لقد رأيت في الفصول السابقة أثر التوحيد في تحرير الفكر، ومنع الوساطة بين الله وبين الإنسان، وأن من مبادئ الإسلام كفايته وقدرته العقلية على الفهم والمساواة بين الناس أجمعين، وتحديد العلاقة بين الناس، وواجب صاحب السلطان نحو رعيته، وواجب الرعية نحو الراعي، كما يتجلى في كتاب سيدنا علي كرم الله وجهه (وقد تقدمت نبذة منه) . هذه المبادئ لا ترضي المستشرقين، وليس من صالح الأمم الغربية أن يعرفها أهلها حتى لا يندفعوا أيضًا نحو تلك المبادئ، ومن هنا كان عمل المستشرقين مزدوجًا به تشويه الإسلام، وتنفير أوروبا وحمايتها منه. ولذلك رأينا من فلاسفة أوربا آراء أقل ما نقول فيها أنها عربدة في قالب مزخرف وجهل في ثوب منمق. فانظر إلى رينان في كتابه عن ابن رشد ومذهبه إذ يقول: (إن خواص النفس السامية - أي التي منها العرب - تتجلى في انسياق فطرتها إلى التوحيد من جهة الدين وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية، أما النفس الآرية - التي منها أوربا - فيميزها ميل فطري إلى التعدد وانسجام التأليف) . وكثير من المستشرقين على هذا النمط المضحك من الاستنتاج ويريدون بذلك أن يقولوا إن دين العرب على قدر عقولهم. وليس أدل على عدم المنطق وإغفال الحقائق في هذا القول من أن العرب قبل الإسلام كانوا مشتركين غاية في الشرك، فكيف اتفق ذلك من ميولهم؟ ولماذا قاوموا الدعوة الإسلامية في مبدئها، وكيف وُصفوا في القرآن بقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) . وكان من شرك الجاهلية أن تلبيتهم في حجهم كانت الشرك المجسم، فكانت قبيلة نزار تقول: لبيك لا شريك لك ... إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك (راجع كتاب الأصنام) ثم ارجع معنا إلى الفصل السابق من التوحيد، وتدبر معنا سر الوحدة العربية، وأن الإسلام طبع الأمم التي انتشر فيها بالطابع العربي وإن لم يكونوا من المسلمين، وليس أدل على العدل المطلق من أن يتكافأ الشخصان على تباين دينهما أمام الإسلام في القضاء، وأن لا يكون للمسلم ميزة على غيره كما سبق. هذه المسألة - وهي التوحيد في المعاملة، والتوحيد في النظر إلى الأجناس المختلفة في ظل الإسلام - لا ترضي جماعة المستشرقين؛ لأنهم طلائع التفريق وتشتيت الوحدات العربية والبلاد الإسلامية. فاستغلوا علومهم في البحث والتنقيب واختراع النظريات الملفقة والدعاوى المشعوذة، فهاجموا أسماء قواد المسلمين وعظماء الفاتحين وأخذوا ينسبونهم إلى غير العرب وغير الإسلام. وبذلك أصبحنا نقرأ من نفثات أقلام المستشرقين مباحث علمية عويصة - اقرأ واعجب - أن أهالي مراكش من البربر ما عرفوا الإسلام وما آمنوا به في يوم من الأيام، وأنهم لا زالوا غير مسلمين، وأن العرب الذين فتحوا الأندلس وغزوا فرنسا وإيطاليا كانوا مسيحيين، وأن طارق بن زياد القائد العظيم، والذي رفع منار الإسلام في الأندلس لم يكن عربيًّا، ولا مسلمًا ولكنه كان بربريًّا مسيحيًّا، وقد استعار جيرو هذه النظرية للإصلاح القانوني في مراكش (راجع تقرير لجنة العمل المغربي المقدم للمؤتمر الإسلامي ببيت المقدس صفحة ٤) . وليس من غرضنا أن نتكلم في موضوع السياسة والاستعمار ولكن هذه النظريات ليس الغرض منها سوى