للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على المنار
عود على بدء

سلام من مصطفى نور الدين إلى كبير المصلحين، وملجأ المسترشدين،
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا متَّعَه الله بالصحة والعافية، وبارك
لنا في عمره ونفعنا بعلومه، أما بعد فقد قرأت في المنار الجزء الرابع المجلد التاسع
والعشرين ردَّكم على انتقادي ما جاء بتفسير المنار الآية {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: ١٨٦) وإني قد رأيت في هذا الرد ما يستحق النقد، وقد
كنت أحجمتُ عن أن أعرض على حضرة السيد ما بدا لي انتقاده امتثالا لإنزالكم لي
بأن لا أتجرأ بعد الآن على التخطئة والتصويب والترجيح والتجريح إلخ، ولكنكم
تعلمون أن امرأة انتقدت عمر بن الخطاب في تقدير الصداق وفي ذلك دلالة على أن
للحقير أن ينتقد الكبير لذلك رجَّحت أن أقدم لكم ما هو مُنْتَقَد في نظري.
فمن ذلك قولكم: إن قرب الوجود بالمعنى الذي فسَّره به الأستاذ الإمام أقرب
إلى مذهب السلف إلخ، فأقول: إن تفريع الأستاذ الإمام على هذا المعنى بقوله:
فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء يُبْعده عن مذهب السلف؛ لأنه لم يرد في كتاب
الله ولا في حديث متواتر ولا نقل عن جماعة الصحابة إسناد الاستواء إلى الذات
كما قلتم فكذلك لم يرد عما ذكر إسناد القرب إلى الذات، فإن كان إسناد الاستواء إلى
الذات مخالفًا لمذهب السلف لهذه العلة فكذلك إسناد القرب إلى الذات يكون مخالفًا
لمذهب السلف أيضًا حيث إن العلة فيهما واحدة، على أن إسناد الاستواء إلى الذات
تأويل [١] يقربه التنصيص على الاستواء على العرش [٢] ، والعلو والفوقية والعروج
والصعود والرفع [٣] وغير ذلك مما ورد منه الكثير في الكتاب والأحاديث وآثار
الصحابة والتابعين، وكل هذا لا يخفى على حضرة السيد الفاضل [٤] بخلاف إسناد
القرب إلى الذات، ولو على الوجه اللائق بالتنزيه فإنه تأويل يبعده التنصيص
المذكور، وفي نظري واعتقادي أن هذا التنصيص هو الذي حمل الكثيرين من أئمة
الأحاديث والآثار من أهل القرن الثالث والرابع على التفرقة في تأويل الإسناد فأسندوا
الاستواء إلى الذات وأسندوا المعية والقرب إلى العلم، وإني أعذرهم في ذلك لأمرين:
(الأول) التنصيص على الاستواء على العرش وما في معناه كما تقدم (الثاني) أن
الاستواء لا يصح إسناده إلا إلى الذات، أما المعية والقرب فيصح إسنادهما إلى الذات
وإلى غيرها من آثار الصفات كالعلم والسمع والبصر [٥] من هذا يتضح أن ما ذهب
إليه الأستاذ الإمام وأيده حضرة السيد - من أن إسناد القرب إلى الذات - مخالف
لمذهب الصدر الأول من السلف ومخالف لكثير من أئمة الأحاديث والآثار من القرن
الثالث والرابع، أما مخالفته لمذهب الصدر الأول من السلف فإنهم لم يؤولوا في
الإسناد بل قالوا: إنه تعالى مستوٍ على عرشه، ولم يقولوا بذاته، وقالوا قريب من
خلقه ولم يقولوا بذاته أو علمه، وأما مخالفته للكثير من أئمة الأحاديث والآثار فلأنهم
فرَّقوا في تأويل الإسناد فأسندوا الاستواء إلى الذات والمعية والقرب إلى العلم لا إلى
الذات كما قال الأستاذ الإمام وهذا الصوفي، فقد اتضح من هذا أن ما ذهب إليه
الأستاذ الإمام وهذا الصوفي من إسناد القرب إلى الذات بعيد من مذهب السلف لا
قريب منه فضلاً عن كونه أقرب [٦] .
ومما هو مُنْتَقَد في نظري قولكم: فإن صفات الذات كالعلم لا توجد إلا حيث
توجد الذات أي لا توجد إلا بوجودها لاستحالة انفصالها عنها، فأقول: إن قول
القائل: إن الله معنا بعلمه أو في كل مكان بعلمه لا يقصد به نفس الصفة القائمة
بالذات، فإن العلم بهذا المعنى لا ينفصل عن الذات، بل جميع الصفات بهذا المعنى
كذلك، وإنما المقصود هو أثر الصفة، فمعنى كونه تعالى في كل مكان بعلمه أنه
عالم بكل مكان، وهذا كثير في القرآن أي إطلاق الصفة وإرادة أثرها، فمن ذلك
قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (البقرة: ٢٥٥) قال الجلال: لا
يعلمون شيئًا من معلوماته، ومن ذلك قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ
أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: ١٦٦) قال الجلال: ملتبسًا بعلمه عالما به ومن ذلك قوله
تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (فصلت: ٤٧) فالعلم في هذا الآيات ليس المراد به الصفة القائمة بالذات بل
المراد أثرها، وهذا يكاد يكون بديهيًّا [٧] .
ومن هذا القبيل {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: ١١) أي مخلوقه وقوله تعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} (التوبة: ٦)
أي القرآن لا الصفة القائمة بالذات كما هو ظاهر.
ومما انتقدته على حضرة السيد أنه فهم غير ما أردته من قولي: ثم لا غرابة
ولا بُعْدَ في هذا التفسير الثاني من حيث إسناد قرب الملائكة من المحتضر إلى الله
إلخ، فقد ترتب على ذلك أنكم نسبتم إليَّ أني قد اعتبرت التوفي المسند إلى الله في
الآيات الكثيرة مسندًا إلى الملائكة، والله يعلم أني لم أقصد ذلك [٨] وإنما الذي
أقصده أني أقول: إن من الأمور التي تسند إلى الله حقيقة قد تُسْنَد إلى الملائكة
مجازًا، وبالعكس فمن الأول التوفي فإنه قد أسند إلى الله حقيقة في الآيات التي أكثر
من إيرادها حضرة السيد وأسند إلى الملائكة مجازًا.
وأما الثاني وهو العكس فهو القرب في آية: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ
تُبْصِرُونَ} (الواقعة: ٨٥) فإن الإسناد فيها على العكس من الإسناد في التوفي
أعني أن إسناد القرب إلى ضمير الذات مجاز للعلاقة التي بين الله وملائكته [٩] في
أمور كثيرة خصوصًا وأن أمورهم غير كسبية، وقد منع من إرادة الحقيقة مانع،
وهو أنه من المسلمات أن نفي الشىء فرع عن صحة حصوله، وقد نفى في هذه
الآية إبصار حاضري المحتضر لذات الله على تفسير هذا الصوفي، فهل يصح
لأحد أن يبصر ذات الله في الدنيا حتى تنفى عن حاضري المحتضر [١٠] أما إبصار
الملائكة فإنه يصح وقوعه بل هو واقع بالفعل للمحتضر، ولكن لا يبصرهم
حاضرو المحتضر، ومما راجعته من التفاسير في تفسير الآية تفسير ابن جرير
المشهور بأنه تفسير أثري فوجدته يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: ٨٥)
برسلنا، وأما تفسير الزمخشري الذي ذكره حضرة السيد في هذا الرد فهو
في نظري خير من غيره؛ لأنه مبرأ من اللوازم التي تلزم على غيره [١١] .
ومما انتقدته على حضرة السيد حذفه لتفسير آية الحديد وتفسير الحديث من
الرد، فكان اللازم أن يذكر ذلك، فإن وجد فيه خطأ أرشدني إليه [١٢] .
ومما انتقدته على حضرة السيد إنذاره لي بأن لا أتجرأ بعد الآن على التخطئة
والتصويب إلخ، فكيف يصح هذا، وقد أمر الله تعالى عباده بالنظر وحَثَّ عليه في
كثير من كتابه، ومدح أهل النظر بقوله: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: ١٧-١٨) ألا يُعَدُّ مثل هذا الإنذار حَجْرًا على العقول،
واحتقارًا لعباد الله؟ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: ١٠) اهـ.
(جواب المنار)
أقول بعد رد التحية بالسلام على صاحب الرسالة، ورحمة الله وبركاته.
