اشتغالنا بانتقادها وإصلاحها: قد كان مما وفقنا الله تعالى له في أثناء الاشتغال بطلب العلم انتقاد خطباء المساجد، ودواوينهم التي يحفظون خطبها، ويقرءونها على المنابر غيبًا، أو في الأوراق المخطوطة أو المطبوعة؛ فإن كل هذه الخطب أو جلها في ذم الدنيا، والتزهيد فيها، والتذكير بالموت، ومدح الشهور والمواسم حتى المبتدعة منها، وأكثر ما فيها من الأحاديث ضعيف أو موضوع، وقد عقدت في كتاب (الحكمة الشرعية) الذي ألفته في ذلك العهد فصلاً طويلاً في الخطابة، بينت فيه حكمتها، ومنفعتها، وكيفية تحصيل ملكة الارتجال فيها، وما ينبغي أن تشتمل عليه الخطب الدينية في المساجد، وأنشأت عدة خطب خرجت فيها من المضيق الذي حبس خطباؤنا فيه أنفسهم، واخترت لأحد الخطباء أحاديث صحيحة وحسنة لديوان أنشأه عزوتها إلى مخرجيها، فكان أول خطيب سمعناه في بلادنا يلتزم الأحاديث الصحيحة والحسنة في خطبه معزوة إلى مخرجيها، على أن التزام الأحاديث في آخر الخطبة غير واجب ولا مسنون، بل هو عادة ينبغي تركها أحيانًا لئلا يظن أنها مشروعة فيكون الالتزام من البدع التي سماها صاحب الاعتصام البدع الإضافية. ثم إننا بعد إنشاء المنار نوهنا فيه بهذه المسألة مرارًا، واتفق لنا أن خطبنا في بعض المساجد خطبًا مرتجلة، مناسبة لحال عصرنا، موافقة لما كان عليه سلفنا الصالح، فكان هذا وذلك باعثًا لكثير من محبي الإصلاح على مطالبتنا بإنشاء خطب إصلاحية تُنْشَر في المنار، عسى أن يقتبسها، أو يقتبس منها الخطباء، فلم نجبهم إلى ذلك؛ لاعتقادنا أن الغرض منه لا يتم إلا إذا جاء من جانب السلطة الرسمية. مثال ذلك أننا أنشأنا خطبة في الاقتصاد في المال، وقضاء الدين اقترحها علينا الشيخ علي يوسف، وأخذها منا، ثم علمنا أنها نُشِرَت في القطر بأمر الحكومة بعد استحسان شيخ الأزهر، وإجازته. وكنا قد مهدنا السبيل إلى مثل ذلك في ديوان الأوقاف؛ ولكن علمنا أنه لا ينفذ إلا إذا اقتنع به الأمير، وأحب تنفيذه، فكنا ننتظر الفرصة لعرض ذلك عليه، وإقناعه به ولم تسنح لنا، ثم شرعنا فيما هو خير من ذلك إصلاحًا، وهو مدرسة الدعوة والإرشاد التي يتربى فيها الخطباء المرتجلون، ولا نزال نعاني في هذه السبيل من تمهيد العقبات، ومكافحة الحساد، وأعداء الإصلاح، ما نرجو أن ينتصر فيه الحق على الباطل، والإخلاص على النفاق. *** ديوان خطب المصلح القاسمي اطلعنا في هذه الأيام على ديوان خطب عالم الشام صديقنا المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي تغمده الله برحمته، وكان أُهْدِيَ إلينا مطبوعًا منذ أعوام، فلم يتح لنا التأمل فيه، فرأيناه أفضل ما نُشِر من دواوين الخطب، بخلوه من البدع والخرافات، ومن الأحاديث الواهية والموضوعات، واشتماله على الموعظة الحسنة التي يحتاج الناس إليها في جميع الأوقات، ولو كان للخطابة والتأليف حرية في بلاد الشام أيام إنشائه رحمه الله تعالى لتلك الخطب لَأودعها كثيرًا من المسائل الاجتماعية والأدبية التي اشتدت الحاجة إليها في هذا العصر، وقد رأينا أن نقتبس بعض مقدمات هذا الديوان النفيس وخطبه فيما يلي فهاكها بنصها: المقدمة الأولى في الهدي النبوي في الخطبة: قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه: كان صلوات الله عليه إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش، وكان يقصر الخطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر ويقصد الكلمات الجوامع، وكان يعلم أصحابه - في خطبته- قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة، وحضهم عليها، وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس، فإذا اجتمعوا خرج إليهم، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم، ثم يجلس ويأخذ بلال رضي الله عنه في الأذان، فإن فرغ منه قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب، وكان في الجمعة يعتمد على عصا أو قوس، وكان منبره صلوات الله عليه ثلاث درجات، وكان يأمر الناس بالدنو منه، ويأمرهم بالإنصات، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة دخل إلى منزله فصلى ركعتين، وفي رواية كان إذا صلى في المسجد صلى أربعًا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين. انتهى ملخصًا. الثانية في سنن الخطبة: قال الإمام النووي في الروضة في سنن الخطبة: منها أن تكون على منبر، والسنة