(س١) من الشيخ مقبل عبد الرحمن الذكير في البحرين: ما قول منار الإسلام وهداة الأنام سادتنا العلماء الأعلام في الأوراق المسماة بالأنواط التي وضعها بعض الدول للتعامل عوضًا عن بعض المسكوكات الفضية كالروبيات مثلاً والتزمت تلك الدولة التعويض عنها بالأثمان المقدرة بها؟ هل تجري مجرى العروض كما هو واقع من كثير من التجار يتعاطونها بيعًا وشراءً، رواجًا وبخسًا، أو تجري مجرى العين؟ فإن قلتم بالثاني فهل تقولون به من كل وجه وفي كل باب، أو من بعض الوجوه وفي بعض الأبواب؟ فإن قلتم بالأول فيقتضي أن لا يجوز صرف تلك الأوراق بباقي أيّة سكة من السكك الفضية إلا وزنًا بوزن، يدًا بيد وهو في الظاهر بعيد كما أن ذلك يقتضي أن لا يجوز الزيادة على الثمن الذي قدرت به بشيء ما، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذه المسألة، ويتفرع عنها في باب الزكاة وباب الصرف، وباب الدين والحوالة والبيع نقدًا ونسيئة، وما تقولون في الحديث الوارد: (إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم) . وبالضرورة أن الورق المذكور بل وجنس الورق كيف كان ليس هو من جنس أحد النقود الذهبية والفضية والنحاسية لا لغةً - وهي معتبرةٌ هنا في الشرع - ولا عقلاً وشرعًا ولا عرفًا عامًّا. والمأمول أن يكون التقرير في غاية الوضوح والبيان والمتانة على منهج القواعد الشرعية والأدلة المرعية والطرق الأصولية بالسيرة المرضية؛ لأن المسألة بعموم البلوى والضرورة العامة صار لها في البحث أهمية. ولكم الأجر والثواب من الملك الوهاب. (ج) الورق ليس مالاً ربويًّا في عرف فقهائنا؛ ولذلك أفتى بعض علماء الشافعية بأن هذه الأوراق المالية المسماة بالأنواط (مفرد: نوط) لا يجري فيها الربا، ويفتي غيرهم من علماء المذاهب بذلك؛ لأن الربا مخصوص بالنقدين والأقوات عند الشافعية ومن وافقهم. والعلة عند الحنفية الكيل مع الجنس أو الوزن، فكل مكيل أو موزون إذا بيع بجنسه متفاضلاً فهو ربًا محرم ولكن هذا لا يأتي في هذه الأنواط وإن ورقتين منها يتساويان في الوزن، وقيمة إحداهما مائة روبية والأخرى ألف روبية مثلاً. فلا بد من النظر في مقاصد الشريعة وحكمها وجعلها مدار معرفة الأحكام، وإننا نأخذ بكلام الفقهاء ما لم يخل بهذه المقاصد، فإذا أخل بشيء منها كمنع الزكاة أو إباحة الربا الضار الذي حرمه الله تعالى رحمة بالناس فإننا لا نقبله؛ إذ لا يصح أن يكون الاجتهاد مبطلاً للنص بل لا يصح مع النص، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. ولا يخفى على أحد أن هذه الأوراق المالية لا قيمة لها من حيث هي ورق، وإنما هي سند بمبلغ من النقود فقيمتها بحسب الرقم الذي يعين المبلغ. ولا يضر المتدين الأخذ بقول أي فقيه ما لم يمنع الزكاة أو يستبِح الربا. فأما الزكاة فلا تضيع إذا اعتبرنا هذه الأنواط من عروض التجارة؛ لأنها تقوم في كل حول بقيمتها وتؤدى زكاتها. وأما الربا فالذي أجمع المسلمون على تحريمه منه هو ربا النسيئة، والجماهير من الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريم ربا الفضل أي: الزيادة في أحد العوضين مع التقابض فيما هو ربوي كالنقود