الاستقلال ما الاستقلال، وما أدراك ما الاستقلال؟ الاستقلال كلمة تدور في هذه الأيام على ألسنة الشعوب والأقوام، فيظن أنها مما يشترك في فهم كنهه الخواص والعوام، وما الظن إلا من بعض الآثام. الاستقلال كلمة من كلم السياسة، وهي من أسماء الأجناس المنقسمة إلى أنواع، كالاستقلال السياسي، والاستقلال الإداري، والاستقلال الاقتصادي، وكان يظن أن إطلاق لفظ الاستقلال أو وصفه بالتام يشمل جميع أنواع هذا المسمى بحيث يكون الشعب الذي يطلبه لنفسه وتعترف به الدول حرًّا في جميع أنواع التصرف في حكومته، لا فرق بينه وبين الدول الكبرى كإنكلترة وفرنسة أو الصغرى كسويسرا والبرتغال، وقد كانت الدولة العثمانية من الدول الكبرى المعترف لها بالاستقلال التام المطلق ولكنا رأيناها عاجزة عن زيادة ضريبة المكس والجمرك على ما يرد من صادرات الممالك الأجنبية، وعاجزة عن تنفيذ قانون وضعته للمواد الكحولية، أقره مجلس الأمة وصدرت به الإرادة السنية، ذلك بأن الدول الكبرى عارضت في هذا وذاك، وما فتح للدول باب الافتيات عليها إلا تلك الامتيازات التي كان أصلها منحةً من القوي للضعيف وعطفًا عليه وتساهلاً في معاملته عملاً بهداية الشرع الإسلامي، ورأينا في أثناء هذه الحرب تصرفًا أغرب من هذا. ذلك التصرف الذي قام به دول الأحلاف في بلاد اليونان المستقلة، تم الاستقلال باعترافهم حتى أفضى إلى خلع ملكهم وإخراجه من بلادهم، وحجتهم في ذلك أنه خالف دستور البلاد وهم ضامنون له. ما كل من يلوك كلمة الاستقلال بفمه أو يرسمها بقلمه بين كلمه فهو مدرك لمعناها عند أهلها. وما كل من يدعي أنه يطلب الاستقلال لقوم فهو مخلص لهم ساع لخيرهم، بل رُب ساعٍ لاستقلال قوم في الظاهر، وهو إنما سعى لاستعبادهم، سواء كان منهم أو أجنبيًّا عنهم، من كان في شك من ذلك فليعتبر بما نقلته إلينا البرقيات والصحف عن سياسة أوربة في أثناء هذه الحرب من وضع هذه الكلمة في موضعها أو تحريفها عنه. قال رئيس الوزارة لإيطالية في خطاب ألقاه في مجلس الشيوخ عند البحث في مسألة احتلال الجرمان للبلاد الروسية، والبحث معها في الصلح على قاعدة (استقلال الشعوب كلها، وعدم الضم والغرم) ونقلته الجرائد المصرية في أوائل يناير (ك٢) ١٩١٨ ما ترجمته بالعربية: (إن دولتي الوسط أعلنتا أنهما لا ينويان إزالة الاستقلال السياسي من البلاد التي احتلَّاها. فكلمة (الاستقلال السياسي) لا تنفي أي اعتداء على الاستقلال الآخر كالاستقلال الاقتصادي مثلاً ولا تضمن أيضًا عودة المملكة المستقلة إلى جميع أراضيها كاملةً. أضف إلى ما تقدم أن كلمة (استقلال الشعوب) كلمة مهمة لا تزينها الشكوك وما تضمره دول الوسط من المطامع، فإنهما تقولان أنهما لا تريدان ضمًّا بالقوة، ومفهوم ذلك أنهما تريدان ضمًّا بغير القوة، فمتى يمكن إذًا وصف الضم بالقوة؟ الجواب من ذلك أن الأمر معلق على وجود القوة وعلى شكل الخيار الذي يعرض على الشعوب الموجودة تحت نير الغازين) اهـ المراد منه. ونزيد عليه أن الوزير صرح بأن الشعب الذي يراد استفتاؤه في أمره وحكم نفسه لا يعتمد على رأيه إلا بعد سحب القوة الأجنبية المحتلة لبلاده. وكما يتلاعب السياسيون بلفظ الاستقلال تفسيرًا أو تأويلاً واستنباطًا من العوامل والنعرات والقيود التي يجرونها عليه، يتلاعبون أيضًا بما يقابله من ألفاظ الضم والفتح والحماية والرعاية والاحتلال الموقت وغير الموقت، والمساعدة. ولمَّا اقترح أحرار الروس وجوب بناء عقد الصلح على قاعدة استقلال جميع الشعوب الكبيرة والصغيرة وعدم الضم والغرامة، أي عدم ضم أي دولة بنفسها شعبًا من بلاد غيرها، ودول التحالف الجرماني يومئذ في أوج مجدها - استحسنت حكومة الولايات المتحدة وكذا دول الحلفاء هذه القاعدة، وطفقوا يتباحثون فيها. إلا أن مستر سكويث رئيس الوزارة البريطانية قال: مستر لويد جورج بين أن لضم