(جاء في جريدة الأهرام الصادرة في ١٣/٤/١٩٣١ لمكاتبها في باريس تحت هذا العنوان ما نصه) : اهتزت المقامات المسيحية لنبأ اكتشاف عظيم الأهمية والتأثير، لا من حيث قيمته التاريخية فحسب، بل من حيث علاقته بالدين المسيحي، وهو نبأ اكتشاف ناووس كُتبت عليه باللغة الآرامية من الخارج عبارة (يسوع بن يوسف) وذلك في وادي يوشفاط بجوار القدس. فقد وردت الأنباء بأن الأثري المعروف الدكتور سوكنيك قد عثر على هذا التابوت الحجري في سرداب عليه ركام من الخريات جرّ عليها تقادم ذيول النسيان، وذلك في جانب من ذلك الوادي الذي ستجري فيه دينونة العالم حينما يعتقد بعض المتمسكين بحرفية ما جاء في كتب الدين. ويتساءل الناس الآن، هل ذلك الناووس حوى رفات مؤسس المسيحية وهل العبارة المكتوبة عليه كُتبت بيد المسيح نفسه؛ إذ قد جرت العادة في العهد المسيحي وقبله - كما قد يعلم رجال الآثار - أن يعد الناس توابيتهم الصخرية قبل دنوّ الأجل المحتوم ويسطرون أسماءهم عليها بأيديهم فتُنقش كما هي. ومما هو جدير بالذكر أيضًا أن ذلك الأثري قد عثر في السرداب نفسه على نواويس أخرى قد نقشت على ظاهرها أسماء الكثيرين من تلاميذ المسيح وأتباعه فعلى أحدها اسم مريم وعلى بواقيها أسماء مرثا واليصابات وسمعان ويعقوب ويوحنا ومتى. فإذا ثبت ما يدعيه الدكتور سوكنيك فإنه يؤدي إلى بطلان اعتقادات وتقاليد كثيرة بشأن مدفن السيد المسيح وأتباعه، ويكون الملايين من الذين زاروا القبر المقدس في سالف الزمن قد سجدوا في غير المكان الذي وُضع فيه جسد المسيح بعد أن أُنزل عن الصليب! والمفهوم الآن أن الدكتور سوكنيك مكتشف هذه النواويس كان ولا يزال شديد التحفظ في إبداء رأيه فيها وعلمنا منه بأهميتها الدينية وبما يترتب على ذلك من المسؤولية إذا بدر منه قول عنها قبل التثبت من أمرها. فلما اتصل بصاحب جريدة الجورنال خبر اكتشافه أبرق إلى مراسله في برلين يأمره بمقابلة المكتشف وأخذ ما لديه من المعلومات مهما كلفه ذلك من العناء والمال، فقابله المراسل إذ كان يجمع أمتعته للرجوع إلى فلسطين فأبى الدكتور التلفظ بكلمة واحدة يُفهم منها أنه موقن بأن الناووس الذي قرأ عليه اسم يسوع هو تابوت المسيح الحقيقي. وكل ما قاله هو أنه قد قرأ الاسم المكتوب بالأرامية على الناووس وأنه لا يزيد على ذلك حرفًا إلا بعد أن يصير على بينة من الأمر. ولكنه يقول: إنهم عثروا على أمثال هذه النواويس في سالف الأيام في جوار أورشليم، وبما أنها كانت خالية لم يهتم لها الناس كثيرًا. ولكن الشيء المهم من الوجهة التاريخية والدينية هو الأسماء المنقوشة عليها. وقرأ الدكتور سوكنيك على أحد النواويس هذه العبارة (في هذا الناووس عظام نكانور الإسكندري الذي بنى الباب) فهو في رأي الدكتور الرجل الذي تبرع بباب نكانور في هيكل هيرودس وقد ورد ذكره في أقاصيص التلمود. والناووس المنقوش عليه (يسوع بن يوسف) لا يزال على جدّته. ومن رأيه أيضًا أن الاسم المنقوش عليه قد كُتب بخط يده. أما ما إذا كان يسوع هذا هو المسيح صاحب الديانة المسيحية فالدكتور يأبى الجزم بذلك، فهو يدرك شدة عاصفة الاحتجاج التي تهب عليه من العالم المسيحي ولا سيما إذا فهم من قوله أن هذا الناووس قد كان محتويًا على بقايا السيد المسيح. ووجد الدكتور بإزاء ناووس يسوع ناووس اليصابات أم يوحنا المعمدان ونسيبته مريم، وناووس يعقوب وهو من التلاميذ. أما مريم فلا يعلم هل كانت أم يسوع أم مريم المجدلية وقد تكون أخت مرثا. وهناك ناووس سالومي التي كانت مع الرفاق عند الصليب، أما سمعان فلا يظن أنه سمعان بطرس لأن قبر هذا قد تأكد وجوده في رومية. فهو ربما كان سمعان المذكور في الإصحاح العاشر من إنجيل مَتَّى. أما الاسم (يسوع بن يوسف) المنقوش على الناووس الذي يظن أنه محتوٍ على رفات المسيح - فهو بالأرامية لا العبرانية؛ إذ كانت الأرامية في أيام المسيح لغة أهل فلسطين. كذلك كانت اللغة الإغريقية كثيرة الاستعمال في ذلك العهد؛ ولهذا نقش اسم اليصابات على ناووسها بالإغريقية والأرامية. ويقول الأثريون بوجود مدينة أخرى منسية تحت أورشليم لم تبد آثارها حتى الأعوام الأخيرة، فالذي يزور المدينة المقدسة لا يدري ما استتر تحت سطحها من العمران البائد؛ لأن الأرض التي يمشي عليها في شوارع المدينة الضيقة تعلو عن الشوارع القديمة من ٣٠ إلى ٧٠ قدمًا ففي تلك المدينة البائدة