للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(مصاب مصر بحسانها ومحسنها)
رزئت الديار المصرية في هذا الشهر برجلين عظيمين لا خلف لهما فيما
امتازا به وهما: حسان الشعر وأديب القطر محمود سامي البارودي، ومحسن مصر
الكبير أحمد المنشاوي. فخسرت الأمة بفقدهما خسارة عظيمة لا عوض لها إلا فيما
نرجوه من فضل الله تعالى بتوفيقه من شاء أن يكون مثل (محمود) في بلاغة
اللسان وثبات الجنان وعلو الهمة ومكارم الأخلاق وحب الإصلاح , ومثل (أحمد)
في بسطة اليد وسخاء النفس وحب الخير للبشر والإعانة على الإصلاح. أما
المصاب بالأول فقد كان موجعًا لأهل الأدب لأنهم هم الذين يعرفون قيمة الفقيد،
ولمعارفه من الوجهاء والفضلاء , وقد نُسي مقامه السياسي عند من كان على رأيه
ومن كان مخالفًا له لأن علو المناصب عرض يطرأ فيكون له حكمه، ويزول
فيمحى رسمه، ولا يذكَر الإنسان إلا بصفاته وأعماله. وأما المصاب بالثاني فقد
أحست به جميع الطبقات في الأمة فتألم له العالم والجاهل والمسلم والإسرائيلي
والنصراني , بل تألم له كل عنصر يقيم في مصر حتى الأجانب؛ لأن إحسانه -
رحمه الله - كان شاملاً عامًّا , وقد كان لتشييع جنازته مشهد ما رأينا مثله لأمير
ولا لعالم أو وزير. وإننا نذكر مجملاً من سيرة الرجلين ليكون درسًا في التاريخ
يستفيد به المستبصرون.
* * *
(محمود سامي البارودي)
(ترجمته عن صحيفة كانت عنده يقال بأن الشيخ محمد عبده
كتبها معه سنة ١٢٩٨)
هو محمود سامي بن حسن حسني بك البارودي ينتهي نسبه إلى نوروز
الأتابكي المالكي الأشرفي [١] . والبارودي نسبة إلى إيتاي البارود بلدة من مديرية
البحيرة بمصر , كان أحد أجداده ملتزمًا لها فنسب إليها على عادة تلك الأيام. ولد
المترجَم لثلاث بقين من رجب سنة ١٢٥٥ , وبعد أن تلقى المبادي التعليمية دخل
المدارس الحربية في سنة ١٢٦٧ في مبادي حكومة عباس باشا الأول وخرج منها
في أواخر سنة ١٢٧١ في أوائل حكومة سعيد باشا. كان في طبعه ميل غريزي إلى
الآداب العربية وفنون الإنشاء والنظم، فاشتعل بها حتى بلغ درجة عالية في النظم
والنثر , وفي شعره من السلاسة والمتانة وحسن التخيل ولطف الأداء وبهجة
الديباجة ما لا نرى نظيره إلا في شعر فحول المخضرمين. ثم جنحت نفسه إلى
تحصيل فنون الآداب التركية فرحل إلى القسطنطينية وأقام هناك بقلم كتابة السر
بنظارة الخارجية في الباب العالي فأتقن اللغة التركية قراءة وكتابة , وله فيها من
الأشعار والرسائل ما يعترف أدباء الترك ببلاغته، وتعلَّم هناك أيضًا اللغة الفارسية
ولما انتهت إمارة مصر إلى إسماعيل باشا وسافر إلى الأستانة لأجل القيام بالشكر
للحضرة السلطانية على ولاية مصر عاد بصاحب الترجمة في حاشيته وكان ذلك في
رمضان سنة ١٢٧٩هـ.
