للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار
أسئلة من البحرين
(س٥٤ - ٥٩) من صاحب الإمضاء
الحمد لله وحده:
حضرة محترم المقام حجة الإسلام وإمام المسلمين السيد محمد رشيد رضا
رضي الله عنه وأرضاه.
سلام واحترام: يرد بجهتنا المنار ونطلع عليه، فنرى فيه من آيات الإرشاد
لسبل الرشاد , والإفصاح عن طرق الفلاح , ما يشهد بفضله وفضل صاحبه أطال
الله بقاءه في سلامة وعافية , ولا زالت آثاره في مناره ماثلة للمسترشدين
والمعتبرين , سيدي، أرجوكم الإجابة عما يأتي بأوجز ما يمكن، وإرساله ضمن
جواب إن لم ترغبوا درجه في المنار.
(١) المعراج كيف كان؟
(٢) انقضاض الكواكب وعلته الطبيعية، والتوفيق بين ذلك بين ما ورد
في سورة (قل أوحي) وسورة (والصافات) ؟
(٣) أوحي على النبي (صلى الله عليه وسلم) معنى القرآن فقط، والنبي
(صلى الله عليه وسلم) هو أعرب عن ذلك المعنى بهذه الألفاظ، وركبها هذا
التركيب، أم أوحي إليه المعنى واللفظ جميعًا.
(٤) هل يصح حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف وما معناه؟
(٥) هل من الممكن إنشاء مؤتمر إسلامي، يعود على الإسلام بفائدة في
القريب العاجل؟ وأين ينبغي أن يكون؟
(٦) ألا تستحسنون أن تقوم جماعة الدعوة والإرشاد أول مرة لفتح ناد بمكة
تسميه نادي التعارف؟
واقبلوا سلام واحترام الداعي المخلص للمنار وصاحبه.
... ... ... ... ... ... ... محمد صالح يوسف الخنجي
* * *
(الجواب عن السؤال الأول: كيف كان المعراج؟)
لا ندري كيف كان المعراج، ولا نقطع فيه بشيء، فإنه خصوصية أكرم الله
تعالى بها نبيه (صلى الله عليه وسلم) فأراه من آياته في عالم الغيب والشهادة ما لم
ير غيره من البشر , فإن في رواياته أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى يصلي
في قبره بالكثيب الأحمر ورآه في السماء السادسة , وفيها أنه رأى في السماء آدم
ونسم بنيه عن يمينه وشماله , وصلى بالأنبياء إمامًا ببيت المقدس , ورآهم في
السماء , ورأى العصاة يعذبون في صور غير صورهم التي كانوا عليها في الدنيا ,
ولم يقل أحد من المسلمين إن موسى أو آدم رفع بجسده إلى السماء , فما قولك بنسم
بني آدم كلهم , ولا أن العصاة يبعثون بأجسادهم قبل يوم القيامة , وظاهر هذا أن
تلك المرائي روحانية كما قال بعضهم أو منامية كما قال آخرون , وذكرنا الفرق
بينهما في الجزء الماضي , ومنه ما ورد في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم
تمثل له بيت المقدس وهو بمكة فوصفه لمن سأله عنه من المنكرين.