(أولاً) : إن حالنا مع أخينا في الله المنتقد الكريم كحالنا مع أخينا المدافع
عن كعب الأحبار ووهب بن منبه المنتقد على شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم،
وكلاهما محب للعلم حريص على تمحيص المسائل التي تشتبه عليه، وكلاهما
يعتمد في انتقاداته على ما يفهمه من المطالعة في الكتب من غير رجوع إلى ما
يتوقف عليه الفهم الصحيح المؤهل لتخطئة العلماء، والترجيح بين أقوالهم من
أوضاع اللغة وقواعد النحو والمعاني والبيان وأصول الفقه؛ بل لعدم العلم التفصيلي
بها، ولذلك يكثران من النقول التي لا حاجة إليها كلها فيما يحبان استبانته والحكم
الصحيح فيه، وقد كان يصعب علينا أن نترك نشر شيء مما يرسلانه إلينا
لإخلاصهما في البحث ومحبتهما للعلم؛ لئلا يسيئا الظن بنا ويتوهما أننا لم ننشر
ذلك لأننا نستكبر عن الاعتراف بما فيه من الحق، ونفضل عليه الإصرار على
الباطل، ولكن جمهور قراء المنار يتبرمون من نشر أمثال هذه الرسائل
المطولة ... كما ذكرناه في تعليق لنا على رسالة لذلك الأخ الفاضل مع نشرها برمتها،
وقد اضطررنا إلى التصريح بمثل هذا الآن لما يراه القارئ في بقية هذا التعليق.
(ثانيًا) : إن أخانا وصديقنا صاحب هذا الجدل الجديد في تأييد كلامه
السابق قد اتهمنا في أوله بأننا احتقرناه وحكمنا عليه بأن لا يتجرأ على التخطئة
والتصويب والترحيح والتجريح؛ لأنه حقير في نظرنا فلم نره أهلاً لأن ينتقد علينا
أي لما ندعيه من العظمة، وذكر أنه كان أحجم عن الرد علينا ثانية، ولكنه استدل
باعتراض المرأة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه (للحقير أن ينتقد
الكبير) فرجَّح الإقدام على الانتقاد!
وفي آخر كلامه عَدَّ هذا مخالفًا لقوله تعالى: {فَبِشِّرْ عِبَادِ} (الزمر: ١٧)
الآية وحجرًا على العقول واحتقارًا لعباد الله وهذه مطاعن شديدة لم يسبقه إلى لَمْزِنَا
بها الأعداء فضلاً عن مسترشدي الإخوان.
الحق أقول: إن أخانا العزيز المكرم المخطئ في هذا الفهم وآفته فيه عدم
بناء فهمه على قواعد اللغة، وإنني على علمي بقصوره في ذلك لأفضله على كثير
من كبار علمائها وبلغاء منشئيها، وإنما أفضله بدينه وما أظن من إخلاصه لا بعلم
اللغة ولا غيرها، إنني قيدت النصح له بأن لا يتجرأ على ما ذُكِرَ بقولي (بغير
تدقيق وتحقيق وطول بحث وكثرة مراجعة) ولم أجعله مطلقًا، وأين انتقاداته
واعتراضاته من اعتراض تلك الصحابية العربية على عمر بن الخطاب رضي الله
عنه فيما هَمَّ به من منع الناس من التغالي في المهور ذهولاً عن الآية الشريفة التي
ذكرته المرأة بها، فهي قد راجعته مستندة إلى آية صريحة لا تحتمل التأويل وهي
تفهمها حق الفهم؛ لأنها من أهل اللغة الصرحاء الذين يفهمون ما هو أدق منها،
وأحوج إلى المعرفة والفهم، وإنه ليحزنني أن أضطر إلى تذكير أخي السلفي
الفاضل بقصوره هذا؛ دفاعًا عن نفسي وعن الحق، فأنا أعد من أعظم النقائص
احتقار من دونه من الناس في دينه وأدبه وإخلاصه، فكيف أحتقره، وأنا أغتبط
بأُخُوَّتِه، وأتمنى كثرة الإخوان من أمثاله؟ ولعله يرى أن عدم فهمه لكلامي
(بزعمي) هو كعدم فهمي لكلامه في انتقاده كما صرَّح به، فيكون قد تساوينا في
عدم الفهم، وحينئذ لا أحتاج إلى ما ذكرت من الاعتذار له على ذمه لي وقدحه فيَّ،
ولا مطمع في فهم كل منا لكلام الآخر فلا وجه للمناظرة بيننا.
