أول ما نزل من القرآن (س٣٣) من الدكتور علي أفندي رياض (بالفنث - فيوم) : حضرة سيدي الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامية الغرَّاء: أقدم وافر احترامي لجنابكم ثم أتجاسر بأن أبدي هذه العبارة الآتية وغايتي منها لم تكن الانتقاد؛ لأني لم أكن أهلاً لذلك، ولكن لقصد الاستفهام عن الحقيقة من حضرتكم. لقد طالعت النسخة التي فيها تفسير سورة العصر طبع مطبعة مجلتكم الغرّاء فرأيت في موضوع درس عام فيها لحضرة الإمام -رحمه الله - في صفحة ٥٨ ما نصه بالحرف الواحد: (ولما كان العلم ضوءًا يهدي إلى الخير في الاعتقاد والعمل كان أول ما نزل على النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب قوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..} (العلق: ١) .. إلخ، ويظهر من سياق الحديث أن غرض الأستاذ - رحمه الله - في قوله هذا الاستشهاد على منافع العلم وأن أول نزول الوحي كان بشأن العلم. ولكن سبق لي قراءة تفسير سورة الفاتحة لحضرة الإمام، وهي أيضًا طبع مطبعة مجلتكم الغراء وإذا فيها أن حضرة الإمام - رحمه الله - أثبت بالدليل الكافي أن أول ما نزل به الوحي كان أمّ الكتاب لا (اقرأ) . فهل كان يغير أفكاره فرجع رحمه الله عن رأيه في تفسير الفاتحة إلى ما ذكره في ذلك الدرس وهو أن أول ما نزل (اقرأ باسم ربك) كما أجمع عليه حضرات علماء التفسير؟ ! . ألتمس بكل أدب إفادتنا عن ذلك لأجل اتباع الأصوب مع قبول وافر احترامي. (ج) ما من عالم ولا إمام إلا ويقول أقوالاً ثم يرجع عنها؛ لأن غير المعصوم لا يحيط بالصواب في كل قول وكل رأي ابتداءً، وقد نقل عن الإمام مالك أنه كان يبكي قبل موته؛ لأن أناسًا أخذوا عنه أقوالاً في الدين رجع عنها بعد ذلك. إذًا لا عجب إذا قال الأستاذ الإمام قولاً ثم رجع عنه. والعمدة في بيان رأيه مطلقًا أو رأيه الأخير في هذه المسألة ما كتبه بقلمه في تفسير سورة العلق من جزء عم، وقد يعد تفصيلاً لما نقل عنه في الدرس الذي طبعناه مع تفسير سورة العصر. ولا يخفى أن كلاً من تفسير الفاتحة وهذا الدرس ليسا من كتابته - رحمه الله تعالى - وإنما تفسير الفاتحة من كتابة منشئ هذه المجلة، وفيه بيان رأيه وقد اطلع عليه قبل الطبع وبعده. وأما ذلك الدرس فقد كتبه عنه بعض أدباء تونس عندما ألقاه فيها وطبع هناك في رسالة ثم قرأته عليه ونقحته بإشارته وطبعته مع تفسير سورة العصر الذي كتبه بقلمه. وإنما يرجح ما كتبه في تفسير جزء عم إذا كان هناك تعارض لأمرين: أحدهما أن الإنسان يتحرى فيما يكتب بقلمه ما لا يتحرى في إجازة ما يكتب عنه. وثانيهما أنه آخر ما يؤثر عنه في المسألة وهو قوله بعدما أورد الحديث الصحيح في أول نزول الوحي: وفى هذا دلالة على أن {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: ١) - إلى قوله: - {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٥) هو أول خطاب إلهي وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية السورة فهو متأخر النزول قطعًا وما فيه من ذكر أحوال المكذبين يدل على أنه إنما نزل بعد شيوع خبر البعثة وظهور أمر النبوة وتحرش قريش لإيذائه عليه السلام. ثم هذا لا ينافي أن أول سورة نزلت كاملة بعد ذلك هي أم الكتاب كما بيناه في تفسيرها اهـ. قوله في تفسير سورة العلق. فأنت ترى أن هذا يتفق مع ما جاء في ذلك الدرس ولا يخالف ما علل به كون سورة الفاتحة هي أول القرآن نزولاً من أن فيها مجمل ما فصله كله من مقاصد الدين حتى كأنه شرح لها. ولكنه مخالف لظاهر قول هذا العاجز في تفسير سورة الفاتحة (ثم رجح الأستاذ الإمام أنها أول ما نزل على الإطلاق ولم يستثنِ قوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ..} (العلق: ١) ونزع في ذلك منزعًا غريبًا في حكمة القرآن وفقه الدين..) إلخ، وهذا ما كان منه في الدرس أطلق ولم يستثن، ولو قلت: ولم يستثن سورة اقرأ - لاتفق ذلك مع ما تقدم ذكره نقلاً عنه وكتابة منه. هذا وإن هذه الآيات من أول سورة العلق ينحصر معناها في جعل النبي الأمي قارئًا بقدرة من خلق الإنسان من علق الدم وفضل الرب الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم، فإذا كانت الفاتحة هي أول ما نزل بعد تبليغ هذا الأمر، وبها تحقق امتثاله صح أن يقال إنها هي أول القرآن المقروء بالأمر نزولاً كما أنها في أوله وضعًا وترتيبًا ولا ينافي ذلك تبليغ الأمر بالقراءة قبلها، وإن كان أمر تكوين لا تكليف؛ إذ أمر التكوين هنا يستلزم أمر التكليف. وسنفصل القول بهذه المسألة في تفسير الفاتحة عند ما نطبعه مع الجزء الأول من التفسير العام، فقد كنا أخرنا طبع هذا الجزء وبدأنا بطبع الجزئين الثاني والثالث معًا؛ لأن في الأول اختصارًا في بعض الآيات، وقد زاد الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى فيه بعض الزيادات عما نشر في المنار بقلمه قبل وفاته بزمن قصير - رحمه الله ورضي عنه -. *** العين (س٣٤) أمين أفندي هاشم التلميذ بالمدرسة الخديوية (مصر) : جئت بهذا السؤال إلى مجلتكم الغرّاء التي أفادت الناطقين بالضاد قاطبة لأستمد من نور معارفكم ما خفيت عني حقيقته: كنت أطالع بعض الكتب الأدبية إذ وقع نظري على حديث شريف لقائله النبي صلى الله عليه وسلم: (العين حق تُدخل الرجل القبر والجمل القدر) ، وآخر: (اتقوا سمّ الأعين) فاعتراني وهم لعدم اهتدائي إلى الحقيقة ورجوت حضرتكم شرح: هل للعين مادة تنفصل منها إلى محل النظر فتؤثر فيه أم كيف حتى تنقشع عني غياهب الجهل والوهم وأهتدي إلى الحقيقة ولحضرتكم الشكر سلفًا. (ج) اعلم أولاً أن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطب أو الزراعة وسائر أمور الدنيا - لا يعد من أمور الدين التي يُبلغها عن الله تعالى وإنما يعد من الرأي وعصمة الأنبياء لا تشمل رأيهم في أمور الدنيا ولذلك يسمي العلماء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من أمر الدنيا أمر إرشاد وهو يقابل أمر التكليف وفي مثل هذه الأمور الدنيوية قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) كما في حديث البخاري ولذلك كان أصحابه عليهم الرضوان يراجعونه أحيانًا فيما يقول من قبيل الرأي كما تعلم مما ورد في وقعتي بدر وأحد، فإذا رأيت حديثًا في أمر الدنيا لم يظهر لك وجهه فلا يرعك ذلك ولا تظن أن في عدم ظهور انطباقه على الواقع طعنًا في الدين، على أنه عليه أفضل الصلاة والسلام كان ذا الرأي الرشيد والفكر السديد حتى في أمر الدنيا، وإن كان كلامه فيها قليلاً؛ لأنه جاء لما هو أهم وأعظم وبعد فقوله عليه الصلاة والسلام (العين حق) حق ثابت بالتجارب والمشاهدات في جميع الأمم والأجيال، ولفظ الحديث: (العين حق) ورد في الصحيحين، وأما حديث: (اتقوا سمّ الأعين) فلا أعرفه ولا أتذكر أنني رأيته في شيء من كتب الحديث المعتمدة ومعناه أن تأثير العين كتأثير السم لا أن في العين سمًّا ينتقل منها إلى من تراه. أما العلة في تأثير العين فهي نفسية لا حسية وذلك أن لبعض النفوس تأثيرات مختلفة من أضعفها وأشهرها تأثير التثاؤب فإننا نرى كثيرًا من الناس يتثاءب لنحو نعاس فلا يلبث أن يتثاءب مَن بجانبه. ومنها ما يكون عند النظر فإنك ترى بعض الناس ينظر إلى آخر فيرتعد المنظور إليه ويأمره بشيء، فلا يرى مندوحة من طاعته وهو ليس له عليه أدنى سلطان وراء هذا التأثير الذي يطلقون عليه تأثير الإرادة؛ لأنه يكون إذا أراد صاحبه أن يكون ويدخل في هذا النوع من التأثير النفسي ما يعرف الآن بالتنويم المغناطيسي وقد كان معروفًا عند بعض الصوفية والهنود بتأثير الهمة أو تصرف الهمة. وإنما نسب التأثير إلى العين في عُرف الناس الذي ورد به الحديث؛ لأنه يحصل بعد النظر إلى الشيء، وفي حديث أخرجه البزار بسند حسن عن جابر نسبته إلى النفس. ومن المصائب أن سمّ الريب في الدين قد سرى في الناس حتى صاروا يعدون من الدلائل عليه كل ما لا يتبادر إلى أفهامهم معناه الموافق لعلمهم وتقاليدهم فالحريص على دينه يبادر إلى أهل العلم الصحيح سائلاً والآخرون يظلون في رَيبهم يترددون.