وقد أورد على ما نشرناه في الجزء الماضي إشكالاً، وسئلنا عن حلهما كتابة
ومشافهة: (أحدهما) وهو قديم لو كان الإسراء والمعراج في المنام أو بالروح فقط
لما أنكرهما أهل مكة، ولما كان ذكرهما فتنة للناس , على أننا قد ذكرنا في جواب
(س٤٧) حل هذا الإشكال بالإيجاز. وأما بيانه بالتفصيل فهو أن الفتنة هي
الاختبار الذي يتميز به الإيمان اليقيني من عدمه , فالمؤمن الموقن بصدق النبي
(صلى الله عليه وسلم) في كل ما يخبر به؛ وإن كان من الأمور المخالفة للعادات
والمألوفات، فإذا قال: رأيت كذا وكذا مما هو ممكن عقلاً ممتنع عادة، ولم يبين له
أنه ذلك في اليقظة أو في المنام يتحقق الاختبار، وتظهر درجة إيمانه ويكون النبي
صادقًا في قوله: إنه رأى ذلك لأن فعل الرؤية البصرية والرؤيا المنامية واحد،
فيقال في كل منهما رأيت، والإدراك إنما هو للروح , والجسد آلة لا يتقيد بها إلا
ضعفاء الأرواح , ومن ذلك أحاديث فتاني القبر، فقد ورد أنهما يبهمان السؤال
فيقولان للميت: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم وادعى أنه رسول الله , وقد
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: ٦٠)
ووردت الروايات الصحيحة في أن هذه الآية نزلت في شأن ما رآه النبي صلى
الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج. ولفظ (الرؤيا) حقيقة فيما يرى في
المنام؛ ولذلك اضطر إلى تأويل الآية مَنْ جزموا بأن الإسراء والمعراج كانا في
اليقظة، كما اضطروا إلى تأويل رواية شريك في صحيح البخاري الدالة على أنهما
كانا في المنام أو إلى القول بالتعدد، وبعضهم قال إنها غلط. وجملة القول أن آية
الإسراء التي أوردناها آنفًا، وحديث شريك في البخاري يدلان على أن الرؤيا
المنامية هي التي كانت فتنة للناس. نعم.. إن الجمهور قد أولوا الآية، وقالوا
في الحديث ما علمت, وأما إذا قلنا: إن المعراج روحي , وأنه كان بالصفة التي
يعبر عنها الصوفية بالانسلاخ كما يأتي قريبًا، فلا وجه لاستغراب الافتتان بخبره مع
التصريح بالانسلاخ والتجرد , وإن لم يصرح به حمله الناس على أنه بالروح
والجسد وافتتنوا به. على أن افتتان بعض الناس واعتراضهم إنما ورد في شأن
الإسراء فقط؛ ولذلك قال بعضهم: إن الإسراء هو الذي كان بالجسد والروح فقط
دون المعراج، واختاره المازري في شرح مسلم.
(الإشكال الثاني) أورده عالم مشهور من القضاة في هذه الديار قال: إن
الإسراء أو المعراج الروحي لا يعد من الخوارق؛ لأن بعض الهنود الوثنيين
يميتون أجسادهم موتًا مؤقتًا، وتطوف أرواحهم في الأرض طائفة من الزمن، ثم
تعود فتتصل ببدنها، فيخبر صاحبها عما رأت في تلك السياحة الروحية , وقد كان
الإنكليز يسمعون مثل هذا عن الهنود ولا يصدقونه حتى اختبروه بأنفسهم، فأنام
هندي أو أمات نفسه أمام بعضهم، ورأوا جسده جثة لا حراك بها , وعلموا منه أن
روحه تقصد بلدًا معينًا، فلما عاد إلى حياته المعتادة أخبر بأن روحه جاءت ذلك
البلد ورأت فيه كذا وكذا. فاستخبر أولئك المختبرون بعض معارفهم في ذلك البلد
عما وقع فيها في تلك المدة، فوافق الجواب ما قاله الهندي.
والجواب عن هذا على تقدير صحة الرواية من وجوه:
(أحدها) أن الإسراء والمعراج ليسا من المعجزات التي تحدى بها النبي
صلى الله عليه وسلم للاستدلال على نبوته؛ لأن الاستدلال إنما يكون بما يدركه
المنكرون بحواسهم ولا يشكون فيه.
(ثانيها) يكفي في تسمية الخارقة معجزة أن يعجز الناس عنها، وإن أتوا
بشيء من نوعها ولا سيما إذا كان ما أتوا به دونها , فإبراء الأرمد كإبراء الأعمى،
ولا إبراء المزكوم كإبراء المسلول , والروح التي تنسلخ من بدنها فتطوف في بقاع
محدودة من الأرض وترى بعض المحسوسات فيها فقط , لا يقاس عملها بعمل
الروح التي تطوف ما شاء الله أن تطوف في الأرض، وترى فيها أرواح الأنبياء
والملائكة ثم تعرج إلى السماء وترى ما ترى من آيات الله الكبرى كالجنة والنار،
وتسمع وحي الله تعالى في الملأ الأعلى.
(ثالثها) أن المتكلمين يقولون: إن خوارق العادات تكون لغير الأنبياء،
وتختلف أسماؤها باختلاف أحوال من تكون لهم، فتكون إرهاصًا ومعجزة وكرامة
للأنبياء، الأول قبل البعثة والثاني بعدها مع التحدي والثالث بدونه. وكرامة فقط
للأولياء، ومعونة لمن دونهم من الصالحين، واستدراجًا للفساق والكفار , وفي
كلامهم هذا مجال للأنظار.
