسر له بمقتضى
سنته إلا عُسرى الخطتين، وسوءَى الطريقتين، فيكون شقيًّا بماله، مضطربًا في
حاله، مبغضًا إلى قومه وآله، لا فرق في هذه السنة بين الشخص والأمة،
والأمر في الشعوب أظهر لمن يرى، فما رزئ شعب بهذه الثلاثة إلا وقع في
مهاوي الردى {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ
وَالأُولَى} (الليل: ١١-١٣) .
هذا ضرب من ضروب هداية القرآن، الذي دعا إلى جميع الأصول التي فيها
سعادة الإنسان فجعل البرهان العقلي أساس العقائد، وأقام بناء الآداب والأحكام على
قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وأرشد إلى ما لشئون البشر الاجتماعية من
السنن الثابتة أو النواميس الطبيعية، وأثبت أن الدين القيم الذي جاء به الإسلام هو
إقامة سنن فطرته التي فطر عليها الأنام، فالإسلام عبارة عن إصلاح العقول
بالعقائد اليقينية، وإصلاح النفوس بالأخلاق المَرضية، وإصلاح شؤون البشر
الاجتماعية، بإقامة العدل والسير على السنن الكونية، فمن أقام هذه الأركان كلها
كان هو المسلم الكامل وإن سمي ملحدًا أو دهريًّا، ومن هدمها كلها كان ملحدًا في
آيات الله وإن سمى نفسه مسلمًا حنيفيًّا، ومن كان أقرب إليها كان حظه من السعادة
بمقدار سهمه منها، ومتى تنازع شعبان أو أمتان، كان الظفر لمن كان أقرب من
هذه الأركان، وهو الأقرب إلى هداية القرآن {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (الكهف: ٥٩) ، {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن: ١٦-١٧) ، {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى:
٩-١٠) ، أما حزب الشيطان، وأنصار الظلم والعدوان، فسيقولون: إن هذه
الدعوة إلى هداية القرآن، هي اجتهاد أُقفل بابه في هذا الزمان، والداعي إليها عدو
مبين لأهل الإيمان، وما علينا إلا تقليد شيوخنا أهل الفقه والعرفان، ومن هؤلاء
من يُلقي تبعة هلاك المسلمين وضياع الإسلام، على عواتق أهل السلطة المتغلبين
على الأحكام، ومنهم من يوجب الخضوع لكل ذي سلطان، وإن نسخ باستبداده
القرآن، وطغى بظلمه في الميزان، ومنهم من يحيل على القضاء والقدر، ومنهم
من يقول: ليس لها إلا المهدي المنتظر، ومن ورائهم قوم آخرون مرقوا من الدين،
أنكروا التقليد ولم يعرفوا الحق اليقين، يقولون: لا رجاء للمسلمين بحياة ملية،
ولا أمل بإقامة حكومة إسلامية، فإذا لم يحيوا حياة وطنية فلا حياة لهم، وإذا لم
يتبعوا خطوات أوربا فلا مدنية لهم، كل هذا وذاك مما ينادي به المسلمون
الجغرافيون أو السياسيون، ولهم شهوات من دون ذلك هم لها عاملون، ولم نَرَ
دعوة من هذه الدعوات أنكرها الرؤساء الرسميون، والأمراء المستبدون، إلا دعوة
هذه الأمة، إلى الاهتداء بالكتاب والسنة، فلقد قاوموا المنار، وآذوا الأهل
والأنصار، ودمروا على الدار، واحتووا الكتب والأسفار، وراقبوا الشيخ في عقر
الدار، حتى اختار الله له دار القرار، وصادرونا في الوقف وتصدَّوا للعقار،
وهنالك العالم الآثم، يمد بغيه الحاكم الظالم.
هذا وقد كان لبلاد الحرية أصبع فيما كان في بلاد العبودية، بعد استفتاء
وائتمار، بشأن الإخراج من الديار، فكان نجاح المئبر، بديلاًَ من خذلان المئمر،
وطعن أشهر جرائد المسلمين اليومية، إيماءً إلى تلك المقاصد الخفية أو الجلية،
وما زادنا ذلك إلا رجاءً بالله، وانتظارًا لروح الله، مع العجز والتقصير، وفقد
العون والنصير، فوعده تعالى هو الحق، وما جاء به رسوله هو الصدق،
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: ١-٢) ، {قُلْ كُلٌّ
مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} (طه:
١٣٥) .
... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا