نشرت إدارة المنار في الجزء الثالث الذي قبل هذا الجزء ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة في الشام، وكنت في إبان طبع هذا الجزء في مكة، ولم تكن هذه الشروط مما أريد نشره في المنار من آثار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وإنما أتحرى نشر رسائله وفتاواه التي يحتاج إليها المسلمون في هذا العصر للاهتداء بها، والعمل بما يحققه من أحكام الشرع في النوازل والأحوال الواقعة التي جاء فيها بما لم يأت به غيره من الشرح والدلائل، وليست مسألة معاملة أهل الذمة في أثناء الفتح والسياسة الحربية منها في شيء لأننا لسنا فاتحين، وإنما يفتح خصومنا بلادنا، ويعاملوننا بالظلم والقسوة اللذين لم يكن عمر رضي الله عنه ليرضى بمثلهما، وناهيك بما هو واقع في سوريا الآن من التخريب والتدمير، وتقتيل غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ. وقد استغربت من هذه الآثار عن شيخ الإسلام قوله: وأما ما يرويه بعض العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آذى ذميًّا فقد آذاني) فهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من أهل العلم. استغربت هذا لأن الحديث مروي بلفظ قريب من هذا اللفظ وهو ما أخرجه الخطيب البغدادي من حديث ابن مسعود مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) وقد أورده السيوطي في الجامع الصغير وأشار إلى حسنه، ولولا ميل شيخ الإسلام إلى التشديد على المخالفين في أصل الدين أو في المذاهب المخالفة لما كان عليه السلف الصالح لما اقتصر على إنكار الحديث باللفظ الذي ذكر، وسكت عن اللفظ الآخر المروي بمعناه، على أنه يجوز أن يكون قد نسيه عندما كتب هذه المسألة وهو أقرب من عدم اطلاعه عليه. وأما إنكاره إطلاق تحريم الإيذاء، بأن منه ما يكون بحق كالقصاص فهو يرد على مثله في حديث (من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله) رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس. والجواب عنهما وعن أمثالهما تقييد الإيذاء بما علم من ضرورات الشرع وهو كونه بغير حق. هذا وإن بعض العلماء لا يعدون عمل عمر في مثل هذا رضي الله عنه حجة شرعية كما هو الأصل في عمل الصحابي، ولا يوجبون اتباعه، وبعض ما روي عنه من تلك الأعمال مروي بأسانيد ضعيفة. قال الشوكاني في بحث ما ضربه من العشور على أهل الكتاب وغيرهم: وفعل عمر وإن لم يكن حجة لكنه قد عمل الناس به قاطبة فهو إجماع سكوتي، ويمكن أن يقال: لا يسلم الإجماع على ذلك والأصل تحريم أموال أهل الذمة حتى يقوم دليل والحديث محتمل. والمراد حديث العشور على أهل الكتاب. ومما ضعفوه من تلك الروايات ما أخرجه البيهقي من طريق حزام بن معاوية قال كتب إلينا عمر: أدبوا الخيل ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم الخنازير، ومثله ما رواه البيهقي عن ابن عباس: كل مصرٍ مَصَّرَه المسلمون لا تُبنى فيه بيعة، ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير. وفي إسناده حنش وهو ضعيف. وجملة القول: إن سياسة عمر العسكرية والمالية والإدارية كانت سياسة فتح عسكري وعدل ديني، واجتهاد مبني على أساس المصلحة العامة، وهي تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال، وليست من أمور العبادات التي يوقف فيها عند نصوص الشارع بقدر الاستطاعة، ولا يجب على ولاة الأمور التقيد بها في كل زمان، بل يتبع في كل عصر وفي كل حال ما فيه المصلحة مع مراعاة النصوص القطعية العامة من وجوب الوفاء بعهود المعاهدين، ما وفوا بعهودهم معنا، وتحريم الظلم، والخيانة والغدر، ونحو ذلك من فضائل السياسة الإسلامية التي تجردت منها السياسة الأوروبية المبنية على الغدر، والإفك، والخيانة، واستحلال جميع الرذائل في سبيل المنافع السياسية والاستعمارية.