(رابعها) أن الخوارق التي ذكروا لها هذه الأقسام، إنما جنسها المنطقي هو
الأمر المخالف للمعتاد بين جماهير الناس بحسب الأسباب العامة المعروفة التي تنشأ
عنها أعمالهم , ولا ينافي ذلك عند المتكلمين أن تصدر الخارقة عن كثيرين؛ ولذلك
جوزوا أن تكون معجزة النبي كرامة لكثير من الأولياء، وذكروا وقائع في ذلك منها
إبراء المرضى وإحياء الموتى والمكاشفات التي لا تحصى , وجوزوا أيضًا أن
تصدر الخارقة عن كل أحد، وميزوا بينها بالأسماء التي سمعت. ومن الناس من
يرد هذا ولا يقول به، فقد قال الشيخ محي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر في
عصره: إن الخارقة لا تتعدد، فإن ما يتعدد لا يكون خارقًا للعادة , وهذا هو
المعقول لا من حيث تطبيقه على معنى الخارقة فقط، بل يقال أيضًا: إن ما يتكرر
لا بد أن يكون له سبب معروف وطريقة توصل إليه، كما توصل طريقة الصوفية
سالكيها إلى ما يذكرون من الكرامات التي صارت عادة تتكرر لأصحابها، وإن
كانت مخالفة للعادات التي عليها غيرهم , فالكشف مثلاً معتاد من صنف الأولياء،
وإنما هو خارق للعادة عند جمهور الناس , وسببه الرياضات الروحية , ولأصحاب
الرياضات البدنية أعمال معتادة بينهم خارقة للعادة عند غيرهم؛ كالمشي على
الحبال وتعلقهم بها من أرجلهم، وإلقاء أنفسهم من الأماكن المرتفعة، وما هو أغرب
من هذا.
هذا، وإن الانسلاخ الذي ذكر عند الهنود وطواف الأرواح وحدها أو بأجساد
من الأثير تشبه الأجساد المركبة، مما نعلم منقول عن صوفية المسلمين، وللشيخ
محيي الدين ابن عربي وقائع كثيرة فيه مذكورة في فتوحاته وفي غيرها، ويذكرون
لأنفسهم معارج روحية , ويقول محي الدين: إن النبي (صلى الله عليه وسلم)
عرج به إلى السماء ٣٠ مرة. والله أعلم.
وإننا نورد هنا ما قاله ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) في
الإسراء والمعراج على طريقة الصوفية؛ لتعرف المذاهب والآراء المشهورة فيهما
كلها، وهذا نصه: وأسري به إلى المسجد الأقصى ثم إلى سدرة المنتهى وإلى ما
شاء الله، وكل ذلك لجسده صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ولكن ذلك في موطن
هو برزخ بين المثال والشهادة جامع لأحكامهما، فظهر على الجسد أحكام الروح،
وتمثل الروح والمعاني الروحية أجساد؛ ولذلك بان لكل واقعة من تلك الوقائع تعبير،
وقد ظهر لحزقيل وموسى وغيرهما عليهما السلام نحو من تلك الوقائع، وكذلك
لأولياء الأمة؛ ليكون علو درجاتهم عند الله كحالهم في الرؤيا والله أعلم.
أما شق الصدر وملؤه إيمانًا، فحقيقته غلبة أنوار الملكية وانطفاء لهب الطبيعة
وخضوعها لما يفيض عليها من عالم القدس. وأما ركوبه على البراق فحقيقته
استواء نفسه النطقية على نسمته التي هي الكمال الحيواني، فاستوى راكبًا على
البراق كما غلبت أحكام نفسه النطفية على البهيمية وتسلطت عليها. وأما إسراؤه
إلى المسجد الأقصى؛ فلأنه محل ظهور شعائر الله، ومتعلق همم الملأ الأعلى،
ومطمح أنظار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه كوة إلى الملكوت. وأما ملاقاته
مع الأنبياء صلوات الله عليهم ومفاخرته معهم، فحقيقتها اجتماعهم من حيث
ارتباطهم بحظيرة القدس، وظهور ما اختص به من بينهم من وجوه الكمال.
وأما رقيه إلى السماوات سماء بعد سماء، فحقيقته الانسلاخ إلى مستوى
الرحمن منزلة بعد منزلة، ومعرفة حال الملائكة الموكلة بها، ومن لحق بهم من
أفاضل البشر والتدبير الذي أوحاه الله فيها، والاختصام الذي يحصل في ملأها.
وأما بكاء موسى فليس بحسد، ولكنه مثال لفقده عموم الدعوة وبقاء كمال لم يحصله
مما هو في وجهه. وأما سدرة المنتهى فشجرة الكون، وترتب بعضها على بعض
وانجماعها في تدبير واحد؛ كانجماع الشجرة في الغاذية والنامية ونحوهما، ولم
تتمثل حيوانًا لأن التدبير الجملي الإجمالي الشبيه للسياسة الكلي أفراده، وإنما أشبه
الأشياء به الشجرة دون الحيوان؛ فإن الحيوان فيه قوى تفصيلية والإرادة فيه
أصرح من سنن الطبيعة. وأما الأنهار في أصلها فرحمة فائضة في الملكوت حذو
الشهادة وحياة وإنماء؛ فلذلك تعين هنالك بعض الأمور النافعة في الشهادة كالنيل
والفرات. وأما الأنوار التي غشيتها فتدليات إلهية , وتدبيرات رحمانية , تلعلعت
في الشهادة حينما استعدت لها. وأما البيت المعمور فحقيقته التجلي الإلهي الذي
يتوجه إليه سجدات البشر وتضرعاتها، يتمثل بيتًا على حذو ما عندهم من الكعبة
وبيت المقدس , ثم أتي بإناء من لبن وإناء من خمر فاختار اللبن، فقال جبرئيل:
هديت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك، فكان هو صلى الله عليه وسلم جامع
أمته ومنشأ ظهورهم , وكان اللبن اختيارهم الفطرة والخمر اختيارهم لذات الدنيا ,
وأمر بخمس صلوات بلسان التجوز؛ لأنها خمسون باعتبار الثواب , ثم أوضح الله
مراده تدريجًا؛ ليعلم أن الحرج مدفوع، وأن النعمة كاملة وتمثل هذا المعنى مستندًا
إلى موسى عليه السلام، فإنه أكثر الأنبياء معالجة للأمة ومعرفة بسياستها) ا. هـ
(تنبيه) ذكرت في الجزء الماضي من المنار أن حديث المعراج مضطرب،
وعنيت بهذا اضطراب المتن. وقلما يطلقون لفظ الاضطراب ويريدون به المتن.
* * *
(الجواب عن الثاني الشهب علتها وكونها رجومًا)
اختلف علماء الفلك في أصل الشهب (ويسمونها النيازك) ، وقد ذكر الطبيب
محمد توفيق أفندي صدقي بعض آرائهم فيها في مقالته التي نشرت في الجزء الثامن،
ومنهم من يقول: إن بعضها من مقذوفات براكين الأرض تحلق في الفضاء ثم
تسقط , وهذا أبعد الآراء عن الصواب، وأقرب منه أن تكون من براكين الكواكب،
ومنهم من يقول: إن أكثرها من قطع النجوم المتكسرة، وبعضها ينفصل من
الكواكب الثابتة. وكل ما قيل في ذلك من رجم الظنون , لم يصل شيء منه إلى
مرتبة اليقين , إلا أن لبعضها مدارًا يعرف بالحساب , وسبب سقوطها هو جذب
الأرض لها عند دنوها منها بدخولها في فلكها. وقد بينا من قبل أن السبب مهما كان
لا ينافي ما يترتب على سقوطها من رجم الشياطين، وتأذيهم بها، وحيلولتها بينهم
وبين الدنو من ملائكة السماء، واستراقهم السمع منهم. وقد ثبت أن الشهب كانت
كثيرة في سنة البعثة، وهي تكثر كذلك كلما دنا مدارها الذي تكثر هي فيه من
الأرض، فكان ذلك من توفيق أقدار لأقدار, والله الموفق وكل شيء عنده بمقدار.
* * *
(الجواب عن الثالث: نزول القرآن باللفظ والمعنى)
أسلوب القرآن غير أسلوب الحديث النبوي، والفرق بينهما ظاهر لا يخفى
على قارئ من أهل هذه اللغة ولا سامع , والحديث القدسي وغير القدسي في ذلك
سواء. فالقرآن معجز بأسلوبه وفحواه، لا يقدر النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا
من دونه من البشر على الإتيان بمثله. والذي نجزم به أنه كان يلقى إلى النبي
صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب والنظم، فيلقيه صلى الله عليه وسلم إلى الناس
كما ألقاه إليه الملك، حتى إنه يذكر لفظ الأمر الذي يخاطب هو به، فيقول مثلاً:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: ١) وهو المخاطب بلفظ قل وكان الظاهر في
الامتثال أن يقول ابتداء (اللَّهُ أَحَدٌ) ولكنه أمر أن يبلغ ما يلقى إليه كما هو , وإن كان
إلقاء الملك غير إلقاء البشر في كيفيته، فهو مثله في حاصله وما يدرك منه ,
وسنذكر ما ورد في ذلك في وقت آخر.