البلاد في معجم (قاموس) السياسة أربعة معانٍ: (١) ضم بعض البلدان لتحرير الشعوب الراسفة في قيود الظلم وأغلال الاستبداد وهو أمر مشروع، وعدَّه من أغراض القتال لهم. (٢) ضم البلاد التي تحتوي على أجناس فُصلت عن أصولها بإرجاع الفرع إلى أصله. (٣) الضم لأجل الاحتفاظ بمواقع حربية تكون ضرورية للدفاع لا للهجوم. (٤) الضم بمعنى فتح البلدان للتوسع والتبسط للسؤدد السياسي والربح الاقتصادي، وقال: إن هذا الأخير وحده لا يلقى شيئًا من التأييد في بريطانيا ولا بين الحلفاء. ونقول: إن هذا الأمر لا يعرف إلا بالنية؛ إذ لا يدعيه أحد في هذا العصر، بل كل من حاول أخذ شيء من أرض غيره يدعي حسن النية فيه ويحاول تعليقه على أحد الثلاثة الأولى من معانيه وهو ما أنكره رئيس الوزارة الإيطالية على ألمانية والنمسة فيما أشرنا إليه من خطبته آنفًا. ومتى كانت السياسة من الأمور التعبدية ومقامات الصوفية حتى يحكم فيها أو عليها بحسن النية؟ كلا! إنها تأويلات السياسة التي تجعل الحرام حلالاً، والحلال حرامًا (يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا) فمن تدبر كلام الوزيرين الايطالي والبريطاني يظهر له أنه لا ينبغي للعاقل البصير أن يغتر بظاهر كلام السياسيين إذا أطلقوا كلمة (الاستقلال) أو الحرية و (تحرير الشعوب والأمم) فيظن أنها تنافي ما يقابلها، أو يضادها من الاستعباد أو لاستعمار، أو الضم باسم الحماية، أو الرعاية، أو المساعدة الموقتة أو المطلقة، فإن المتكلم يستعمل عندهم استعمالات مجازية، ويختلف معناها حتى بما لا يمكن اطلاع أحد عليه وهو النية، فإن قيل لهم: إن الأصل في الألفاظ المطلقة أن تحمل على معانيها الحقيقية تفصوا من ذلك بصرف اللفظ عن حقيقته بالقرائن اللفظية، أوالمعنوية. فإذا طلب شعب من الشعوب من مؤتمر الصلح الاعتراف باستقلاله مع مساعدة بعض الدول له على النهوض بشؤون استقلاله، كان ذلك عندهم دليلاً على أنه يطلب استقلالاً مجازيًّا، أي: تصرفًا ناقصًا مقرونًا بمساعدة أجنبية من شأنه أن يأول إلى الاستقلال التام الحقيقي الذي هو عبارة عن نهوضه بأمر حكومته وحده على حد {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف: ٣٦) أي عنبًا يأول أمره إلى أن يكون خمرًا إذا هو لم يفسد فيستحيل خلاًّ. فإذًا يجب أن يقيد الطلب الذي يراد به الحقيقة بوصف الاستقلال بالتام المطلق الناجز. وبعدم شيء ينافيه ويُعد قرينة على مجازيته، وأن يصرح الشعب الطالب بأن لا يقبل أن يكون لدولة من الدول صفة رسمية لا قولية ولا فعلية ولا امتياز في بلاده، وأن يكون أمر أمته بيدها وحكمها نيابيًّا لا يعتد فيه إلا بما يقرره مجلس نوابه فيها. بهذا البيان يظهر لغير المتمرس بالسياسة ما يراه من التناقض أو التعارض في الاتفاق الفرنسي البريطاني على بلاد الشعوب العثمانية غير التركية، كبلادنا العربية المعبر عنه باتفاق سنة ١٩١٦ الذي أعلنه بباريس السير مارك سايكس باسم الحكومة الإنكليزية، والمسيو غو باسم الحكومة الفرنسية في أواخر ديسمبر (ك١) من تلك السنة ثم أعلنته الحكومتان رسميًّا في ٨ نوفمبر (ت٢) من السنة الماضية فقد صرح ممثل إنكلترة بباريس (بأنه لا يعقل أن يستقل الحجاز وتبقى سورية غير مستقلة، وصرح عقيبه ممثل فرنسة في خطبته بأن الدولتين متفقتان على تحرير الشعوب غير التركية من النير التركي في آسية الصغرى مهما كانت هذه الشعوب وأجناسها وتهيئتها لمستقبل أحسن من ماضيها، وللسير بها في طريق الاستقلال بالحكم وفي سبيل الحضارة مع احترام العقائد الدينية وحقوق الوطنيات، وستعمل كل من الدولتين في منطقة نفوذها، وسيكون الدور الذي تمثله فرنسة وإنكلترة دور دليل لتحسين حالة المستقبل ودور حكم بين الجماعات الدينية والجنسية والأولى مستعدة بهذا الدور في الشمال والثانية في الجنوب) اهـ. فعلم من هذا التصريح