ورقي إلى رتبة البكباشي العسكرية في سبع بَقِين من المحرم سنة ١٢٨٠هـ ,
وفيها سافر مع جماعة من ضباط العسكر المصري إلى فرنسا لمشاهدة التمرينات
العسكرية التي تكون هناك كل عام في المعسكر المعروف باسم (قان دوسالون)
وسافر بعد أن قضى لبانته من ذلك إلى لندره عاصمة إنكلترا لاختبار الأعمال
العسكرية والآلات الحربية فيها ثم عاد إلى مصر فارتقى إلى رتبة القائمقام في الألاي
الثالث من الفرسان المعروف بلقب (الغارديا) وكان ذلك في ١١ جمادى
سنة ١٣٨١.
وفي غاية ذي القعدة من هذه السنة ارتقى إلى رتبة أمير ألاي فكان على الألاي
الرابع من عسكر الحرس المعروف بالفارديا. ولما خرج أهل جزيرة كريد عن
طاعة الدولة في ربيع الأول سنة ١٢٨٣ وأرسلت الإمارة المصرية جيشًا لإسعاد
الدولة على تأديبهم أرسِل المترجَم مع الجيش المصري بوظيفة رئيس الياورية وبعد
إخماد نار الفتنة في ٣ جمادى الثانية سنة ١٢٨٤ أنعم السلطان عبد العزيز عليه
بالوسام العثماني من الدرجة الرابعة , وعاد إلى مصر فكان من حجاب الخديوي (
ياور) ولما صدر الفرمان السلطاني بحصر الخديوية المصرية في ذرية إسماعيل
باشا في ١٣ ربيع الأول سنة ١٢٩٠ وصار محمد توفيق باشا ولي العهد جعل
صاحب الترجمة رئيس الحجاب (الياوران) .
وبعد ثلاث سنين جعله الخديوي كاتب السر الخاص له (مكتوبي أو سكرتير)
وبعد سنتين عاد إلى العسكرية. ولما خرجت بلاد الصرب على الدولة عقيب فتنة
الهرسك وأرسلت الحكومة المصرية جيشًا لمساعدة الدولة على تدويخها أرسل هو إلى
الأستانة برسالة خاصة بذلك , فأقام فيها ثلاثة أشهر وعاد إلى مصر ثم أرسل إليها
برسالة أخرى تختص بفتنة البلغار وخروج الجبل الأسود على الدولة. ولما
اشتعلت نار الحرب بين الدولة وروسيا سافر بعسكره مع الجيش المصري الذي
أرسل لمساعدة الدولة إلى وارنة ولم يعد إلا بعد عقد الهدنة الأخيرة وفي خلال ذلك
رقي إلى رتبة أمير لواء ومنح الوسام المجيدي الثالث والمداليا.
وفي شهر ربيع الآخر سنة ١٢٩٥ عين مديرًا للشرقية ثم عين رئيسا للشحنة
(الضبطية) في مصر مدة سنة كاملة اهتم فيها بحفظ الأمن , وكانت المخاوف
تتناوش الناس من كل مكان لما كان فيها من الأصابع الخفية التي تتلاعب بإثارة
الخواطر في ذلك الوقت أي أواخر حكم إسماعيل باشا بما كان من المنافسة بين
الأمراء والكبراء , ومن توجه كثير من الأفكار لإثارة الشرور وإيقاف حركة الإدارة
حتى إذا ما تم أمر الله بعزل إسماعيل باشا وأقيم وليّ عهده توفيق باشا أميرًا لمصر
جُعل صاحب الترجمة عضوًا في مجلس الوزارة وقلده نظارة عموم الأوقاف
المصرية وكانت مختلة معتلة فأصلح خللها وداوى عللها بما وضعه لها من
القواعد والترتيب (وسمع منه صاحب هذه المجلة أنه اجتهد يومئذ في جمع الكتب
الموقوفة المتفرقة في المساجد وإنشاء دار للكتب (كتبخانه) تجمع فيها , وكان ذلك
مبدأ الفكر في إنشاء المكتبة المصرية المعروفة بالكتبخانة الخديوية) ولما تم أمر
التصفية المصرية على ما يرام رقي المترجَم إلى رتبة فريق , وأعطي الوسام
المجيدي من الدرجة الثانية وذلك في ٩ شعبان سنة ١٣٩٧.
الفتنة العرابية
في غرة شهر ربيع الأول من سنة ١٢٩٨هـ كانت واقعة تألب الضباط
المصريين على ناظر الجهادية لأسباب أحفظتهم عليه , فاجتمعوا على طلب عزله
من النظارة فأجيب طلبهم , وعيَّن الخديوي صاحبَ الترجمة ناظرًا للجهادية جامعًا
بينها وبين نظارة الأوقاف , فاجتهد في إثلاج صدور الضباط واتخاذ الوسائل التي
تكفل حفظ الأمن فتم له ذلك , ولكن ظهر له أن إدارة العسكرية أشد اختلالاً من
نظارة الأوقاف وأنها في حاجة إلى إصلاح عظيم لابد فيه من الروية وطلبه من
أسبابه بالتدريج , فوجه عنايته لذلك واثقًا بحسن نيته ومضاء عزيمته وثقة الأمير
والأمة به - قال كاتب الصحيفة التي نقلنا عنها ما تقدم بتصرف في العبارة دون
المعنى: وفي هذه المدة القصيرة تيسر له إصلاح كثير من شئونها , وتحويل بعض
أحوالها إلى ما هو أحسن , ومن المأمول أن يساعده التوفيق الإلهي على إتمام
مقاصده فيها إن شاء الله تعالى اهـ.
وإننا نتم ترجمته بحسب ما نعلمه من أصح الروايات , وقد علم مما مر وهو
ما كان يحفظه المرحوم مما كتب في أوائل أيام الفتنة أنه لم يكن للمترجَم سابقة
تقتضي استياءه من الأمير , فإنه نشأ في حجر الإمارة عزيزًا كريمًا فبينه وبين
رؤساء العسكرية الذين أثاروا الفتنة فرق , وهم أحمد عرابي وعلى فهمي وعبد
العال وأحمد عبد الغفار، فإنهم كانوا كأكثر المصريين في العسكرية وغيرها
مهضومي الحقوق , والمهضوم يندفع عند الفرصة إلى إزالة الهضم وطلب الحقوق
بشعور قوي من نفسه بالحاجة إلى ذلك , وكثيرًا ما يقوى سلطان الشعور على الفكر ,
فقد كان فكر زعماء الفتنة تابعًا لشعورهم بالألم والخطر المتوقع من جراءتهم على
ما فعلوا لا سيما بعد الظهور بمظهر القوة أمام قصر الإمارة وإلزام الأمير باطنًا بما
أجابهم إليه بالرضا ظاهرًا. أما محمود باشا سامي فإنه كان يعمل بالفكر لمصلحة
أميره وأمته معًا ولا يبعد أن يكون شعوره بوجوب تأييد سلطة الأمير المطلقة وقتئذ
أقوى من فكره بوجوب تأييد مطالب أهل البلاد , وعدم تمييز الترك والجراكسة
عليهم لأن الشعور دائمًا يتبع المنفعة الخاصة , والفكر يؤيد المصلحة العامة، والذي
نظنه أنه كان معتدلاً جامعًا بين مقتضى الشعور ومقتضى الفكر.
كان الرجل على ما بينَّا، ولكنه في رمضان من السنة التي جعله الأمير فيها
ناظرًا للجهادية (سنة ١٢٩٨) أحس بسوء ظنه فيه واتهامه إياه بالاتفاق والاشتراك
مع الضباط فيما كان يصدر عنهم من الأعمال المخالفة للنظام فاستعفى فأعفاه
الأمير, وعين داود باشا يكن ناظرًا للجهادية. ولكن استعفاءه زاد الفتنة احتدامًا ,
ففي منتصف شوال حصلت المظاهرة المشهورة في ميدان قصر عابدين بعد ما
اجتهد الأمير في تسكين جأش الرؤساء المضطربين , وكان ما كان في القصر من
الكلام بين رئيس الفتنة أحمد عرابي وبين الأمير أولاً وقنصل الإنكليز ثانيًا وطلب
عرابي إسقاط وزارة رياض باشا , والتصديق على قانون العسكرية الجديد الذي
ألّفوه , وعزل شيخ الأزهر , وبعد المراجعة رضي بإسقاط الوزارة قبل نزوله من
القصر إلى جيشه المحدق به وتأجيل ما عداه، فأجيب إلى ذلك. ولما بلغ محمود
سامي باشا خبر سقوط وزارة رياض باشا أسف أسفًا شديدًا لاعتقاده أن الخلل سيزيد
والفوضى ستنتشر بعده , وقد سئل عن رأيه في تأليف وزارة تحت رياسة شريف
باشا وهل يجيب الدعوة ليكون فيها ناظرًا للجهادية كما كان؟ فأجاب بأنه عقد النية
على أن لا يدخل في خدمة الحكومة ما دام لرجال العسكرية سلطان يعلو سلطان
النظام , وصمم على ذلك مع الإخلاص وصدق العزيمة , ولما قبل شريف باشا
تأليف الوزارة دعاه ليكون ناظر الجهادية فأبى , ولكن الأمير توفيق باشا نفسه دعاه
وأكد له القول بأنه لم يسئ به ظنًّا قط، بل كان يعتقد إخلاصه في جميع أعماله , وأن
الذي أساء به الظن هو رياض باشا وذكر له أمورًا أثرت في نفسه تأثيرًا حمله على
قبول نظارة الجهادية لا رغبة فيها ولكن خضوعًا للأمير وتشفيًا ممن كان سببًا في
تسوئة سيرته وتشويه سمعته , ووقع بحسن نيته في الشَّرَك الذي كان يتحامى
الوقوع فيه. وفي أثناء هذه الوزارة تألف مجلس النواب المصري وعارض وكيلا
دولتي فرنسا وإنكلترا في نظر النواب وتقريرهم لميزانية الحكومة لما للدولتين من
الديون عند الحكومة التي تسمح لهم بمراقبة ماليتها. ولما أصر النواب على وجوب
النظر في الميزانية كغيرها , وعدم قبول تداخل الأجانب في ذلك , ولم يقبلوا ما
نقحت الوزارة به لائحة مجلس النواب , بل أرسلوا وفدًا إلى الأمير يطلبون تنفيذ ما
قرروه أو إسقاط الوزارة , فاختار الأميرُ صاحبَ الترجمة لتأليف وزارة تحت
رياسته ففعل , وكان ذلك في منتصف ربيع الأول من سنة ١٢٩٩ وسارت الأعمال
بعد ذلك سيرًا مرضيًّا.
ثم كانت المسألة التي سموها مسألة الجراكسة وهي كيد ضباطهم لعرابي باشا
وعزمهم على قتله , وكان ناظر الجهادية فأمر بالقبض عليهم ومحاكمتهم في مجلس
حربي , والمشهور أنهم قبضوا على أربعين منهم عثمان رفقي باشا الذي كان ناظر
الجهادية من قبل , وأن رئيس المجلس الحربي الذي حكم عليهم كان راشد باشا
الجركسي فحكم عليهم بالنفي إلى أقاصي السودان , ولكن مجلس النظار طلب من
الأمير تخفيف العقوبة فأصدر أمره بذلك ولكن خاطب به نظارة الداخلية لا نظارة
الجهادية خلافًا للمتبع يومئذ , فوقع الخلاف يومئذ بين الأمير ومجلس النظار , ومن
ثم وقع الخطر وما كان أغناه عنه.