* * *
(الجواب عن الرابع: أنزل القرآن على سبعة أحرف)
الحديث رواه باللفظ الوارد في السؤال أحمد والترمذي عن حذيفة، وأشار
السيوطي في الجامع الصغير إلى تحسينه، فهو لا يصل إلى درجة الصحيح ,
وروي بلفظ آخر وبزيادة فمن قرأ على حرف منها، فلا يتحول إلى غيره رغبة
عنه، وهو عند الطبراني عن ابن مسعود , ورواه عنه أيضًا بزيادة أخرى
وحسنوهما. وروي على ثلاثة أحرف , وعلى عشرة أحرف , وكلاهما ضعيف.
وقيل: إن العدد ليس للتحديد، والمعنى على أحرف متعددة.
والمختار عندي في معنى الأحرف أنها اللغات العربية المختلفة في الأداء التي
عبر عنها عند كتابنا الآن باللهجات؛ كالهمز وعدمه والإمالة وعدمها والمد والقصر
وصفة حرف الهجاء من ترقيق وتفخيم , فقد كان هذا مما تختلف فيه العرب، حتى
يعسر على من كانت الإمالة لغة لهم أن يتركوها وهكذا غيرها من الحروف , فأذن
الله بأن يقرأ كل قوم بحرفهم الذي اعتادوه؛ لأن ذلك لا يغير شيئًا من معنى القرآن
ولا من جوهر لفظه، بل هو يتعلق بأعراض الكلم دون جوهره , ولا ينافي أنه
نزل بلغة قريش.
* * *
(الجواب عن الخامس: المؤتمر الإسلامي)
يظهر لنا أن المسلمين لما يستعدوا كما يجب لعقد مؤتمر عام؛ لأجل البحث
في مصالحهم وما يرقي شؤونهم , وقد ذكرهم بذلك العقلاء مرارًا، فلم يلقوا إليهم
سمعًا , ولا أداروا نحوهم طرفًا , ولا أمالوا عطفًا , والذي يسبق إلى ذهن كل من
يبحث في هذه المسألة أن المؤتمر يجب أن يكون في مكة المكرمة أو المدينة المنورة ,
وهذا ما سبق إلى التنبيه عليه السيد جمال الدين الأفغاني، وما كنا اقترحناه منذ
أربع عشرة سنة , ثم كونه الكواكبي أوسع تكوين في كتابه (سجل جمعية أم
القرى) ، وكلنا نعلم أن السلطان عبد الحميد ما كان ليرضى بعقد هذا المؤتمر في
الحرمين، وكذلك لا يرضى به زعماء جمعية الاتحاد والترقي الآن. وكان إسماعيل
غصبر نسكي صاحب جريدة ترجمان التي تصدر في بغجه سراي (عاصمة بلاد
القريم الروسية) اقترح عقد هذا المؤتمر بمصر من عدة سنين، فأجاب دعوته
فئة من المصريين، وجعلوا للمؤتمر قانونًا، ونشروا الدعوة إليه في جميع الأقطار،
فلم يجب دعوته أحد.
ومصر هي البلاد المتمتعة بالحرية التي يمكن أن يكون فيها المؤتمر متى تم
الاستعداد له , وتليها بلاد الهند. ونرجو أن تكون جماعة الدعوة والإرشاد هي
المعدة للمسلمين إلى عقد مثل هذا المؤتمر بعد تأسيس شعبها في جميع الأقطار ,
ويتوقف عقد المؤتمر ونجاحه على وثوق الحكومات التي تسوس المسلمين بأنه لا
عمل له إلا إحياء العلم والفضيلة , والجمع بين الدين والمدنية النزيهة , وعدم الدخول
في مآزق السياسة والتعرض لفتنها , نعم إن من حكام المسلمين من لا يرضيهم ترقي
المسلمين بدينهم كما نريد، ولكنهم لا يشتدون في مقاومة المؤتمر إذا كان هذا هو
مرادنا منه، وكنا بمعزل عن السياسة فيه.