(ثالثًا) إن سبب ردي على رسالته الأولى هو أنني رأيتها جدلاً في مسائل
الصفات الإلهية بما أطال به من الاستدلال الذي رأيته في غير محله لما ذكرته آنفًا
على أن هذا الجدل مذعوم وإن كان مبنيًّا على القواعد اللغوية والعلمية فأردت أن
أشير إلى بعض الخطأ فيه لعله يتجنبه بعد - فرأيته قد ازداد تماديًا فيه بهذه الرسالة،
وقد كدت أقع فيما وقعت فيه أولاً ذهولاً وغفلة مني، فشرعت في الرد على مباحثه
وأدلته الجديدة بالتفصيل، ثم تنبهت فرمجت ما كنت كتبته وألقيته، وهذا الخطأ كثير
جدًّا بحسب فهمي وعلمي، وأعتقد أن نشر ذلك الرد عليه لا يفيد، بل يثير عنده
شبهات وآراء أخرى فهو يضر ولا ينفع، ولا يهمني - وهذا اعتقادي - أن يعتقد
أنني أنا المخطئ أو أنني عجزت عن الرد عليه أو ما شاء من اعتقاد ورأي، وقد
يكون بعض اعتقاده في هذا الشأن حقًّا في الواقع، وإن لم يظهر لي، ثم أشرت في
الحواشي إلى بعض ما رأيت من الخطأ في عبارته بعد كتابة هذا التعليق كله وجمع
حروفه للطبع على سبيل النموذج لا تحقيق المسائل، ولن أعود إلى نشر شيء من
هذا القبيل إن شاء الله تعالى.
(رابعًا) أرى مع هذا أن أذكر من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع ما أظن
أنه نافع في نفسه إن لم يكن له فلغيره من القراء فأقول:
(١) إنني قلت في تعليقي على انتقاده الأول: إن عبارة الأستاذ الإمام
أقرب إلى مذهب السلف من جهة عَيَّنْتُها لا من كل جهة، ولم أقل: إنه عين مذهب
السلف، بل ذكرت أن العمدة في مذهب السلف عندي ما أذكره في آخر ذلك
الجواب، وهذا التعبير معهود من العلماء، فكان ينبغي للأخ المنتقد أن يفند ذلك
الذي ذكرته في آخر الجواب إن رآه منتقدًا أو يعترف بأنه صواب ويستغني به عن
الرجوع إلى الجدل في العبارة للدفاع عن نفسه والانتقام لها على ما فهم أنني
احتقرته به.
(٢) إنني صرَّحت في صفحة ٢٩٠ بأنني حملت كلام شيخنا على مذهب
السلف، بل على القرب منه - لأنني علمت من أقواله المسموعة والمكتوبة أنه
يدين الله بمذهب السلف، وإن ما قد يذكره في بعض مكتوباته من تأويل قد يخالفه
فإما سهو منه وإما لعلمه بأن بعض الناس لا يقنعه بحقية الإسلام غيره - وأعترف
أنا بمثل هذا، وقد صرَّحت به في التفسير والمنار غير مرة - وصرَّحت فيها أيضًا
بأنني ذكرت في التفسير أن شيخنا عفا الله عنا وعنه كان يسبق إلى فهمه في بعض
الصفات ما جرى عليه مفسرو الأشعرية من التأويل لما كان من توغله في علم
الكلام - وصرَّحت فيها أيضًا بأن ما حملت عليه كلام ذلك الصوفي هو احتمال في
العبارة أي لا مدلول لفظها المتبادر منه، وصرحت قبلها بأنه من باب تحسين الظن
به كما صرَّحت بأن المعتمد عندي في المسألة ما ذكرته في آخر الرد كما تقدم -
والمراد بهذا وذاك أنني لم أقصد من ذلك البحث إثبات كون كلام الشيخ وكلام ذلك
الصوفي هو عين مذهب السلف، فلماذا نعيد الجدال، وما ذم الشرع من القيل
والقال؟ ألأجل تحسين الظن بعالمين عابدين من المسلمين الميتين علمت من دين
أحدهما وعلمه وتقواه بالاختبار الطويل ما لم أعلم مثله عن غيره ممن عاشرت من
الناس، ولم أعلم من الآخر سوءًا كلا إنما ذنبي الصحيح أنني خطأت المنتقد
بصريح القول لأنني استنكرت دخوله في هذا المأزق الذي أراه ضارًّا، وأستغفر الله
العظيم.
