للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

الاجتهاد والتقليد
(س١) : م. غ. بالأزهر: طالعت في مجلتكم الغراء (م٤) بحث
الوحدة الإسلامية والاجتهاد والتقليد والرجوع إلى بساطة الدين الأولى بأخذ الأحكام
الدينية من الكتاب والسنة اللذين من تمسك بهما نجا ومن حاد عنهما هلك. وقد عثرت
على كتاب (كشف الغمة) للشيخ الشعراني، فإذا هو كتاب في الحديث مرتب
كترتيب كتب الفقه ذكر فيه أدلة الأئمة كلهم ولم يتعصب لمذهب من المذاهب وإذا
تعارض حديثان صحيحان من جهة التخفيف والتشديد حمل أحدهما على الرخصة
والآخر على العزيمة ولا يحكم بنسخ حديث إلا بحديث آخر مصرح بنسخ الأول
كقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا في كل
وعاء ولا تشربوا مسكرًا) فهل أحاديث هذا الكتاب صحيحة، فنعتمد عليه في
العمل؟ وإذا عرض لنا حكم لم نجده فيه ولا في غيره من كتب السنة الصحيحة
كالكتب الستة ومسانيد الأئمة الأربعة فهل يجوز لنا أن نأخذ هذا الحكم من مذهب
أي إمام غلب على ظننا صحة قوله أم يجب علينا أن نجتهد لنأخذ ذلك الحكم؟
أفيدوا تؤجروا.
(ج) هذا الكتاب أحسن ما كتب الشعراني والخلط فيه قليل جدًّا وليست
أحاديثه كلها صحيحة ولا حسنة بل فيها ما لا يصح الاستدلال به. وأحسن منه
في هذا الباب كتاب (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار) فإن مؤلفه الإمام
الشوكاني يخرج أحاديث المنتقى ويأتي بما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها
وباستنباط الأئمة منها، فهو أفضل كتاب يهدي إلى فهم السنة في أحكام العبادات
والمعاملات. أما ما يعرض للإنسان من المسائل التي لا ذكر لها في الكتاب
والمعروف من السنة فالواجب عدم البحث عنها عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:
(وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وإنما يأتي هذا في أحكام
العبادات خاصة التي تمت على عهده صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى في ذلك
قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) ؛ فالعبادات لا اجتهاد فيها ولا
استنباط إلا الاجتهاد في التمييز بين الصحيح وغيره من الأخبار وفي تحصيل مَلَكَة
العربية لفهم ذلك والاجتهاد الحقيقي إنما يكون في الأحكام الدنيوية التي يتنازع فيها
الناس ولا تنازع في عبادة الله تعالى. وعندنا أن من يعرف الحق في هذه باقتداره
على الاستنباط يعمل به ومن لم يعرفه أو عرفه وكان له خصم لا يقبل حكمه،
فالواجب عليه رده إلى أولي الأمر، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) وأما السؤال عن الأخذ
بقول من يغلب على الظن صحة قوله ففيه أن غلبة الظن لا تأتي إلا من الاطلاع
على الدليل والوقوف على وجه ترجيحه على مخالفه، إن كان هنالك مخالف وهذا لا
نزاع فيه، وصاحبه لا يسمى مقلدًا.
***
مأتم عاشوراء
(س٢) ر. ع. بمصر: كنا نتوقع منكم أن تكتبوا في شهر المحرم شيئًا
في انتقاد ما يفعله إخواننا الشيعة من المنكرات في عاشوراء كضرب رؤوسهم
بالسلاح حتى تسيل منها الدماء على وجوههم وثيابهم وما يتبع ذلك مما هو مشاهَد.
وليس المنار خاصًّا بأهل السنة حتى تنتقدوا كل المنكرات الفاشية فيهم وتتركوا
إخوانهم من أهل الشيعة، وإنما هو منار عام. فإن كنتم تجدون لهم وجهًا يسوغ ما
يفعلون فتفضلوا بإعلامنا به.
(ج) لقد صدق السائل في حكمه بأن المنار عام وقد جاءنا بعد ورود هذا
السؤال كتاب من بعض الفضلاء في (تبريز) يقول فيه: إن الأمة الإسلامية أحوج
إلى مثل هذا (المنار) منها إلى سائر المعارف وأنه ينبغي أن يكتب فيها ما يرشد أهل إيران والهند ولا يصح أن يكون خطابه مع أهل مصر خاصة.
