الموضع الرابع عشر افتتان آل البيت بالغلاة فيهم أشار الناقد إلى قولنا في حاشية ص٤٣ من ذكرى المولد بعد الثناء على آل البيت النبوي العلوي: وإن فتن الكثيرون منهم بغلاة المحبين، فكانت فتنتهم لهم أعم وأدوم من فتنة الأمراء الظالمين؛ إذ كان من أثرها في ذريتهم أن ترك أكثرهم العلم والأعمال النافعة استغناءً عنهما بشرف النسب غافلاً عن قول جدهم علي المرتضى- كرم الله وجهه -: (قيمة كل امرئ ما يحسنه) إلخ، وقال: (ولعل المناسب: وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه وترك العلم والأعمال النافعة غافلاً عن قول جده علي، إلخ؛ لأن إثبات الفتنة للأكثرية ينافي آية التطهير كما لا يخفى) . ونقول في الجواب: إننا لم نثبت الفتنة للأكثرين منهم، بل للكثيرين، وإنما ذكرنا أن أكثر ذريتهم - أي: المتأخرين منهم - تركوا العلوم والأعمال النافعة للأمة استغناءً عنهما بشرف النسب، وهذا أمر مشاهد معروف في الأقطار كلها؛ فإنك قلَّما تعد في بطن من بطونهم المشهورة المعظمة بنسبها علماءً محققين يؤخذ عنهم العلم والدين، أو رؤساء جمعيات ومصالح يرجع الناس إليهم في أمور دينهم ودنياهم، فإذا كان هذا هوالواقع فهو حجة على أن الآية الكريمة ليست بالمعنى الذي يقول به الناقد، وإن لم يكن هو الواقع فليرده بسرد أسماء العلماء الأعلام منهم في الحجاز واليمن وسائر البلاد العربية والعجمية، وبيان نسبتهم العددية إلى الجاهلين المثبتة أنهم هم الأكثرون عددًا، وقد عُلم مما أوردناه في تفسير الآية من الجزء الماضي أن الآية في أفق غير أفق هذه المسألة. فالتحقيق أن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: ٣٣) إلخ، تعليل لما قبله من الأوامر والنواهي التي خوطب بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وما قرنت به من الوعد بمضاعفة الأجر على الطاعة والوعيد بمضاعفة العذاب على المعصية، أي إن الله تعالى لا يريد بذلك إعناتكم والتضييق عليكم يا أهل البيت، وإنما يريد به إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم بحملكم على امتثال ما أمركم به والانتهاء عما نهاكم عنه، فهو كقوله تعالى في تعليل الأمر بالوضوء والغسل والتيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: ٦) . خاتمة النقد في العترة والسنة أشار الناقد إلى ما ذكرناه في تلك الحاشية من اختلاف الرواية في حديث الثقلين؛ إذ فسر الثقل الثاني في بعضها بالعترة وفي بعضها بالسُّنة، وقال: يظهر للعاجز أن رواية الأبدال المذكورة على حذف مضاف، أي: حملة سنتي، فتكون مخصصةً للرواية الأولى، كما أن الأولى مخصصة للثانية، فالمعنى: حملة سنتي الذين هم من عترتي، أو عترتي حملة سنتي، وأيضًا يظهر أن المراد بالطائفة من أمته التي لا تزال ظاهرةً على الحق قوَّامة على أمر الله إلى أن تقوم الساعة: هم عترته الحاملون لسنته، والله أعلم. أقول: إن هذا الجمع بين الروايتين قوي في المعنى ضعيف في اللفظ؛ فإن حذف المضاف لا يجوز إلا حيث تدل عليه القرينة، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} (يوسف: ٨٢) وأما قوته في المعنى فظاهرة، وذلك عين ما أردناه بقولنا في أصل ذكرى المولد: (فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم تاركًا للأمة ما إن تمسكوا به لن يضلوا من بعده: كتاب الله وسنته في تبيينه، وعترته العاملين بهما من أهل بيته) وأقول الآن: إنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وقد هدم الناقد بقوله هذا جل ما كان بناه من جعل معنى هذين الحديثين وما ماثلهما عامًّا شاملاً للسلالة العلوية الفاطمية، من وُجد منها ومن يوجد إلى يوم القيامة. حتى إنني استغربت منه قوله في نقد الموضع الرابع عشر: (وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه) إلخ، بعد ما تقدم من تعصبه في المواضع السابقة لكفار قريش من أجلها، على أنه وإن أطلق ما يدل على ذلك بالإجمال، فإنه لا يعتقده إذا فكر فيه بالتفصيل، ولا نعرفه إلا محبًّا للحق وخادمًا للعلم وساعيًا إلى الإصلاح، وما ذاك إلا أثر شدة الحب، بأَولى الناس وأجدرهم بالحب. وإذا كان الصحيح عنده ما قال أخيرًا، فإنني أسأله سؤال مستفيد مخلص أن يدلني على من يعرف من أفراد هذه الطائفة التي ورد الحديث فيها من أهل هذا العصر عسى أن يكون لنا بهم من ولاء العلم والأدب وصلة القرابة والنسب، ما يعيننا على التعاون معهم على خدمة العلم والدين، والله يتولى الصالحين اهـ الرد.