أن يكون المنبر على يمين الموضع الذي يصلي فيه الإمام، ويكره المنبر الكبير الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسع الخِطة، فإن لم يكن منبر خطب على موضع مرتفع، ومنها أن يُسَلِّم على من عند المنبر إذا انتهى إليه، ومنها إذا بلغ في صعوده الدرجة التي تلي موضع القعود أقبل على الناس بوجهه، وسَلَّم عليهم، ومنها أن يجلس بعد السلام، ومنها أنه إذا جلس اشتغل المؤذن بالأذان، ويديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، ومنها أن تكون الخطبة بليغة غير مؤلفة من الكلمات المبتذلة، ولا من الكلمات الوحشية، بل قريبة من الإفهام، ومنها أن لا يطولها، ولا يمحقها، بل تكون متوسطة، ومنها أن يستدبر القبلة، ويستقبل الناس في خطبتيه، ولا يلتفت يمينًا، ولا شمالاً، ومنها أنه يُستحب أن يكون جلوسه بين الخطبتين قد سورة الإخلاص، ومنها أن يعتمد على عصا أو نحوه، ومنها أنه ينبغي للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين لا يشتغلون بشيء آخر، حتى يكره الشرب للتلذذ، ولا بأس به للعطش لا للخطيب، ولا للقوم ومنها أن يأخذ في النزول بعد الفراغ، ويأخذ المؤذن في الإقامة، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ المقيم. اهـ. الثالثة فيما يكره في الخطبة وفروع أخرى: قال الإمام النووي - رحمه الله - في الروضة، يُكْرَه في الخطبة أمور ابتدعها الجهلة، منها التفاتهم في الخطبة الثانية، والدق على درج المنبر في صعوده، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس، ومنها مبالغتهم في الإسراع في الخطبة الثانية، ويستحب إذا كان المنبر واسعًا أن يقوم على يمينه، ويُكْرَه للخطيب أن يشير بيده، ويُسْتَحب أن يختم الخطبة بقوله: أستغفر الله لي ولكم، وذكر بعضهم أن يستحب للخطيب إذا وصل المنبر أن يصلي تحية المسجد، ثم يصعد، وهو قول غريب وشاذ مردود، فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ولو أغمي على الخطيب فهل يبني غيره على خطبته، أو يستأنفها؟ قولان. اهـ. ملخصًا. ويُكْرَه أن يتخطى المصلي رقاب الناس لما فيه من سوء الأدب، والأذى، ويحرم الكلام في الخطبتين والإمام يخطب، وله الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعها، ويسن سرًّا، ويجوز تأمينه على الدعاء، ورفع الصوت قدام بعض الخطباء مكروه اتفاقًا كذا في الإقناع [١] . الرابعة (حكم تعدد الجمعة) : الحاجة في هذه البلاد في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم، ولا يمكنهم جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها إلى حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة التي لم تشيد لمثلها قد هوَّل فيه السبكي في فتاويه؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل وتسميتها جمعة؛ فإن صيغة فُعُلة في اللغة للمبالغة، وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأفواج يوم الجمعة، ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت، والتي لا تعاد الظهر بعدها، كما أشار له العلامة البجيرمي رحمه الله تعالى، وقد بسطناه في كتابنا (إصلاح المساجد من البدع والعوائد) الخامسة: ما يُسن يوم الجُمُعة: يسن تنظيف يوم الجمعة، وتطيب ولبس أحسن الثياب، وإكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليذكر الرحمة ببعثته، والفضل بهدايته، والمِنَّة باقتفاء هديه وسنته، والصلاح الأعظم برسالته، والجهاد للحق بسيرته، ومكارم الأخلاق بحكمته، وسعادة الدارين بدعوته، صلى الله عليه وعلى آله ما ذاق عارف سر شريعته، وأشرق ضياء الحق على بصيرته، فسعد في دنياه وآخرته. آمين. *** طلائع الخطب النبوية (١) إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله رواه الإمام أحمد، ومسلم، عن ابن عباس. (٢) الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونستهديه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصْ الله ورسوله فقد غوى، حتى يفيء إلى أمر الله رواه الشافعي، والبيهقي، عن ابن عباس. (٣) إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: ١) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: ١٠٢) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: ٧٠-٧١) رواه الإمام أحمد، والترمذي عن ابن مسعود. ((يتبع بمقال تالٍ))