(٣) إن الأصل في إسناد كل صفة أو فعل إلى اسم الجلالة (الله) أو
ضميره أن يكون مستندًا إلى ذاته سبحانه وتعالى وكذلك الإسناد إلى اسمه الرحمن
الذي استعمل في القرآن استعمال اسم الذات، ولكن هنالك فرقًا بين الصفة كرحيم
وقريب ومجيب وسميع وبصير وبين الفعل الحادث كاستوى على العرش ونزل إلى
السماء الدنيا؛ ولذلك انتقد بعض رواة مذهب السلف وأنصاره من المحدثين كالحافظ
الذهبي على من قال: استوى بذاته، وإن كان مذهبًا لبعضهم، وإنما أوَّل بعض
العلماء إسنادًا من ذلك دون إسناد؛ لأنهم رأوا أن ما أولوه يستحيل جعل الإسناد فيه
إلى الذات على ظاهره من حيث إنه يستلزم تشبيهه تعالى بخلقه أو قيام الحوادث
بذاته كما أول بعضهم آيات المعية بأن المراد بها العلم الإلهي، ولكن بعض تلك
الآيات يظهر فيها هذا التأويل دون بعض، فإذا كان ظاهرًا في قوله تعالى: {مَا
يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ
وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ} (المجادلة:
٧) لأنه افتتح هذه الآية بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ} (المجادلة: ٧) واختتمها بقوله: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: ٧) - إذا كان هذا التأويل ظاهرًا فيها - فهو لا يظهر في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا} (النحل: ١٢٨) وهو ظاهر - ولا قوله: {إِلاَّ
تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: ٤٠) ، فإنه لا يظهر في قرينة الحال
أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد بهذا إعلام صاحبه أبي بكر الصديق رضي
الله عنه أن الله تعالى عالم بخروجهم أو بحالهم في الغار؛ لأنه كان يعلم ذلك - ولا
يظهر هذا من قرينة المقال أيضًا، بل هو يدل بأول الآية وآخرها المتفرع على
الإعلام بالمعية على أن المراد بها أو يلازمها الحفظ والنصر والتأييد فقد قال بعده:
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} (التوبة: ٤٠) إلخ، ومثله
قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه:
٤٦) وأما من ينكر التأويل لهذه الآيات وغيرها من السلف فقد بيَّنا قاعدتهم هنالك
وأعدناها هنا في الرد على الرافضي الذي ذكر بعضه في هذا الجزء وسيأتي باقيه
فيما بعده من النقول الصحيحة فيه.
وحاصله أن ما ذكر من تأويل المعية ومثلها صفة قريب لا ينافي إسنادهما إلى
ذاته تعالى؛ لأن ما ذكر من العلم أو النصر أو إجابة الداعي أو غيرهما هو لازم ما
ذكر لا مدلول نصه، فقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: ١٨٦) يدل بلازمه
على أنه قادر على إجابة الداعي كلمح البصر؛ فلذلك قال بعد إسناد صفة القرب
إلى ذاته: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: ١٨٦) فنجمع بين المعنيين
كما جُمِعَا في الكتاب العزيز، ونقول على قاعدة السلف: إن قربه من الداعين قرب
يليق بذاته وصفاته المخالفة لذوات العباد وصفاتهم، ولو لم يعلل الأستاذ الإمام
القول بقرب الذات بما علَّله به لقلت: إنه عين مذهب السلف، ولم أقل: إنه أقرب
إليه من جهة واحدة ذكرتها.
(٤) إن النقل عن علماء السنة السلفيين في أمثال هذه المسائل مختلفة كما
بيَّنه الحفاظ كشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه في العقل والنقل وغيره، والحافظ ابن
حجر في الفتح وغيره، وما من فئة أو طائفة من العلماء تنتمي إلى مذهب من
المذاهب الكلامية أو الفقهية أو إلى مذهب السلف على الإطلاق إلا ويوجد في كلام
علمائها الخطأ والصواب، والاختلاف في النفي والإثبات، والتأويل لبعض الأسماء
والصفات، حتى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وللحافظ ابن الجوزي الحنبلي
مصنف طبع من عهد قريب يرد فيه على كثير من كبار علماء الحنابلة أخذهم
بظواهر كل ما أسند إليه تعالى من صفات وأفعال حادثة ويبرئ الإمام أحمد من
كثير من أقوالهم ويقول: إنه لا يؤيدها نص إلخ، وقد ألف بعض إخواننا من أهل
الحديث في الهند كتابًا في مذهبهم الذي يعبر عنه بمذهب السلف وبمذهب أهل الأثر
جاء فيه كثير من هذه الخلافات وترجيح بعض الأقوال فيها على بعض، مع التعبير
عن صاحب القول المرجوح أو المردود بقول المؤلف من أصحابنا، وعد من
متقدميهم مالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم من كبار المحدثين، ومن
علماء القرون الوسطى ابن تيمية وابن القيم، ومن المتأخرين ولي الله الدهلوي
والشوكاني ومحمد بن عبد الوهاب.