تشتيت الأمم وتمزيقها وخلق عصبيات متعددة فيها مما أصبح مألوفًا لدى كل من له أقل إلمام أو اطلاع على تاريخ الاستعمار وطرق استثمار الخلافات في الجنس والدين. أما وحدة اللغة العربية فقد عمل الستشرقون كل ما يمكن عمله لتشويهها وإظهارها في مظهر أضعف لغات العالم، وأن اللغات واللهجات العامية خير منها استعمالا. وصار يعدها المستشرق بريغو اللغة اللاتينية للعربي، ويقول عنها في مقدمة كتابه الذي يدرسه الطلبة الفرنسيون باللغة العربية. إلى أن يقول: لا تظن أنني سأعلمك لغة القرآن؛ فهذه اللغة قد ماتت ولا يتكلم بها أحد فهي لاتينية العربي، وهي اللغة المستعملة في جنة محمد وسأحبب إليك دراستها في المستقبل إذا أردت أن تتذوق حلاوة الاجتماع بالحور العين. وبهذه الطريقة أصبح المستشرقون يناصبون اللغة العربية الفصحى العداء، فيتشككون في النثر الجاهلي والشعر الجاهلي، ويلقون الشك في كل شيء يتصل باللغة العربية، ولهم في ذلك مباحث أقرب للتهريج منها إلى العلم الصحيح، ولموسيه في ذلك آراء منقوضة وأفكار مردودة (راجع كتاب النثر الفني) . بقيت مسألة القرآن الكريم الذي هو الدعامة الثابتة التي عجز العالم عن التحرش بها والصخرة العظيمة التي إذا أراد أكبر مستشرق أن ينطحها تكسرت جمجمته قبل أن يصل إلى حرمها؛ ولذلك رأينا آراءهم في ذلك تهريجًا وشعوذة. هاك المستشرق مرجوليث أستاذ اللغة العربية بجامعة أكسفورد لم يترك نقيصة في العالم إلا نسبها لسيدنا محمد، ولم يترك فحشًا من القول إلا نسبه للقرآن، وإليك أمثلة من ذلك: قال في صحيفة ٢٣٦٤ من تاريخ العالم العام ما يأتي: (وإن كان محمد لم يترك تاريخًا مفصّلاً لحياته إلا أن في القرآن كل عواطفه وإحساسه، والقرآن كسجل تاريخي ليس مرتبًا حسب الحوادث والتاريخ) ثم يقول: (ربما كان الكثير منه مما لم يتذكره الرواة تمامًا عند روايته، وقد يكون بعضه دخيلاً في عصر متأخر، وبعضه مسلَّم به أنه في عصر الرسول ولو أنه نسب إليه خطأ) . ثم يستفرغ مرجوليث من فِيه كل أنواع المطاعن فيقول (من المشكوك فيه أننا لا نعلم اسم والد النبي؛ لأن لفظة عبد الله معناها في العهد الأخير الشخص المجهول وربما كان لها هذا المعنى عند إطلاقها على والد النبي وقصة يتمه التي وردت في القرآن لا يلزم أن نأخذ بها على معناها الأدبي. والعلاقة المفروضة بين أمه وبين أهل يثرب مسألة مشكوك فيها، كالقصص التي جعلت الإسكندر الأكبر فارسيًّا أو مصريًّا بالنسبة لوالدته) . إلى هذا الحد بلغ ذوق وأدب المستشرقين عند كلامهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحياء ليمنعني أن أذكر المعنى العادي الذي قصده مرجوليت من قوله (ابن عبد الله) نسبه إلى الأب المجهول، ومع ذلك يعجب بعض الناس بالمستشرقين وهم لا يعرفون من أمرهم شيئًا. وانتقدنا طريقة مرجوليث في هذا النوع من التهريج العلمي من غير سند أو دليل وإلقائه الكلام على عواهنه من غير إثبات، فهذا الخواجة قال إن القرآن ملفق، وقال إن سيدنا محمدًا على أبسط تعبير لا يُعرف له أب أو أم. ونشرنا هذا الرد في مجلة المعرفة، فأرسل مرجوليوث خطابًا يعلق فيه على ما قلنا هذا نصُّه [١] : (أما ما كتب الدكتور حسين الهراوي في ذمِّ المستشرقين، فلو كان