اجتهد النظار في استرضاء الأمير بواسطة جماعة من النواب استقدموهم من
بلادهم فكلموه وكلمه غيرهم فلم يجب طلبهم. وسأل حينئذ وكلاء الدول من النظار
عن حال الأوربيين في مصر: هل يخشى عليهم من خطر؟ فأجابوهم بأنه لا خوف
عليهم ولا خطر , ولكن الأمير قال عقيب ذلك لهؤلاء الوكلاء أنه لم يبق آمنًا على
مسنده ولا على دماء الأوربيين وأموالهم في مصر , فطلب قنصل فرنسا وإنكلترا
من دولتيهما إرسال أسطولين. الفرنسي طلبه للتهديد والإنكليزي طلبه للعمل , ولما
حضر الأسطولان قدم القنصلان لائحة يطلبان فيها إسقاط الوزارة وإخراج عرابي
من القطر المصري وغير ذلك , وكان ذلك في ٧ رجب سنة ١٢٩٩ الموافق ٢٥
مايو (أيار) سنة ١٨٨٢ فقبلها الأمير , واستعفى المترجَم من الوزارة , وكان
اعتماد الأمير على إنكلترا دون فرنسا ومن آية ذلك تصريح المستر غلادستون
يومئذ بأن دولته تريد أن تؤيد كلمة الجناب الخديوي توفيق باشا لما أظهر من أدلة
الصداقة والإخلاص ... وكان في أثناء ذلك ما كان من الفوضى والاضطراب ,
وكتب عرابي إلى قناصل الدول يضمن لهم الأمن العام , ويقترح رجوع الأسطولين
من الإسكندرية ووضع قانون أساسي يحدد حقوق الأمير والوزراء , وجعل صلات
الدول بمصر في حقوق الدولة العثمانية. وفي تلك الأثناء أرسلت الدولة درويش
باشا مندوبًا لينظر في تلافي الأمور , فكان للأعمال ظهر وبطن , واشتبه الأمر
على الناس وحشر الأجانب إلى الإسكندرية , وهاجر الألوف منهم فزاد الخوف
وكثر الاعتداء في الإسكندرية , وتفاقم الشر بعد ذلك بحريق الإسكندرية الذي كان
بمعرفة محافظها عمر باشا لطفي بوحي خفي لا يخالف. وكان مرشد الأمير في تلك
الأطوار المستر ملت قنصل إنكلترا الذي أُمر رسميًّا من دولته بأن يترك القاهرة بعد
حضور الخديوي إلى الإسكندرية ويلازمه فيها. ثم انتحل أمير الأسطول الإنكليزي
(سيمور) سببًا للعدوان فزعم أن الجهادية تحصن قلاع الإسكندرية لأجل محاربته ,
وفي سبع بقين من شعبان بلغ الإنكليز الخديوي عزم سيمور على مباشرة القتال
بعد يومين وأشاروا عليه بأن يترك قصر رأس التين ويقيم في قصر الرمل ففعل.
وفي اليوم التالي لذلك سافر الأسطول الفرنسي ولم يترك غير سفينتين , وفي اليوم
الذي بعده أطلق الأسطول مدافعه على حصون الإسكندرية - إلخ ما كان مما لا محل
هنا لشرحه بل نكتفي بالمثل: (دم أضاعه أهله) والمراد أن الفتنة قد بلغت أشدها ,
والحرب وقعت , والاحتلال حصل , والمترجَم معتزل لأعمال الحكومة جهادية
وإدارية، حتى إذا كانت الحرب البرية ألزمه عرابي إلزامًا بقيادة فرقة الصالحية
فاضطر للقبول. ولما تمكن الإنكليز من البلاد وحاكموا رجال الثورة حكم عليه
بالنفي إلى سيلان كما هو معلوم. وبهذا انتهت سيرة حياة الرجل السياسية , ومن
عرف أخلاقه وأفكاره وأطواره يجزم معنا بأنه لم يكن في عمل عمله سيئ القصد أو
التصرف , بل كان يريد الخير لبلاده تحت سلطة أميره الذي تغذى بنعمه ونعم أبيه
وارتقى في قصرهما , ولذلك عفا أمير البلاد الحالي عباس حلمي باشا عنه عند
التماس بعض أصحابه ذلك من سموه راضيًا , وقابله بعد حضوره وأعاد له جميع
حقوقه المدنية مع شدة بغضه لغيره من زعماء الفتنة العرابية , حتى إنه ليتألم
من ذكر أسمائهم. وسنذكر في الجزء الآتي نبذة من سيرة الفقيد الأدبية , وترجمة
محسن مصر أحمد باشا المنشاوي، رحمهما الله تعالى وأحسن عزاء أهليهما
ومحبيهما.