عثر الأثريون على تلك التوابيت الحجرية الموسومة بأسماء معروفة في التوراة واسم يسوع أيضًا. ولا يدهشنا إذا سمعنا في الحين القريب أن الأثريين قد أماطوا لثام الدهور عن آثار أخرى عظيمة الأهمية في أورشليم السفلى ترجع في تاريخها إلى عهد السيد المسيح وإلى ما قبل تبلج فجر المسيحية بقرون عديدة وتكون ذات أهمية تاريخية ليس لرجال العلم فقط بل لرجال الدين أيضًا. ولعل مكاتبكم الأورشليمي يزيدكم إيضاحًا عن الآثار التي وجدت وعما إذا كان ما نقل إلينا عنها حقيقة راهنة أو حديث خرافة فهو أولى من الأجانب بالإشراف عليها والتثبت من أمرها، فإن الكثيرين من رجال الدين هنا قد هزؤوا بالحكاية وظن البعض منهم أنها تنطوي على قصد سيئ، ومن أجل هذا كتب أحدهم مقالة جاء فيها ما يأتي: (إذا سلمنا جدلاً بأن المسيح حديث خرافة، وأن المسيحية بجملتها حكاية صبيانية فما الذي يربحه المشكك وما الذي يخسره الدين. فإن هذه الحكاية أو هذه الخرافة قد كانت أعظم قوة في مدى ألفي سنة أوصلت التمدن إلى الأوج الذي نراه فيه اليوم. إن هذه النظرية قد بدلت الحياة، وتلك الخرافة المبتدعة قد أعطتنا محبة بدل البغضاء، وطهارة بدلاً من الشهوات السافلة، ونقاوة بدلاً من النجاسة، ورجاء بدلاً من اليأس، والإخاء بدل العداء. فإذا كانت هذه الميزات نتيجة تلك الخرافة التي حملت النفوس على توخي أفضل ما في الحياة فلتحيَ الخرافة! إن أكبر العقول في التسعة عشر قرنًا التي انقضت قد اعتقدت بهذه الفكرة، الرجال العظام والنساء العاقلات الطاهرات والأولاد البسطاء قد صدقوا بها وكل الذين تمسكوا بها كحقيقة وعاشوا بما رسمته قد كانوا أفضل مثال لكل ما هو حسن وجميل. فإذا كان كل ذلك حديث خرافة فليكن المسيح خرافة، فإن تعاليمه قد رفعت التمدن إلى أسمى الذرى) . اهـ. والظاهر أن كاتب هذا باريسي أو فرنسي. تعليق المنار على هذه المقالة لئن ثبت وجود رفات المسيح عليه السلام في هذا التابوت ليكون هدمًا لدين النصرانية الحاضر من أساسه فإن الأناجيل الأربعة مصرحة بأنه خرج من قبره في ليلة الأحد وأن مريم المجدلانية ومريم الأخرى وسالومي اللائي تفقَّدنه في صباح ذلك اليوم ولم يجدنه قد وجدن هنالك ملاك الرب فأخبرهن أنه قام من بين الأموات.. إلخ. ولهذا لم يجد الكاتب ما يدافع به عن هذا الدين على فرض ثبوت ذلك إلا قوله إنه دين كان له من الفوائد الأدبية والحضارة العظيمة ما يحملهم على المحافظة عليه وإن كان أصله حديث خرافة. ولا شك أن هذا عين ما تفعله الكنائس التي فاقت بنظامها الديني ومدارسها وجمعياتها أعلى الدول نظامًا ونفوذًا، وإذا أعوزهم الإنكار وعز عليهم التكذيب وأعياهم التأويل، ولن يعجزهم هذا ولا ذاك. ولكن ثبوت ما ذكر لا ينقص شيئًا من نصوص القرآن؛ فإنه يقول بعد الإخبار بمكر اليهود به: {قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: ٥٥) فظاهره أنهم لن ينالوا ما يريدون بمكرهم به وأن الله تعالى هو الذي يتوفاه فيقبض روحه ويرفعه إليه ويصدق برفع جسده بعد إعادة الحياة إليه وبرفع روحه وحدها كما قال في إدريس عليه السلام {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا} (مريم: ٥٧) ويكون ثبوت وفاته ودفنه في الدنيا قبل رفعه حجة لمَن قال من المفسرين: إن الآية على ظاهرها، دون مَن قال بتأويل الوفاة أو بتقديم الرفع على التوفِّي. وجملة القول أن ثبوت ما ذُكر يكون حجة للقرآن كما هو حجة على الأناجيل، والقرآن لا يمكن أن ينقضه شيء؛ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما أقوال الأناجيل في قيامه بجسمه من القبر فهي روايات تاريخية عن النسوة اللائي ذهبن إلى القبر ليس لها أسانيد متواترة فإن خبر الأربعة المؤلفين لهذه الأناجيل لا يثبت به التواتر لو سمعوه من النسوة وهن غير معصومات في خبرهن فكيف وهم لم يصرحوا بالسماع منهن. والعبرة في هذا كله أن مبشري النصرانية يشككون عوام المسلمين في دينهم وفي كلام ربهم المعجز للبشر من وجوه كثيرة منها أنه لا يمكن نقض كلمة منه، وهم يتمسكون بدينهم ويدعون إليه ويدافعون عنه حتى على فرض ثبوت ما ينقضه من أساسه! ! بحجة أنه كان سببًا لهداية كثيرين من البشر وهذا صحيح ويفوقه فيه الدين الإسلامي، وسببًا لوجود الحضارة الحاضرة وهذا باطل وإنما كان الإسلام هو الذي أحيا الحضارة القديمة التي ولدت الحضارة الحاضرة.