للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن أحمد بن عمر أقيت


ترجمة الإمام الشاطبي
من كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج [١]

هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير
بالشاطبي، الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًا
مفسرًا، فقيهًا محدثًا، لغويًّا بيانيًّا، نظارًا ثَبْتًا، وَرِعًا صالحًا، زاهدًا سُنّيًّا، إمامًا
مطلقًا، بحّاثًا مدققًِّا، جدليًّا بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات،
وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القَدَمُ الرّاسخ والإمامة العظمى في الفنون - فقهًا
وأصولاً، وتفسيرًا وحديثًا، وعربية وغيرها - مع التحرّي والتحقيق، له
استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة
محققة، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصًا على اتباع
السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك مع تثبت تام، منحرفًا عن كل ما
ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في مسائل.
وله تآليف جليلة، مشتملة على أبحاث نفيسة، وانتقادات وتحقيقات شريفة.
قال الإمام الحفيد ابن مرزوق في حقه: إنه الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق
العلامة الصالح أبو إسحاق انتهى. وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام،
وإنما يعرف الفضل لأهله أهله.
أخذ العربية وغيرها عن أئمة، منهم الإمام المفتوح عليه في فنها ما لا مطمع
فيه لسواه، بحثًا، وحفظًا، وتوجيهًا، وابن الفخار الألبيري؛ لازمه إلى أن مات،
والإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية، أبو القاسم السبتي، شارح مقصورة حازم،
والإمام المحقق أعلم أهل وقته الشريف أبو عبد الله التلمساني، والإمام علامة
وقته بإجماع أبو عبد الله المقري، وقطب الدائرة، شيخ الجلة، الأمير الشهير،
أبو سعيد ابن لبّ، والإمام الجليل، الرحلة الخطيب، ابن مرزوق الجد، والعلامة
المحقق المدرس الأصولي أبو علي منصور بن محمد الزواوي، والعلامة المفسر
المؤلف أبو عبد الله البلنسي، والحاج العلامة الرحلة الخطيب أبو جعفر الشقوري.
وممن اجتمع معه، واستفاد منه، العالم الحافظ الفقيه أبو العباس القبَّاب، والمفتي
المحدث أبو عبد الله الحفار، وغيرهم.
اجتهد وبرع، وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في
التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم،
كالقبَّاب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبى عبد
الله بن عباد. وجرى له معهم أبحاث ومراجعات، أجلت عن ظهوره فيها، وقوة
عارضته وإمامته، منها مسألة مراعاة الخلاف في المذهب [٢] فيها له بحث عظيم،
مع الإمامين القبَّاب وابن عرفة. وله أبحاث جليلة في التصوف وغيره. وبالجملة
فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر.
ألّف تواليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات
الفوائد. منها شرحه الجليل على الخلاصة في النحو، في أسفار أربعة كبار، لم
يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم. وكتاب (الموافقات) في أصول الفقه
سماه: (عنوان التعريف بأصول التكاليف) كتاب جليل القدر جدًّا لا نظير له،
يدل على إمامته، وبعد شأوه في العلوم، سيّما علم الأصول، قال الإمام الحفيد بن
مرزوق: كتاب الموافقات المذكور، من أنبل الكتب، وهو في سفرين. وتأليف
كبير نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة، سماه (الاعتصام)
وكتاب (المجالس) شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري. فيه من الفوائد
والتحقيقات، ما لا يعلمه إلا الله. وكتاب (الإفادات والإنشادات) في كراسين، فيه
طرف وتحف، وملح أدبيات وإنشادات. وله أيضًا كتاب (عنوان الاتفاق، في علم
الاشتقاق) ، وكتاب (أصول النحو) ، وقد ذكرهما معًا في شرح الألفية. ورأيت
في موضع آخر أنه أتلف الأول في حياته وأن الثاني أتلف أيضًا. وله غيرها،
وفتاوى كثيرة.
ومن شعره لما ابتلي بالبدع:
بليت يا قوم والبلوى منوّعة ... بمن أداريه حتى كاد يرديني
دفع المضرة لا جلبًا لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني
أنشدهما تلميذه الإمام أبو يحيى ابن عاصم له مشافهة.
أخذ عنه جماعة من الأئمة كالإمامين العلامتين، أبي يحيى بن عاصم الشهير،
وأخيه القاضي المؤلف أبي بكر بن عاصم، والشيخ أبي عبد الله البياني،
وغيرهم. وتوفي يوم الثلاثاء ثامن شعبان سنة تسعين وسبعمائة ولم أقف على
مولده رحمه الله.