ونقول: إن مباحث المنار كلها عامة إلا ما يتعلق ببعض المسائل الجزئية
وأحوال المسلمين فيها متشابهة فالعبرة فيها عامة. وما منعنا أن نتكلم في شؤون
البلاد الإسلامية البعيدة إلا قلة الوقوف على تفصيلها وتأثيرها، وزِد على ذلك قلة
القراء في البلاد الإيرانية على أن قليلهم لا يقال له قليل لأنهم من كبار العلماء
والأمراء أصحاب النفوذ الروحي والاجتماعي. أما ما يفعلونه في عاشوراء من
ضرب أنفسهم وجرحها بالسيوف فهو منكر تقشعرّ منه الجلود ويجعل المسلمين في
نظر الأجانب كالوحوش أو المجانين على أنه لا فائدة فيه مطلقًا. نعم، كان يتصور
أن يفيد لو كان لأولئك الذين قاتلوا آل البيت عليهم السلام عصبية موجودة وشوكة
نافذة وهم على ظلمهم وهضمهم؛ لأن مثل هذه الأعمال تحيي في النفوس شعور
العداوة والانتقام وتوطّنها على سفك دماء أولئك الأعداء، ولكن أولئك الظالمين قد
خضدت شوكتهم، وذهبت سلطتهم؛ بل مُحي اسمهم من لوح الوجود حتى لا نكاد
نرى من ينتسب إليهم. فكان ينبغي الاكتفاء في عاشوراء بمثل ما كنا ارتأيناه في
المولد النبوي والمولد الحسيني وهو أن يخطب الخطباء في سيرة صاحب المولد وما
كان عليه من الخلق العظيم وما وفقه الله تعالى له من العمل النافع مع توجيه النفوس
للتأسي والاقتداء به فإذا كنا لسنا في حاجة إلى الانتقام، وإذا كنا قد ذقنا فعرفنا جناية
سلّ الحسام، وإذا كنا مهددين في كل أرض لأن ديننا الإسلام وإذا كنا - كما نعلم -
على خطر لا ينجي منه إلا الاتحاد والالتئام، وإذا كان هذا الاتحاد متعذرًا من جهة
وحدة السلطة والأحكام - أفلا يجب علينا أن نلتمسه من جهة الوحدة الدينية في العقائد
المتفق عليها والأخلاق التي لا خلاف فيها. والأخوة التي دعانا القرآن إليها؟
أفلا ينبغي أن تتخذ هذه المواسم مذكرات بأفضل ما كان من سلفنا، وأنفع ما
كان من أئمتنا، ونجتهد في أن نجعل شعورنا واحدًا حتى يصدق علينا قول نبينا
صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه الشيخان عن النعمان
بن بشير وفي رواية عنه لمسلم: (المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى
كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) .
***
حبس النساء بالجوع والعري
(س٣) أ. ع. بالأزهر: يذكر بعض الناس حديثًا أوله: (أجيعوا المرأة)
ويظهر أنه غير صحيح وإن استشهد به بعض مَن كتب في النساء فالمرجو بيان
ذلك.
(ج) جاء في آخر كتاب النكاح من كتاب (اللآلى المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة) للحافظ السيوطي ما نصه:
(ابن عدي) : حدثنا محمد بن داود بن دينار حدثنا أحمد بن يونس حدثنا
سعدان بن عبدة حدثنا عبيد الله بن عبد الله العتكي عن أنس مرفوعًا: (أجيعوا
النساء جوعًا غير مضر وأعروهن عريًا غير مبرح؛ لأنهن إذا سمنَّ واكتسين
فليس شئ أحب إليهن من الخروج وإن هن أصابهن طرف من العري والجوع فليس
شئ أحب إليهن من البيوت وليس شيء خيرًا لهن من البيوت) لا يصح. العتكي
عنده مناكير، قال ابن عدي: وسعدان مجهول وشيخنا محمد بن داود يكذب. وقال
الشوكانى في فوائده: لا أصل له وكذا (أعروا النساء يلزمن الحجال) لا أصل له،
وكذا: (استعينوا على النساء بالعري) .
أقول: ومثل هذه الأحاديث المفتراة حديث: (لا تسكنوهن الغرف ولا
تعلموهن الكتابة وعلموهن المغزلة وسورة النور) رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا
وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي كان يضع الحديث. وقد أخرجه الحاكم من
غير طريقه وقال: إنه صحيح الإسناد. وما أسرع الحاكم في الحكم بالتصحيح،
وتعقبه الحافظ ابن حجر في أطراقه فقال: إن في إسناد الحاكم عبد الوهاب بن
الضحاك وهو متروك.
***
الاقتداء بالمخالف وطهارة الكلب
(س٤) السيد محمد طه في بربر: ما قولكم دام فضلكم في رجل شافعي
المذهب اقتدى بإمام مالكي توضأ بماء دون القلتين ولغ فيه كلب فهل هذه القدوة
صحيحة؟ وما حكم هذا الماء المنجس بفم الكلب؟
(ج) إن المسائل الاجتهادية يعذر فيها كل مجتهد بما يراه ولا يجوز أن
يكون اختلاف الرأي سببًا في التفريق بين المسلمين، فإن كنت تتصور أن الإمام
الشافعي يحرم الاقتداء بشيخه الإمام مالك فحرم أنت الاقتداء بمن يتبع مالكًا اتباعًا
للشافعي، ومعاذ الله أن يظن مسلم ذلك في الأئمة بعد قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) ، نعم، إن
للفقهاء في هذه المسألة قولين مصححين: أحدهما الذي قلنا، والثاني أن القدوة غير
صحيحة ورجحه بعض المتأخرين سامحهم الله تعالى والحق ما قلنا.
وأما الماء الذي ولغ فيه كلب فقد ذهب الشافعي إلى نجاسته لما ورد من الأمر
بغسل الإناء وتتريبه وغيره يقول بأن الأمر بالغسل سبع مرات مع التتريب ليس
لأجل النجاسة؛ إذ المقصود من غسل النجاسة إزالتها وليس للولوغ تأثير تتوقف
إزالته على التسبيع والتتريب، ومال بعضهم إلى أن الأمر تعبدي وذهب بعض
الصوفية إلى أن له سببًا معنويًّا وهو أن شراب سؤره يقسي القلب، ولا يبعد أن
يكون السبب هو التوقّي من داء الكلب القتّال. ومهما كان السبب فلا يجب على
المسلم أكثر مما ورد في الحديث؛ لأنه إذا لم يظهر السبب يكون الأمر تعبّديًّا لا
يقاس عليه وإن ظهر السبب وقفنا عنده لا نتعداه.
***
أجرة التعدية
(س٥) ومنه: إذا كان الحاكم مستوليًا على البحر أو النهر وأذن للناس
بالعبور على المراكب ونحوها من ناحية إلى أخرى وجعل على أصحاب المراكب
ضريبة فهل يجوز للمسلم أن يتخذ له مركبًا يعبر الناس عليه والبهائم بالأجرة؟
(ج) : نعم.