***
(سلطان زنجبار)
خلق الله سلطان زنجبار لهذا العهد مستعدًّا للخير والإصلاح , ولقد تلقى العلوم
في مدرسة بلندن فزادته بصيرة , ولم تنقص من دينه ولا من فضائله الإسلامية شيئًا
فهو فاضل ميال إلى منهج السلف كثير المذاكرة في القرآن والسؤال والبحث في
تفسيره , وقد أمر من عهد غير بعيد بإبطال بدع أهل الطرق في اجتماعهم للذكر
وغيره , فظنوا أن هذا من تأثير المنار ولم يعلموا بدرجة بغضه للابتداع وحبه
للاتباع , وقد توجهت عزيمته الصادقة إلى إنشاء مدرسة عظيمة في زنجبار ,
والحكومة تجدّ في بنائها الآن. وقد سررنا جدًّا لهذا النبأ العظيم , ولكننا لم نقف
على قانون المدرسة ولا على برنامج التعليم فيها فنذكر رأينا فيه , وإنما وصلت
إلينا آراء عنها غير مقطوع بها على اختلافها , فقيل أنهم فرضوا على كل تلميذ
٣٥ روبية في الشهر , وقيل أنهم جعلوا التعلم فيها مجانًا لأن العرب لم يتعودوا دفع
الأجرة على التعليم , والهنود يفضلون مدارسهم لثقتهم بها في التعليم ولكون الأجرة
فيها أقل. وهذا هو القول الأخير , ولعله الصحيح , وقيل: إن العناية ستكون فيها
موجهة إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية ثم العربية لأن زمامها سيكون بأيدي
الإفرنج , وقيل: لم يتحقق ذلك , فعسى أن يتفضل علينا بعض القراء بالخبر اليقين
لنبدي رأينا فيه.
* * *
(الشيخ حسين الجسر)
وفد على القاهرة في هذه الأيام أستاذنا الأول الشيخ حسين الجسر الطرابلسي
العلامة الشهير مؤلف الرسالة الحميدية، فتُلقي بالحفاوة من العلماء والفضلاء
العارفين بفضله. وهو الأستاذ الذي تلقينا عنه العلوم العقلية والنقلية ما عدا الحديث
وفقه الشافعية، فإننا أخذناهما عن شيخ الشيوخ محمود نشابة (رحمه الله) وعلى يد
هذين الشيخين تخرجنا , ومنهما أخذنا الإجازة بالتدريس وسيقيم أستاذنا الجسر في
القاهرة أيامًا ويسافر بعدها إلى الحجاز لأداء الفريضة يصحبه محمد كامل بك
البحيري صاحب جريدة طرابلس، فنسأل الله لهما السلامة في السفر والإقامة.