(فائدة) وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على الناس
عند ضعفهم وحاجتهم؛ لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما وقع
للشيخ المالقي في كتاب الورع. قال: توظيف الخراج على المسلمين من المصالح
المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه، وظهور مصلحته في بلاد الأندلس في زماننا
الآن. لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما يحتاج إليه الناس،
وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس، وإنما النظر
في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام، ثم قال أثناء كلامه:
ولعلك تقول كما قال القائل لمن أجاز شرب العصير بعد كثرة طبخه وصار رُبًّا:
أحللتها والله يا عمر. يعني هذا القائل أحللت الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ،
حتى تحل الخمر بمقالك، فإني أقول - كما قال عمر رضي الله عنه: والله لا أحل
شيئًا حرّمه الله، ولا أحرّم شيئًا أحلّه، وأن الحق أحق أن يتبع، (ومن يتعد حدود
الله فقد ظلم نفسه) .
وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفًا على أهل
الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفُتْيَا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد ابن لب،
فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه، مستندًا فيه إلى
المصلحة المرسلة، معتمدًا في ذلك إلى قيام المصلحة التي إن لم يقم بها الناس
فيعطونها من عندهم ضاعت. وقد تكلم على المسألة الإمام الغزالي في كتابه،
فاستوفى. ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور، لا نطيل
فيه.
وكتب جوابًا لبعض أصحابه في دفع الوسواس العارض في الطهارة وغيرها:
(وصلني جوابكم فيما تدفعون به الوسواس، فهذا أمر عظيم في نفسه، وأنفع شيء
فيه المشافهة، وأقرب ما أجد الآن، أن تنظروا من إخوانكم من تدلون عليه
وترضون دينه، ويعمل بصلب الفقه، ولا يكون فيه وسوسة، فتجعلونه إمامكم
على شرط أن لا تخالفوه، وإن اعتقدتم أن الفقه عندكم بخلافه، فإذا فعلتموه رجوت
لكم النفع، وأن تواظبوا على قول: (اللهم اجعل لي نفسًا مطمئنة توقن بلقائك،
وتقتنع بعطائك، وترضى بقضائك، وتخشاك حق خشيتك، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم) فإنه نافع للوسواس، كما رأيته في بعض المنقولات.
وكان يقول: لا يحصل الوثوق والتحقيق بشأن الرواية في الأكيال المنقولة
بالأسانيد، واختبرت ذلك فوجدت الأكيال مختلفة، متباينة الاختلاف، وهي ذوات
روايات، فالكيل الشرعي تقريبًا منقول عن شيوخ المذهب، يدركه كل أحد، حفنة
من البر أو غيره بكلتا اليدين مجتمعين، من ذوي يدين متوسطتين بين الصغرى
والكبرى، فالصاع منها أربع حفنات، جربته فوجدته صحيحًا. فهذا الذي ينبغي أن
يعوّل عليه؛ لأنه مبني على أصل التقريب الشرعي، والتدقيقات في الأمور غير
مطلوبة شرعًا؛ لأنها تنطُّع وتكلُّف، فهذا ما عندي.
ومن كلامه: أما من تعسف وطلب المحتملات، والغلبة بالمشكلات،
وأعرض عن الواضحات، فيخاف عليه التشبه بمن ذمه الله في قوله: {َأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آل عمران: ٧) .
وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين، ولا يرى لأحد أن ينظر في هذه
الكتب المتأخرة، كما قرره في مقدمة كتابه الموافقات، وترد عليه الكتب في ذلك
من بعض أصحابه، فيوقع له: وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف
المتأخرة، فليس ذلك مني محض رأي، ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في
كتب المتقدمين مع المتأخرين كابن بشير، وابن شاس، وابن الحاجب، ومن
بعدهم، ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه، أوصاني التحامي عن كتب
المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة ولكنها محض النصيحة، والتساهل في النقل عن
كل كتاب جاء لا يحتمله دين الله. ومثله ما إذا عمل الناس بقول ضعيف، ونقل
عن بعض الأصحاب، لا تجوز مخالفته، وذلك مشعر بالتساهل جدًّا، ونص ذلك
القول لا يوجد لأحد من العلماء فيما أعلم.
والعبارة الخشنة التي أشار إليها، كان ينقلها عن صاحبه أبي العباس القبَّاب
أنه كان يقول في ابن بشير وابن شاس: أفسدوا الفقه. وكان يقول: شأني عدم
الاعتماد على التقاييد المتأخرة. إما للجهل بمؤلفيها أو لتأخر أزمنتهم جدًّا، فلذلك
لا أعرف كثيرًا منها ولا أقتنيته، وعمدتي كتب الأقدمين المشاهير.
ولنقتصر على هذا القدر من بعض فوائده.
((يتبع بمقال تالٍ))