وقواعد الصحة في أوربا بعد ١٣٤٨ سنة بقلم الدكتور زكي كرام العربي الدمشقي في برلين وتصحيح المجلة
ذهب بعض أدعياء العلم إلى أن العلة الوحيدة التي حرَّم الإسلام من أجلها أكل لحم الخنزير هي عدم وجود مجاهر (آلات مكبرة للأجرام) لفحص جرثومة الخنزير المسماة باللاتينية (تريخينا سبيرالي) (Spirali Trechina) وتسميها العوام على الإطلاق تريخين، معناه بالعربية (الدود الشعري) وقد ادعت تلك الفئة المضللة، التي هي لكل حرام - بل لكل مضر - محلِّلَة أنه لو وُلد عليه الصلاة والسلام في الممالك الباردة لما منع شرب الخمور! وبهذه الأضاليل والترهات يريدون أن يضلوا عباد الله، بتجرئتهم على ما حرَّم الله. وقبل أن نخوض في البحث العلمي نقول: إذا كانت حكمة الإسلام في تحريم لحم الخنزير هي عدم وجود مجهر لفحص اللحم والتريخين من الخنزير، فهذا لعمري من قول الحق [١] الذي يؤيد رسالة هذا النبي العظيم، وبأنه لا ينطق عن الهوى؛ وإنما هو وحي يوحى. إنني ممن يؤيد تلك القواعد والأوامر والنواهي السامية لانطباقها على العلم والمنطق، وعليه أقول مع ذلك: إنه لو كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مجهر أو لو كان لهذه الدودة القتالة علائم تظهر على الحيوان الموجودة فيه، فيتجنبه الناس لما كان ذلك كافيًا لإباحة أكل لحم الخنزير حتى الخالي من تلك الدودة، فثم أسباب صحية أخرى لتحريمه، فقد أثبت علماء هذا الفن من أطباء العصر أن المنهمكين المواظبين على أكل لحم الخنزير يصابون بتشحم القلب والكبد، وبالتشحم العام أيضًا، ومرض التشحم القلبي والكبدي والتشحم العام ومضراته معلومة لدى الجميع، فنضرب عن بيانه صفحًا ونكتفي بما دلت عليه الإحصاءات الأمريكية والاستقراءات الطبية بألمانيا من توقف حفظ الصحة على الكف عن أكل لحم الخنزير؛ لأن ذلك التشحم هو السبب لموت الكثيرين في عنفوان الحياة، وسن الرجولية الحقيقية من ٤٠-٥٠. وإليك أيها القارئ نسبة الوفيات التي تثبت هذا المُدَّعى: قرر البروفسور غرافه في مستوصفه الخاص، وكذا الإحصاءات الأميركية أننا لو قسمنا الذين في سن الأربعين إلى سمين ونحيف لوجدنا أنه لا يصل إلى سن الستين من السمان أكثر من ستين في المائة، ومن النحفاء أقل من تسعين، وأما الذين في الخمسين فلا يصل من السمان منهم إلى الستين أكثر من ٣٠ في المائة، ويقابل ذلك ٥٠ في المائة من النحفاء، وإذا انتقلنا في هذه النسبة إلى سن الثمانين نرى أنه لا يصل إليها إلا ١٠ في المائة من السمان، يقابلهم ٣٠ في المائة من النحفاء، فلهذا ينصح الأطباءُ العقلاءَ بالكف عن أكل لحم الخنزير الذي هو أعظم الأسباب لعلة التشحم. الخمور وأما الخمور فقد كنت كتبت منذ بضع سنين شيئًا في مضارها، وبما أني رأيت أن الوقت بحاجة إلى مواصلة البحث والتنقيب فسأنتهز إن شاء الله كل فرصة أغتنمها من وقتي الضيق لبيان مضرات هذه الآفة، وأرى من الضروري الآن أن أكتب كلمة في الموضوع الذي أنا بصدده، فأقول: مضرات الخمر ثبتت للعالم الفني العلمي الذي يتوسل بكل ما لديه لإفهام الشعوب مضراتها ليستريح البشر مما يعانيه من تلك الآفة، إن كثيرًا من التجار الفجار، ومن الجواسيس المناحيس، ومن اللصوص الأفاكين، ومن الجناة المحتالين، لا يفتكون بحياة صيدهم أو عدوهم وهو (الفكر الصحيح) ولا يأخذون منه بحق أو باطل إلا بالخمر، فالحرارة التي يحدثها الكحول المؤثر في الخمر لا تدوم إلا ثواني أو دقائق يعقبها برودة لا يتحملها الجسم، فيتطلب الحرارة مرة أخرى بالشرب، ولا يلبث أن يعقبه رد الفعل، وهكذا تكون الحرارة بين طلوع ونزول إلى أن يغمى على المدمن، ولا يعرف أين هو وما تجني يداه من الآثام، وكثيرًا ما يصفون الكحول للمصابين بالحمى، فيشعر المريض بعد بضع ثواني من تعاطيه