والتمر والحنطة ونحوهما، وفيه خلاف بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين كابن عمر وابن عباس وأسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم، وكسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير من التابعين. واستدلوا بما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أسامة (إنما الربا في النسيئة) في رواية مسلم عن ابن عباس (لا ربا فيما كان يدًا بيد) . ومثل ذلك الأحاديث الصحيحة في جواز الصرف يدًا بيد. والعله أو الحكمة في منع الربا لا محل لتفصيلها في هذا الجواب. وإنما نقول بالإجمال: إن من أكل شيئًا من مال أخيه بغير مقابل من عين أو عمل فقد أكله بالباطل، وإن أخذ زيادة عما يعطي الإنسان لأخيه بمجرد التأخير في الوفاء من دواعي قسوة القلوب ومحو عاطفة التراحم وقطع طريق الصنيعة وعمل المعروف فلا يليق بالدين أن يبيحه. ومن بليغ الكلام , ما قاله الأستاذ الإمام , وهو: إن الربا عبارة عن استغلالك حاجة أخيك. وإن مشروعية التعامل بالنقود خاصة تفضي إلى الجناية على التجارة - وسنفصل القول في الربا ومضاره في فرصة أخرى. أما حقيقة الربا فليس بعد بيان الله تعالى فيها بيان قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) فعلمنا أن الربا قسيم البيع ومقابله، فالجامع بينهما المعاوضة، والفارق هو أن أحد العوضين في البيع وهو الثمن يقابل جميع العوض الآخر وهو المثمن بخلاف الربا فإن أحد المتعاوضين فيه يأخذ جزءًا من مال الآخر بدون عوض ولا مقابل، وهذه التفرقة معتبرة في التسمية إلى الآن، فالربا لا يسمى بيعًا، ولكن من البيع ما تدخله شبهة الربا بحسب ما توسع فيه الفقهاء من أحكامه وجزئياته، ولكن من فهم حكمة الشارع المبنية على درء المفسدة وجلب المنفعة لمجموع الأمة يقدر أن يميز بتفقهه في الدين بين المعاوضة والمقصود بها البيع، ونفع أخيه بمثل ما ينتفع به منه بالمعروف، وبين انتظار الفرص لضرورته واستغلال حاجته وأكل ماله بالباطل. وإنني أنصح للأخ السائل وغيره من تجار المسلمين الذين يهمهم أمر الدين أن يلاحظوا هذا الفقه الحقيقي ويجعلوه الأصل في معاملتهم؛ لأنه هو روح الدين وسره الذي يتعلق بإصلاح القلب وتزكية النفس، فإذا أفتاهم علماء الرسوم بفتوى تؤدي إلى منع الزكاة بحيلة من الحيل , أو أكل أموال الناس بلا بدل , أو تجعل البيع ربًا؛ فليحتاطوا لأنفسهم فإن الله تعالى ما تعبدنا بظواهر الألفاظ ومدلولات كلم الناس وما يضعون من الأقيسة والقواعد التي لا تصلح بها القلوب. وقد قال عليه السلام لوابصة (استفت نفسك البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه أحمد والبخاري في التاريخ وغيرهم. ومن فقه ما ذكرنا لا يحار سواء عليه أعد تلك الأنواط عروضًا أم عدها نقودًا، والذي يميل إليه القلب هو اعتبارها نقودًا. وأما الحديث الذي ذكره فهو جزء من حديث صحيح أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مسنديهما ومسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننهما عن عبادة ابن الصامت ولفظه: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيد) ومعلوم