* * *
(الجواب عن السادس: إنشاء ناد للتعارف بمكة)
إننا نستحسن اقتراح الفاضل أشد الاستحسان، ولكن إنشاء الجماعة ناديًا لها
في مكة المكرمة أو في غيرها من البلاد يتوقف على إنشاء شعبة لها هناك تكون
ضليعة بذلك، فالاقتراح يعد الآن مبتسرًا , والبسر قد يصير رطبًا فتمرًا , والرجاء
في الله (عز وجل) أن نجد في خيار المسلمين من المساعدة على عملنا هذا ما
يمهد لنا السبيل إلى ما فيه الخير لنا وللبشر أجمعين.
* * *
(المندل وخواص القرآن)
(س٦٠) ورد من جاوه إلى مكة المكرمة وأرسل إلينا منها.
ما قولكم دام فضلكم في علم المندل وخواص بعض الآيات القرآنية أو السور،
ومنها ما إذا قرأ على كف صبي دون البلوغ أو جعل وفقًا وحمله الصبي، يظهر له
في كفه أو قدامه شخص أو أشخاص على صورة الإنسان، بحيث يراه الصبي دون
غيره بعينه ويخاطبه ويسأله عما يريد، فيخبره الشخص بمقتضى سؤاله ويأمره
بأمر أراد فيه (كذا) ، وكذلك وجد في كتاب (الرحمة في الطب والحكمة) للعلامة
السيوطي، وذكر فيه لرؤية السارق عبارته فيه (لرؤية السارق يكتب على بيضة
دجاجة من أول سورة الملك إلى حسير، ثم تدهنها بالقطران وتعطيها لصبي، ثم
تقرأ سورة يس والصبي ينظر إليها، فإنه ينظر السارق، فاعرف هذا السر وصنه
عن غير أهله) اهـ. فما الحكم على هذا شرعًا، هل يجوز استعماله أم لا؟
وهل يكون من قبيل السحر أو الكهانة أو من خواص الآيات القرآنية؟ أفتونا
مأجورين يوم الدين؛ لأن هذا شيء جرب واستعمل وصح في بعض الأحيان.
(ج) خلق الإنسان ضعيفًا , ومن آيات ضعفه أنه يفتتن بكل ما لا يعرف
سببه، ويسرع إلى تصديقه قبل تمحيصه , ولا سيما إذا لون بلون الدين أو جاء من
ناحيته , أو من قبل من يعدون من علمائه.
قال علماء المنطق: إن التجربة من طرق العلم اليقيني، وإن المجربات
إحدى اليقينيات الست , ويعنون بذلك المجربات المطردة التي لا تختلف متى
استوفت شروطها؛ ككون الخبز مغذيًا والماء مرويًا، وبعض الأملاح والزيوت
مسهلاً , ونرى جماهير الناس يجربون الشيء مرة أو مرتين تجربة ناقصة،
ويجعلون له حكم المجربات المطردة، ويسلمون به وبكل ما كان من جنسه تسليمًا ,
وهذا وذاك هما سبب شيوع الخرافات في الناس , فمن فقه هذا لا يثق بكل ما قيل:
إنه جرب وصح سواه، قاله المعاصرون بألسنتهم أو الميتون في كتبهم , وإن لم
يكن أحد من الفريقين متهمًا بالكذب , فقد ينظر صبي أو كبير في المندل أو في غير
المندل كالرمل والحصا؛ لأجل الاهتداء إلى معرفة سارق أو غير سارق، فيتراءى
له شيء يذكره , أو شيخ يصفه , ثم يظهر الواقع موافقًا لذلك ولو من بعض الوجوه،
فيحفظه الناس لغرابته. وأما إذا ظهر الواقع مخالفًا لذلك وهو الأكثر، فإنهم
ينسون ما قيل، ولا يعدونه دليلاً على كون التجربة لم تثبت المندل أو الرمل طريقًا
لمعرفة بعض المغيبات.