بسقوط الحرارة؛ ولكن هذا الشعور ليس ناشئًا عن سقوط درجة الحرارة سقوطًا حقيقيًّا، بل هو شعور كاذب يُحْدِثه الكحول. وأما النشوة التي يتلذذ بها المدمن فسببها طروء خلل على وظائف الخلايا، ونتيجة الاستدامة على تعاطي تلك الآفة هي الجنون أو ما دونه من اختلال العقل، وكثيرًا ما تحدث أمراضًا تحار الأطباء في تشخيصها، ولذا نرى أوربة اليوم تحاول اتخاذ وسائل تدريجية لإنقاذ الشعب من هذه الآفة، كما أن الإسلام حرَّم الخمر تحريمًا تدريجيًّا بقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: ٤٣) وقوله فيها وفي القمار: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: ٢١٩) ولما اعتاد بعض المسلمين تركها في بعض الأوقات، وبعضهم تركها ألبتة، بعد ذلك نزلت آية التحريم القطعي {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: ٩٠) وأوربا بدأت اليوم بمنع الخمر منعًا تدريجيًّا (أي بعد أن منعتها الولايات المتحدة الأمريكية منعًا عامًّا قطعيًّا) وبصورة اختيارية مبنية على حفظ الصحة. وإليك أيها القارئ نشرات صحية تصدرها جميعات الألعاب الرياضية بأوربا: جاء في مقدمة نشرة جمعية السباحة المسماة (ويكينجربوته) ما نصه: يجب على الذي يريد أن يشترك في السباق، ويكون من أبطاله أن يعتني قبل كل شيء بصحته، ويكون صحيح الجسم، ولأجل أن يكون صحيح الجسم (والعقل) يجب أن يتبع النصائح الآتية: ١- يجب الانقطاع عن تعاطي جميع المشروبات الكحولية أيًّا كان جنسها (يعني الامتناع عن البيرا أيضًا) . ٢- يجب الاهتمام بترك التدخين تمامًا أيًّا كان نوعه، وجميع المواد الناركوتيكية. ٣- التباعد عن الزنا بكل ما يدخل في الإمكان (هذا بمعنى قوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى} (الإسراء: ٣٢) الآية) . ويقول في السطر ٥١ و ٥٢ من تلك النشرة الصحية (أحسن شيء يروي العطش وينفع الجسم هو الماء الزلال الصافي البرَّاق غير المغلي) وفي سطر ٦٢ (يجب على كل منتسب إلى الجمعية أن يكون مثال الأخلاق الحسنة بتحاميه كل شيء فيه ضرر للجسم) . وإنني اطلعت على التقارير التي تنشرها البعثات للبلاد الباردة، وأخصها بعثات القطب الشمالي أن أكثر الذين يموتون من تأثير البرد هم الذين يدمنون الخمر، وأما الذين لا يدمنون الخمر فهم أكثر صحة ومقاومة للبرد. فهل بعد ذلك للملحدين الذين يتوسلون بالحجج الداحضة والأقوال الفارغة لتحليل ما حرَّم الله أن يقولوا: إنه لو بُعث سيد الخلق في البلاد الباردة لما حرَّم الخمر؟ (وإنما الذي حرَّم الخمر هو الله الذي خلق البلاد الباردة والحارة) . أم عندكم أيها الملحدون ما به تحيلون النور ظلامًا والظلام نورًا؟ أم تريدون فوق كل ذلك جعل الفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة؟ إنما التجدد أيها الإخوان بنقل العلوم والفنون التي هي غذاء الأبدان والأرواح لا بتسميم الجسم والعقل والتجريد من الفضائل. (حاشية) سنأتي إن شاء الله قريبًا بنبذة على التريخين. ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... زكي كرام (المنار) إن قول هذه الجمعيات: إن أفضل ما يُشرب هو الماء النقي، ذكرني ما لا أنساه من قول المقتطف لمن سأله عما يقال في الجعة (البيرا) من تغذية وتحليل: إن لقمة من الخبز أكثر تغذية من كوب من البيرا، وإن جرعة أو كوبًا من الماء أحسن أو أشد تحليلاً من قدح من البيرا، وأما شربها للذة فذلك شيء آخر. أي فلماذا يكذب عبد الشهوة على نفسه وعلى الناس، كما يفعل الآن دعاة التجديد الإلحادي في الترغيب في لبس البرنيطة، وتهتك النساء، وغير ذلك باختلاق منافع للرذائل أو لمحاربة المشخصات القومية والملية التي يراد بها جعل الأمم الشرقية غذاء سهل الهضم على معدة الدولة المستعمرة.