* * *
(هدم الألمانيين للمساجد وتعصبهم على العرب)
كتب إلينا بعض من حضر المعرض الذي أقامته الحكومة الألمانية في دار
السلام قاعدة مستعمرتها في شرقي أفريقية أنه شاهد هناك المركبات المعروفة
بالعربات يجرها الرجال , منها الحسن؛ وهم يمنعون العرب منها , ومنها الرديء
ويباح للعرب قال: (ولكن بعد أن حرموهم من النوعين) . وقال: كان لرجلين
من اليونان لهما خدمة في الحكومة بيت قريب من المسجد الجامع فكانا يشتمان
المؤذن ثم شكواه إلى الحكومة فهدمت الجامع , وأعطت المسلمين جزاء حقيرًا عنه ثم
منعته فماذا ترى؟ وكان في بلد (حالقا) جامع قريب من الساحل فاستاء منه
الألمانيون وهدموه وأعطوا المسلمين بدله محلاًّ آخر فماذا ترى؟ اهـ.
أرأيت أيها القارئ لو أن حكومة إسلامية فعلت مثل هذا ماذا يكون من أثره
السيئ عند هولاء المتمدنين وعند جميع النصارى بل وعند المسلمين؟ أتذكر أن
معاوية ومن بعده من ملوك بني أمية قد اجتهدوا في إرضاء نصارى دمشق ببدل عن
تلك الكنيسة التي أرادوا بها توسعة المسجد فلم يقبلوا لأمنهم في ظل الإسلام؟
أرأيت كيف أغضبوا الوليد بن عبد الملك وأهانوه وهددوه حتى اغتصبها وأدخلها
في المسجد , وكيف جاء عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فحاول هدم المسجد وإرجاع
ما كان منه كنيسة إلى ما كان عليه لولا أن استرضى مسلمو دمشق النصارى كما
ذكرنا في جزء سابق، أرأيت كيف أن المسلمين متفقون على أن الوليد كان ظالمًا ,
وإن أهانوه وهددوه لأن الإسلام لا يجيز له أن ينتقم منهم لنفسه بذلك , كما أنهم
متفقون على أن عمر بن عبد العزيز هو العادل الذي جرى في هذا العمل وغيره
على منهج الراشدين. فانظر الفرق بين المسلمين يوم كانوا أقرب إلى البداوة لمكان
العمل بالدين وبين الإفرنج وهم في أعلى درجة ارتقوا إليها في العلم والتربية
والعدالة؛ يظهر لك أن الإسلام هو الرحمة الكبرى للأنام، وأن هؤلاء الإفرنج مهما
ارتقوا فإنهم أشد الناس تعصبًا لأنفسهم وإيذاء لغير أبناء جنسهم. وقد سلطهم الله
على المسلمين الذين تركوا التمسك بفضائل دينهم لعلهم يرجعون بظلمهم إياهم إلى
هذا الدين، أو يكونوا من الهالكين.
* * *
(ممباسا ولاموا أو سيئات الإنكليز في الاستعمار)
قلنا في أجزاء مضت: إن إنكتلرا أقرب دول أوروبا إلى الحرية والعدل،
وأنهم إذا لم يساعدوا أهالي مستعمراتهم على الارتقاء لا يمنعونهم منه بالقوة كهولندا
وما كان على شاكلتها , وقد كتب إلينا من زار ممباسا ولاموا من مستعمراتها أن
الأموال هناك قد قلت , والأهالي قد هلكوا لعجزهم عن مجاراة النصارى , وفتك
(ميكروبات) المدنية الأوربية فيهم؛ إذ جرفت إليهم ما جرفت إلى مصر من جند
الشهوات الفتاكة على ما فيهم من الجهل العام , ولو ارتقت الإنكليز في الرحمة
والإنسانية درجة أخرى لمنعت هؤلاء المساكين أو منعت عنهم هذه المضار ,
وسارت في هذا الأمر كما سارت في بعض الأمور على منهج المسلمين الذين
يشترط عليهم القرآن أن يأمروا في الأرض التي يتمكنون منها بالمعروف وينهوا
عن المنكر , بل كتب إلينا من زنجبار أنهم أخذوا أوقاف المساجد بحجة المحافظة
عليها. فهل فعل المسلمون مثل هذا العدوان في أيام تمسكهم بالإسلام، وقوتهم التي
دان لها الأنام؟ أوفي يوم ما من الأيام.