إن التجربة إذا صحت ظاهرًا في بعض الجزئيات دون بعض، يجب البحث
عن سبب ذلك. وكان يجب أن يكون أول ما يخطر ببال العاقل أن قول صاحب
المندل أو الرمل: إن سارق كذا شاب طويل القامة واسع العينين طويل الذراعين
ونحو ذلك، قد يكون من التخيلات التي تتراءى عادة , وإن صدق الوصف جاء
بالمصادفة والاتفاق؛ لأن من يقول شيئًا من شأنه أن يقع مثله، فإن الواقع يوافقه
تارة ويخالفه تارة، ولا مقتضي لمخالفته دائمًا , وهذا الأمر المعقول هو الواقع في
مدعي معرفة بعض الغيب بالمندل والرمل وما أشبههما , يصيبون مرة ويخطئون
مرارًا , فتجربتهم لا تسفر عن إثبات صحة دعواهم لمن ينظر إلى مجموع وقائعهم
ولكن صغار العقول يكتفون بالجزئية الواحدة أو الجزئيات القليلة، ويعدونها قضايا
كلية مطردة.
ويقول بعض المتقدمين والمتأخرين: إن تجربة المتقنين للمندل وما يشبهه
صحيحة، وإن المتقن لا يكاد يخطئ إلا إذا فقد بعض شروط العمل , فإذا صح هذا
القول يكون هذا الأمر من الصناعات التي تعرف أسبابها وتتخذ لها عدتها، ولا من
الخوارق الحقيقية , ولا من الخواص المجهولة , وهذا هو الراجح. وينبغي حينئذ
البحث عن تلك الأسباب ومعرفة حقيقة هذه الصناعة التي يقل المتقن لها، حتى
يؤمن غش الأدعياء. وابن خلدون وغيره من الحكماء الذين أثبتوا أن لهذا أصلاً
صحيحًا، يقولون: إن المدار فيه على استعداد الأنفس البشرية لإدراك بعض
الأمور الغائبة بالتوجه التام إليها , وأن بعض النفوس أقوى استعدادًا لذلك من بعض،
والغلام أقوى استعدادًا له من الكبير في مثل وسيلة المندل، والعصبي المزاج
أقوى استعدادًا له من غيره ولا سيما من اللمفاوي، وإن ما ينظر فيه من الزيت أو
الماء أو الكتابة أو البيضة أو الحصا ليس مقصودًا لذاته ولا تأثير له في نفسه،
وإنما المراد منه جمع الهمة وإشغال النفس عن الخواطر بحصر توجهها في شيء
محسوس واحد؛ لتنتقل منه بعد حصرها وتوجهها فيه إلي ما تريد معرفته من ذلك
الأمر الغائب، وهذا تعليل معقول، فإذا كان المسلمون يكتبون شيئًا من القرآن
الكريم فغيرهم يكتب شيئًا آخر من كتبهم الدينية أو يكتب حروفًا مفردة لا معنى لها،
والمقصد منها اشتغال الحس، وتوجيه النفس، ومن هذا الباب ما يدركه بعض
أصحاب الأمراض العصبية من الأمور الغائبة؛ وهو يؤيد نظرية ابن خلدون
وأمثاله، وإذا كان هذا صناعة يجوز شرعًا لمن أتقنها أن ينتفع بها وينفع، وإنما
المحرم الغش الذي يفعله الدجالون الذين لا يحصى عددهم، وهو الذي قد يعد من
قبيل السحر لأنه خداع وتلبيس.
* * *
(العمل بالسياسة والقوانين)
(س٦١) جاء من أحد آل الشيبي في مكة المكرمة، وقد ورد من جاوه.
ما قولك دام فضلكم في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو
نائبه، وأمر وألزم بلده وقضاته بإجرائها وتنفيذها، هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله
لإطلاق قوله تعالى: {وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (آل عمران: ٣٢) إلخ، أم
كيف الحكم؟ أفتونا مأجورين؛ لأن هذا شيء قد عم البلدان والأقطار.
(ج) إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح
من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجب علينا أن نعمل بها؛ إذا وضعها أولو
الأمر منا وهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح والضروريات،
وإن كانت جائزة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا خلاف فيها لم تجب
الطاعة فيها؛ للإجماع على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهذا نص
حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري
وصححوه. ورواه الشيخان في صحيحيهما وأبو داود والنسائي من حديث علي
كرم الله وجهه بلفظ (لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) ولا
يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم؛
لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن، ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل
والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم، فلا يخرجوا عنه
ولو لمصلحة تطلب أو مفسدة تجتنب، ولا بغير هذا القيد.
وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم من القوانين
التي ليس فيها معصية للخالق، وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل
والعقد لأجل المصلحة لا عملاً بالآية، ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير
ما وضعه السلطان، وجب على السلطان أن ينفذ ما وضعوه دون ما وضعه هو؛ لأنهم
هم نواب الأمة، وهم الذين لهم حق انتخاب الخليفة، ولا يكون إمامًا للمسلمين إلا
بمبايعتهم، إن خالفهم وجب على الأمة تأييدهم عليه لا تأييده عليهم، وبناء على هذه
القاعدة التي لا خلاف فيها عند سلف الأمة؛ لأنها مأخوذة من نصوص القرآن الحكيم،
قال الخليفة الأول في خطبته الأولى: (وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت
فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) وله كلام آخر في تأييد هذه القاعدة، وقال الخليفة
الثالث علي المنبر أيضًا: (أمري لأمركم تبع) ، وقال الخليفة الرابع في أول
خطبة له، وكانت بعدما علمنا من الأحداث والفتن: (ولئن رد إليكم أمركم إنكم
لسعداء وأخشى أن تكونوا في فترة) وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) والفتنة التي قتل فيها عثمان لم تكن بالشورى بين أولي
الأمر، بل كانت بدسائس هاجت الرعاع، وأرز (انكمش) فيها مثله وهو إمام أولي
الأمر وأعلمهم وأعدلهم إلى كسر بيته. وما قاله بعض الفقهاء خدمة للمستبدين من
الأمراء، من وجوب طاعتهم في كل شيء خوفًا من الفتنة؛ مخالف لنص الحديث
الصحيح وللإجماع على مضمونه، ولعمل الصدر الأول؛ وهو الذي كان السبب في
إضاعة ملك المسلمين وترك العمل بشرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم،
فالخضوع للمستبدين الظالمين هو الذي مهد السبيل للخضوع للكافرين، ولأجل هذا
كان الحكام المستبدون يضطهدون العلماء المستقلين، ويرفعون رتب المعممين
المقلدين، الذين كانوا أعوانهم في كل حين، نعم.. إن مقاومة الأمة لأمراء الجور
المتغلبين؛ يجب أن يكون بالحكمة والتدبر؛ واتقاء استشراء الفتن وانتشارها والعمل
بقاعدة ارتكاب أخف الضررين.
* * *
(الفرق بين الزواج والزنا)
(س٦٢) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة الأستاذ الفاضل
السلام عليكم ورحمة الله وبعد، نطلب من حضرتكم الإجابة على سؤالنا الآتي
نشرًا في مجلة (المنار) ، ولكم منا الشكر ومن الله الأجر.
رجل لا يرغب في الزناء ولا يمكنه أن يتزوج، وليس في استطاعته أن
يعصم نفسه عن النكاح، فهل إذا اتفق مع بغي، وتزوج بها في ليلته، وعقدا عقدة
النكاح بينهما بدون واسطة وحين يصبح يطلقها، أفهل هذا يعد زناء أم لا؟
أفيدونا على ذلك ولكم الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ع. المللواني
(ج) كيف لا يعد هذا زناء؛ وهو يعلم علم اليقين أنه يأتي زانية، كانت
البارحة كما تكون غدًا في حجرة غيره، وهو لم يستبرئ رحمها، ولم يعقد عليها
عقدًا صحيحًا؛ والعقد الصحيح هو ما تعقد به رابطة الزوجية بقصد العيشة الزوجية
وأما اشتراط الشهود فيه وسنية إعلانه، فليتميز عن السفاح الذي من شأنه أن يكون
في الخفاء كالصورة التي تسأل عنها، وأنت موقن أنك لا تقصد الزوجية بالكلمات
التي سميتها عقدًا، وإنما تقصد السفاح أي الاشتراك مع البغي في سفح ماء الشهوة،
وأين أنت من قوله تعالي: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ
يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ} (النور: ٣) ، فاعتبر بهذا،
واعلم يا أخي أن الفرق الحقيقي بين الحلال والحرام والخير والشر والحق
والباطل لا يكون كلمة يلوكها اللسان، بل الفرق أمر حقيقي يعبر عنه اللسان لأجل
بيانه، فلا تغش نفسك، وتظن أنك تخادع ربك، وإذا كنت تحب أن تبقى طاهرًا
نقيًا من فتن الفاحشة فتوجه إلى ربك، وانتزع فكرة التمتع من قلبك، واشغل نفسك
عنها بما يقوي إيمانك كالصيام وذكر الله تعالى بالتدبر والحضور؛ إلى أن يهيئ الله
لك زوجًا صالحة والسلام.