ما أودع مقاله من الشخصيات تلق بالآداب، لم يكن ما يمنع من الخوض في الموضوع والتمييز بين الخطأ والصواب، أما المسائل التي ذكرها فلست أرى فائدة في مداخلتها؛ لأنها أقرب إلى منابر الخطباء منها إلى مجالس الأدباء) . * * * د. س مرجليوث وردًّا على ذلك نقول: إننا تناولنا من آراء مرجوليث مسألتين مما كتبه في تاريخ العالم العام في الفصل التاسع والثمانين: الأولى: أنه ذكر عن سيدنا محمد أنه مجهول الأب والأم. والثانية: قوله إن إعجاز أسلوب القرآن يفسَّر إما بأنه لا يمكن تقليده، أو الإخبار بأمور يمكن التحقق منها، ولم يكن للنبي وسيلة لمعرفتها، وأننا نعلم من القرآن أن كلاًّ من هذين الادعاءين - عندما أُذيع - لم يسلم من النقد، فالأمر الأول أن الذوق الكتابي يختلف كباقي الأذواق، وعن الأمر الثاني - لو أنه وُجدت وسيلة للتحقق من صدق النبي - فهذا يُفهم منه أنه أمكنه - بنفس هذه الوسيلة - معرفة الأمر الذي ذكره. وكذلك قال مرجوليث، إن محمداً اعترف في مبدأ رسالته بمعرفة القراءة والكتابة. ولنناقش مرجوليث الحساب في هذه المسائل التي يرى أن ردنا عليها فيما مضي أقرب إلى منابر الخطباء منه إلى مجلس الأدباء، أي بعبارة أخرى ليس له علاقة بالأدب العربي ولا بعلم من العلوم، فأما عن والد سيدنا محمد، فنحن ننكر على أدب أستاذ في جامعة أكسفورد أن يوجه مثل هذا الطعن في نبي يدين بدينه ملايين المسلمين، وأن يتفوَّه بتهمة تترفع أبسط قواعد الآداب الاجتماعية العامة عن أن توجهها لأقل الناس مركزًا. وثانيًا: إن مرجوليث لا يعرف شيئًا عن الأدب ولا الأدب العربي، وإلا لعلم أن العرب كان فيهم نسّابون ولو أنه تكلم أولاً عنهم وعن مصادر الشك في أقوالهم وتنسيبهم، لكان لنا أن نناقشه بالأدلة العلمية، أما وهو لم يذكر شيئًا من هذا فدليل على أنه لا يعرفه. وثالثًا: لأن جد محمد - عليه السلام - وعمه هما اللذان كفلاه صغيرًا، ولو كان مجهول الأب ما عرف له عم ولا جد، وهذا يدل على أن مرجوليث لا يعرف شيئًا من تاريخ سيدنا محمد، عليه السلام. ورابعًا: أن عصبية محمد - عليه السلام - حمته في مبدأ رسالته، ولو كان مجهول الأب ما كانت له عصبية. فإذا كان مرجوليث لا يصدق شيئًا من ذلك - ولابد أن يكون قرأه - فليقل لنا هو كيف يريد أن نصدق كلامه، وكيف أمكن وجود أشخاص تربطهم بالنبي الكريم صلات العصبية حتى بعد الإسلام، إذا كنا ننكر كل ذلك لأن مرجوليث قالها، إذن فعلى العقول السلام. ثم فليفسر لنا مرجوليث كيف مكَّنته نفسه، وكيف مكَّنه ضميره أن يقول هذا؟ وعلى أي المراجع الموثوق بها عوَّل في بحثه؟ فهو إما لا يعرف شيئًا مطلقًا، وإما يريد التشهير والتشنيع! وهذا ما لا يشرف الباحثين. ثم فليجبنا: أليست الأنساب والنسابون جزءًا من صميم التاريخ والأدب العربي أو هي ضروب من خطب المنابر؟ ! وإذا كانت ضروبًا من خطب المنابر فكيف حفظ التاريخ أنساب قومٍ لم يكن لهم مرتبته - عليه السلام - من الوجهة الاجتماعية والأثر الخالد. وكيف أمكن معرفة نسب والدته وزوجه خديجة؟ ثم كيف أمكن تنسيب شعراء مشهورين مثل امرئ القيس وغيره؟ أما القول في مسألة إعجاز أسلوب القرآن بأنها مسألة ذوق، فإني أرى أن مرجوليث - كما يُستدل من أسلوب خطابه - ذو أسلوب ملتوٍ ركيك يجعله آخر شخص يؤخذ برأيه في مسألة الذوق الكتابي، بعد أن تحدّى القرآن نفسه الناس كلهم بل الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا، فلم يبق في نظر صاحبنا مرجوليث إلا نقد الأسلوب بميزان الأذواق التي تختلف دقة ورقة. ونحن معه على أن يكون الشرط الأساسي أن تكون هذه الأذواق سليمة تتفهم روح العربية. والمستشرقون هم أبعد الناس عن تفهُّم تلك الروح؛ ولهذا فإنهم ينشرون مؤلفاتهم باللغات الأجنبية وإن كانت بعض مقدمات الكتب التي طبعوها قد كتبت باللغة العربية، إلا أن الحكم على أساليبهم قد لا يرضيهم من الأدب الكتابي الفني. وإذا كان مرجوليث حصر إعجاز القرآن في الأسلوب والإخبار بالغيب، فقد فاته أن ضروب الإعجاز في القرآن كثيرة ومنوعة، وليس من موضوعه شرحها. على أننا نسائل أستاذ الأدب الأكبر! ما قوله دام فضله في أنواع الإعجاز العلمي التي أثبت العلم الحديث مدى صدقها، ونذكر منها على سبيل المثال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: ٢٢) و {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: ٢) أي دور الحيوانات المنوية {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: ١٤) وهي تتمشى مع العلم جنبًا إلى جنب. فهل كشف العلم عن إعجاز هذه الآيات إلا حديثًا؟ وهل كان الميكروسكوب (المجهر) وعلم تكوين الأجِنَّة معروفًا من قبل عند نزول القرآن الكريم؟ ولا يفوتنا أن نتكلم عن النقد فالنقد هو أسهل شيء في العالم وبابه هو أوسع الأبواب، فقد ينقد شخص ما الخلقة البشرية بأن عيني الإنسان في وجهه وليس له مثلهما في قفاه لينظر من خلف كما ينظر من الأمام؟ وقد ينتقد البهلوان طريقة السير على الأقدام ويستحسن أن يمشي الإنسان على يديه رافعًا قدميه في الهواء. كل هذه أنواع من النقد قد يراها أهلها صحيحة، ولكن الذوق السليم والعقل السليم بصفة خاصة يأبيانها على الناقد. وهذا هو النقد الذي يوجه إلى تجاهل نسب النبي العظيم وأسلوب القرآن، لا يقصد به إلا مجرد تشهير وتشنيع. وكيف يفسر قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: ٣) بأنها اعتراف من النبي الكريم بمعرفة القراءة، وهل هذا يدل على أنه يفهم روح القرآن؟ وقد أطيل البحث إذا استقصيت آراء مرجوليث في مصادر القرآن التي يقول بها ويقول بها معه المستشرقون الذين ينحون نحوه، فقد ادَّعوا أن النبي - عليه السلام - قد درس كل الفلسفة اليونانية، ثم حفظ التاريخ الفارسي، ثم عرف كل الأديان الهندية القديمة، كما اطلع على كل حِكَم الصين، وأخرج من كل هؤلاء كتاب سماه القرآن. ومعنى ذلك أن الدراسات التي استنفدت القرون الأولى حتى القرن العشرين وتخصص لها العلماء الذين عكفوا على دراسة لغاتها المتعددة والجولان بين آثارها البالية، كل هذا قد تعلَّمه محمد - عليه السلام - في سياحته للشام. فإذا رجعت إلي التاريخ، وجدت أن هذه السياحة لم تكن إلا ثلاثة أشهر، كما تقدم. فهل في هذا منطق يناقش؟ وهل هذا أسلوب المنابر أم في صميم الأدب العربي والتاريخ؟ ولما نشرت المعرفة هذه المقالة للرد على مرجوليث قطع اشتراكه من المجلة، ولم يعد يراسل صاحبها، وكان هذا هو الجواب، فتأمل! ! ((يتبع بمقال تالٍ))