(٥) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (بيان موافقة صريح المعقول
لصحيح المنقول) في سياق اختلاف كبار العلماء سلفًا وخلفًا في معنى كلام الله
تعالى، وكون كل طائفة يوجد في كلامها الخطأ والصواب ما نصه (ص١٦٢ج٢) :
(ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل
العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل
وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل
المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة
الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا
يؤاخذه بما أخطأه تحقيقه؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: ٢٨٦) اهـ.
وهذا الكلام من أحسن الحقائق التي قرَّرها شيخ الإسلام قدَّس الله روح ومثله
كلامه في تحامي تكفير أحد من المسلمين بعينه فيما يظهر من مخالفته لبعض
النصوص فإن كانت المخالفة في شيء من أصول العقائد القطعية التي لا تتفق مع
دين الإسلام بضرب من الاجتهاد الذي تُسَوِّغه اللغة والقواعد الشرعية وجب
التصريح بكونها كفرًا مع القول بالاحتمال في حق صاحبها ولا سيما بعد موته ولا
سيما إذا كان متبعًا للشرع بالفعل كما قاله شيخ الإسلام في ابن عربي الذي بيَّن ما
في كلامه في الفصوص من الكفر الصريح، فقد ذكر في كتابه إلى الشيخ عدي بن
مسافر ما له أيضًا من الكلام الموافق للكتاب والسنة ومن العبادات ثم قال: (والله
أعلم بما مات عليه) .
وإنه ليسوؤني أن أرى كثيرًا من المنتحلين لمذهب السلف في هذا العصر
احتقار كثير من كبار علماء المسلمين الأعلام الذين اهتدى بعلمهم كثير من الناس
والطعن فيهم بما يرون في كلامهم من بعض التأويلات المخالفة لجمهور السلف،
وإن كان للتأويل فيها وجوه ظاهرة من لغة القرآن، ولم يصح فيها عنهم إجماع،
وهذا من شهوات الأنفس البشرية الذي علم بالاختبار أن ضرره أكبر من نفعه،
وقد ثبت عندي أن السبب الصحيح لكثرة خصوم شيخي الإسلام الإمام ابن حزم
والإمام ابن تيمية هو شدة انتقادهما لبعض الأئمة السابقين، وقد حُرِمَ ألوف كثيرة
من أهل كل عصر من علمهما الواسع لهذا السبب كما نبهنا عليه في ذكر سبب
انتقاض أبي حيان على الثاني بسبب طعنه الشديد في سيبويه كقوله: (فشر) ولما
تنزه قلم ابن القيم عن مثل هذه الشدة كان كلامه مقبولاً عن جميع العلماء حتى فيما
اقتبسه من نور علم أستاذه ابن تيمية رحمهم الله وعفا عنا وعنهم.
والعبرة في الدين بالتوحيد الخالص والتسليم بحقية النصوص ظاهرًا وباطنًا
وبالاهتداء بالعمل، وهذا هو الركن الأعظم في هدي السلف، فقد كرهوا المجادلة
في العقائد وآيات الصفات وأحاديثها ولو بحسن النية، ولكن المبتدعة خالفوهم،
فاضطر بعض علماء السنة إلى الرد عليهم وكرهه بعض، ولا ينبغي أن يكون مثل
هذا بين أهل السنة المهتدين بسيرة السلف فيما بينهم، بل الذي يليق بهم بيان
معانيها بالاختصار مع التذكير بالتنزيه القاطع لطريق التشبيه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: ٢١٣) .
(كتب هذا التعليق للجزء الخامس عقب عودتنا إلى التحرير وتأخر إلى هذا
الجزء لكثرة المواد المهمة) .