أنه إذا اختلف الصنف بطل الربا ولا معنى لبيع شيء بمثله من صنفه إلا إذا كان من جيد ورديء، وفي هذه الحالة أجاز النبي صلى الله عليه وسلم المعاوضة بالتفاضل بشرط أن يكون بيعًا يقدّر بالثمن كما في حديث البخاري وغيره. وليس هذا من الحيلة التي تضيع بها حكمة التشريع، وإنما هي سدٌ لذريعة الربا وبيانٌ لقاعدة نافعة وهي أن الربا ينتفي بقصد البيع فكل ما تحقق فيه معنى البيع فليس من الربا في شيء. هذا ما يتسع له المجال الآن وسنعود إلى الموضوع ونطلب من العلماء الكرام بيان رأيهم لننشره والله الموفق للصواب. *** (س٢) السيد أحمد منصور الباز ببني صالح: يعتري بعض الناس حال تسميها العامة (جذبًا) فيغيب عن وجوده حتى يصير كالمجنون لا يدري ما يقول ويفعل ويظهر هؤلاء بمظاهر مختلفة تعتقدهم العامة بل والعلماء، وكتب الصوفية طافحة بأخبارهم وأخبار القطب والأنجاب والأوتاد والأبدال، ويسمون مجموع هؤلاء الدائرة القطبية ورئيسها القطب الملقب بالغوث، ويقال: إنه يتلقى الأوامر الإلهية وتفيض منه إلى الدائرة القطبية بترتيب معروف عندهم فما رأيكم فيهم؟ نرجو الإفادة بالمنار ليظهر الحق للناس كافة. (ج) أما الحال التي يسمونها جذبًا فهي فن من فنون الجنون، وإنما يسمى صاحبها مجذوبًا أو بُهلولاً إذا كان سبب الحال هو الإفراط في الرياضة والمجاهدة النفسية والانقطاع للذكر والعبادة إكرامًا لمن كان كذلك أن يساوى بسائر المجانين والاعتقاد بهؤلاء البهاليل قديم العهد عندنا، وسببه أن منهم من كان يظهر على لسانه بعض الحكم؛ لأن من يذهب عقله لا يعدم كل ما كان أدركه وعَلمه، وإنما يعدم النظام بين الأفكار والمعلومات، ومنهم من ظهر على يديه بعض الغرائب أو أسنده إليهم بعض المغرورين الذين يضيفون الأشياء الغريبة إلى ما يقارنها من الحوادث، وإن لم يكن علة لها، كأن يؤذي إنسان آخر فيصاب عقيب ذلك بمصيبة تقع بوقوع سببها. وأما القطب وسائر الموظفين الروحانيين في دائرة تصرفه، الذين يسمونهم رجال الغيب كالإمامين والأوتاد والأبدال، فلم يرد فيه شيء صحيح في السنة إلا ما رووه في الأبدال وهي روايات ضعيفة مضطربة في بعضها يعدون ثلاثين وبعضها أربعين إلخ. ومن عجيب تمحلهم في الاستدلال على القطب ما نقله ابن حجر عن بعض المحدثين من حمله خبر أبي نعيم في الحِلْية على القطب وهو: (إن لله في كل بدعة كِيد بها الإسلام وأهله وليًّا صالحًا يذب عنه) إلخ. وأعجب من هذا أن المسلمين في الغالب لا يحفلون بمن يدافع عن البدع بالفعل ولا يسمونه وليًّا ولا قطبًا بل ربما عادوه، ولكن يسهل عليهم أن يقولوا: إن الذي يدافع عن البدع رجل خفي من رجال الغيب يدافع في الغيب عن الإسلام فلا يُعرف ولا تُعرف مدافعته. والحاصل أن الشرع لا يطالب أحدًا بتصديق ما لم يقُم عليه دليل، ولا يكلفه بالإيمان بهؤلاء الرجال المجهولين، بل يحرُم عليه أن يقول ما لا يعلم. وهذا لا يمنع أن تصطلح طائفة الصوفية على ألقاب تطلقها على أهل الخصوصيات، وليس لهم أن يفضوا بذلك إلى من لا يعرف تلك الخصوصية لئلا يكلفوه بالقول بغير علم. وللمبحث ذيول سنفصلها تفصيلاً. *** (س٣) محمد أفندي مأمون كرشه بسنديون (غربية) : هل حكم الحاكم يرفع الخلاف أم لا، ومَن هذا الحاكم، فإن كان رافعًا فهل يبقى كذلك بعد موته؟ فإنه إذا لم يبق يلزم أن لا يعمل بحكم قاضي مصر السابق إلا إذا أجازه من يخلفه. (ج) حكم الحاكم الشرعي الذي رأيتم شروطه في الجزء الماضي يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية فيجب تنفيذه ولو عزل أو مات. ونعني بالمسائل الاجتهادية ما لا يخالف الكتاب والسنة والإجماع. قال في الجامع الصغير: (وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاضٍ آخر يرى غير ذلك أمضاه) وعلَّله الكمال في الفتح بأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، ويرجح هذا باتصال القضاء به فلا ينقض بما دونه. *** (س٤) ومنه: هل يصح ما يقول الوعاظ وعصابة الزار من أن الجنّ مسلطون على الإنسان؟ وهل الزار على هذا منكر يجب النهي عنه شرعًا أم لا؟ وإن أجبتم بالسلب، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا الحمام المقاصيص فإنها تلهي الجن عن صبيانكم) ؟ ومعنى ما ورد في الآثار أن الجن يجري في جسم الإنسان مجرى الدم في الشرايين؟ (ج) لفظ الجن يطلق على المخلوقات الخفية، ويقال: إن منها ما هو مادي وما هو روحاني، وأجدر بهذه الأحياء التي يسمونها الميكروبات أن تكون من المادي وهي سبب الأمراض والأوبئة كالطاعون والهيضة، وعليها يحمل ما ورد من أن الطاعون من وَخْز الجن، فهي مسلطة على الإنسان وهو مسلط عليها بالعلم الصحيح، وإن كان لما يقدر على كثير منها بعد تمكنها في الجسم. وأما الروحانية فلا سُلطة لها على الأجساد وإنما هي منشأ الوساوس والخواطر القبيحة الضارّة فمن العلماء من يقول: إنها القوى المعنوية الباعثة على الشر، والأكثرون على أنها عالم مستقل من جنس عالم الروح يلابس أفراده النفوس المستعدة للشر بسوء التربية فيقوي فيها الرغبة فيه. وعليه يحمل حديث الصحيحين وغيرهما (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع) . وهو كناية عن تمكنه من الوسوسة. وأما الزار فهو منكر قبيح يجب إبطاله بالفعل، فإن لم يستطع فبالقول، وأما حديث اتخاذ الحمام المقاصيص فغير صحيح، ويطلق لفظ الشياطين والجن على الأشرار من الناس وعلى الحيّات والثعابين. وعلى الأول يحمل الحديث لو ثبت وكذا غيره مما ورد في النهي عن خروج الصبيان في الليل؛ لأنه وقت انتشار الشياطين. وإننا نرى شياطين الأزبكية وجنها ينتشرون إذا جنّ الليل، ونحث من يهمهم تربية أولادهم على منعهم من الخروج لئلا يفسدهم هؤلاء الشياطين. *** (س٥) ومنه: هل التسبيح في قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} (الإسراء: ٤٤) بلسان المقال أم بلسان الحال أم المقصود أنه سبب في تسبيح الرائي؟ (ج) المتبادر الذي اختاره المفسرون أن التسبيح من غير العقلاء هو بلسان الحال أي: إن إمكان الأشياء وحدوثها يدلان على تنزيه واجب الوجود. وذهب بعض إلى أنه بلسان المقال؛ لقوله: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: ٤٤) وأجابوا عنه بأن الخطاب للمشركين لا للناس أجمعين؛ أي: لا تفقهون هذه الدلالة لإهمالكم النظر الصحيح والاستدلال العقلي.