أن التحرير الذي يقولونه هو تحرير مقيد بكونه خاصًّا بإزالة سلطة الترك لا مطلق. وأن الاستقلال الذي وعدوا به عبارة عن قيادة البلاد في طريق الاستقلال، لا الاستقلال الحقيقي الناجز، ونستغني بهذا عن شرح البلاغ الذي نشر في ٨ نوفمبر، والجمع بين ما فيه من تعارض بين إعطاء أهل البلاد السورية والعراقية حق الاختيار لشكل حكومتهم، وبين ضمان الدولتين للجميع قضاءً عادلاً واحدًا، ومساعدة الحكومات والمصالح الأهلية على الأمور العلمية والاقتصادية، وإزالة الخلاف والتفرق من بينهم، فإن هذا لا يكون إلا بتوليهما إدارة البلاد. هذا وإنما ذكر لفظ (الاختيار) في البلاغ لتطبيقه على قواعد الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة التي وضعها لصلح الأمم، فإنه صرح بأنه يجب استفتاء كل شعب في أمره، وأن لا تحكم بلاده إلا بما يختاره لها، وأنه ليس لدولة من الدول حق تمتاز به في بلاد غيرها بدعوى المصالح السياسية والأدبية، أو الاقتصادية، ولا بأية دعوة أخرى، وبأنه يجب تأسيس عصبة من الأمم تضمن تنفيذ شروط الصلح ودوام السلم، وحقوق الأمم المستضعفة، وتقوم بما يلزم لها من المساعدة. وقد قرأنا أخيرًا في البرقيات والجرائد الباريسية تصريحًا لرئيس الوزارة الفرنسية بأن مسألة الولايات العثمانية العربية وغيرها ستعرض على مؤتمر الصلح فيكون حكمه فيها هو الفصل، وأن وفاق سنة ١٩١٦ كان وفاقًا موقتًا والحالة الحاضرة فيه موقتة أيضًا. وقد كتب هذا الرئيس كتابًا بهذا المعنى نشر في العدد ١٢٠ من جريدة (المستقبل) التي تصدر في باريس بالعربية لخدمة الحكومة الفرنسية. بعد هذا كله نعجب لبقاء بعض السوريين مختلفين في أمر مستقبل بلادهم، وزعم بعضهم أن وفاق سنة ١٩١٦ كالقضاء الإلهي المنزل، لا يتحول ولا يتزلزل، فيجب إظهار الرضا به والسبق إلى نيل الزلفى عند الحكومة التي فوض إليها أمرهم بزعمهم، ومن مقاومة آخرين لهؤلاء بطلب تفويض أمر تنظيم البلاد إلى دولة أخرى غير الدولة التي يزعم أولئك أنها صارت أو ستصير مالكة أمرهم، وقصارى ذلك التنازع والتفاضل بين دولتين، بحجة ارتكاب أخف الضررين، وما أغنانا عن كل منهما، فكيف نتخير فيهما؟ وأعجب من هذا أن كل فريق يزعم أنه يطلب الاستقلال والخير لوطنه في الحال والاستقبال ولا شك في أن فيهم المخلصين وغير المخلصين. ويسرنا أن السواد الأعظم من أهل البلاد لا يرضى لنفسه إلا الاستقلال التام الناجز، والحرية الكاملة الناجزة لا مجرد الإطلاق من قيد سلطة ضعيفة عاجزة لتحل محلها دولة قادرة، وإنما كان بعضهم يغش أو يغلط فقيَّد رغبته بقيود يحسبها نافعةً غير ضارة، ولكن الأمر قد انكشف وظهر فلا يخفى إلا على أكمه لا يبصر القمر !! وشرط صحة إقرار العلم: الاختبار. فالواجب الآن أن يكسر المقيد قيده الذي تقيد به قبل العلم بأن أمره بيده وحرية القول والكتابة في الإقرار والتوكيل والإنابة. ذلك بأن يستأنف زعماء البلاد بطريقة منظمة التوقيع على طلب الاستقلال التام المطلق، وجعل حكومة البلاد نيابيةً (ديمقراطيةً) تبني أحكامها على أساس العدل والمساواة وحفظ حقوق الفئات القليلة العدد من أهل البلاد، وأن يضمن لها ذلك جمعية الأمم لا دولة من الدول وأن يرفع ذلك بالبرق والبريد إلى مؤتمر الصلح وإلى الرئيس ولسن، وأن ينيب هؤلاء الزعماء الذين يسعون لذلك واحدًا من كل ولاية يمثلون الطوائف من الملل المختلفة، وإرسالهم إلى مؤتمر الصلح بطلب هذا الاستقلال. يا أبناء وطني الأعزاء: قد أجمعت الدول الكبرى على جعل استقلال الشعوب من قواعد صلح الأمم، وعلى تفويض أمر الولايات إليها فلا تستطيع دولة منها أخذ شيء من بلادنا إلا بقرار منا، فالويل والشقاء الملازم لأمة تبخع نفسها، وتُنحر مختارةً بيدها، مخدوعةً بأن تنال بذلك مساعدةً تحيا بها، وأعيذكم بالله من هذه العاقبة وأسأله لكم حسن الخاتمة.