للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اشتراط
الولي في النكاح
قد تكرر القول منا بأننا ننشر في المنار كل ما ينتقده أهل العلم علينا ونبدي
رأينا فيه ونترك الترجيح للقراء، والحق أبلج لا يخفى على ذي البصيرة.
وإننا نحب أن ننشر ذلك في آخر جزء من السنة؛ إلا أن يكون الانتقاد يتعلق
بشبهة على الاعتقاد أو نحو ذلك مما يضر تأخير نشره. وقد ورد علينا في ذي
الحجة من السنة الماضية انتقاد من أحد فقهاء الحنفية في الهند على ما كتبناه في
مسألة اشتراط الولي في النكاح، وكان الجزء الرابع والعشرين قد كتبت أصوله
فأخرت الانتقاد ونسيته زمنًا، ولما راجعت الآن ما لدي مما انتقد به عَلَيّ رأيته مع
آخر فجعلته في أول الباب فأنا أنشره ثم أجيب عنه بما يتسع له الباب. قال
المعترض بعد البسملة والحمد والاستعانة ما نصه:
(أما بعد فما أغرب المنار ما أتى به في مجلته (كذا) (الجزء الثاني عشر
من المجلد السابع) بأن الولي لا بد منه للنساء (كذا) في عقد النكاح سواء كن
بالغات أم لا، وإنه لا يجوز نكاح المرأة بغير الولي، وزعم أن قول الإمام أبي حنيفة
رحمه الله بعدم اشترط الولي في نكاح المرأة المكلفة مخالف للكتاب والسنة وقول
الصحابة، واستدل على دعواه بحجج ليست بنص على ما ادعى، واستدلالات غير
مثبته لما نطق وقضى، فأردنا في هذه المقالة كشف الستر عن وجه هذه المسألة
ورفع الحجاب عن ساحة تلك القضية، فأقول وبالله التوفيق: إن قول الإمام في هذا
الباب هو الموافق للكتاب المبين وسنة رسول رب العالمين وآثار الصحابة والتابعين.
أما كتاب الله تعالى فقد قال جل وعلا: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة: ٢٣٠) فإنه سبحانه نسب النكاح إلى النساء وإن كان
لا يجوز بدون الرجال ما نسبه إليهن (كذا) بل إلى الأولياء. وأما قوله تعالى:
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: ٣٢) فهو وإن كان فيه خطاب مع الرجال الذين
يتولون العقد لكن لا يفهم منه اشتراط الولي، وأنه لا بد منه كذلك قوله تعالى: {وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم
بِالْمَعُروفِ} (البقرة: ٢٣٢) لا يفهم منه أيضًا اشتراط الولي، بل ليس فيه ذكر
الولي حتى يستدل به على الاشتراط أو عدمه، فإن الخطاب في (لا تعضلوهن)
للأزواج لا للأولياء كما فهمه (صاحب المنار) كيف؟ وينتشر منه الكلام ويتفكك
به النظام فإن الخطاب في إذا طلقتم مع الأزواج قطعًا، وإذا كان الخطاب في {فَلاَ
تَعْضُلُوهُن} (البقرة: ٢٣٢) مع الأولياء لا مع الأزواج ينتشر الكلام ويتعذر فهم
المرام وكلام الله تعالى عما يصفون كما حققه الرازي في تفسيره حيث قال اختلف
المفسرون في أن قوله فلا تعضلوهن خطاب لمن؟ فقال الأكثرون أنه خطاب
للأولياء وقال بعضهم أنه خطاب للأزواج وهذا هو المختار الذي يدل عليه أن قوله
تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ} (البقرة: ٢٣٢) جملة
واحدة واحد مركبة من شرط وجزاء، فالشرط قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ} (البقرة: ٢٣٢) والجزاء قوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (البقرة: ٢٣٢) ولا
شك أن الشرط وهو قوله: (إذا طلقتم النساء) خطاب مع الأزواج فوجب أن
يكون الجزاء وهو قوله فلا تعضلوهن خطابًا معهم أيضًا؛ إذ لو لم يكن كذلك لصار
تقدير الآية إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وحينئذ لا يكون
بين الشرط والجزاء مناسبة أصلاً وذلك توجب تفكك نظم الكلام وتنزيه كلام الله
عن مثله واجب.
وأما حديث معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم فأنكحتها إياه
فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته
ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت
تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدًا وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع
إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية، قال ففيّ نزلت
فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه.
فهو أيضًا لا يدل على أن الخطاب مع الأولياء، أما تعلم ما تقرر في الأصول
من أن العبرة بعموم المعنى لا لخصوص المورد، فهذه الآية وإن كانت مورده (كذا)
الخاص الأزواج، ولكن لما كانت العبرة لعموم الفحوى دخل فيه عضل معقل بن
يسار الذي هو ولي هذه المرأة، ففهم أن الآية فيَّ نزلت (كذا) .
أما قول القائل: (ولو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت مع ما ذكر من رغبتها)
فمدفوغ إذ يجوز أن تكون امتناعها (كذا) عن التزوج بعدم تمكنها مخالفة أخيها
(كذا) الذي حلف بأن لا يزوجها به مع رغبتها إليه (كذا) لأن الغالب في النساء أن
يكن تحت تدبير الأولياء وآرائهم ولا يقدرن على المخالفة في باب النكاح، وإن كان
الإذن الشرعي لهن في ذلك (كذا) كما حققه الرازي في تفسيره حيث قال: لم لا
يجوز أن يكون المراد بقوله: (فلا تعضلوهن) أن يخليها ورأيها في ذلك،
وذلك؛ لأن الغالب في النساء الأيامى أن يتركن إلى رأي الأولياء في باب
النكاح. وإن كان الاستئذان الشرعي لهن وإن يكن تحت تدبيرهم ورأيهم وحينئذ
يكونون متمكنين من منعهن كتمكنهم من تزويجهن؛ فيكون النهي محمولاً على هذا
الوجه وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية.
وكذلك قوله {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} (البقرة: ٢٣٧)
الآية لا يفيد لدعواكم (كذا) سلمنا أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح هو الولي لكن
يحمل على الصغيرة كما أن (أن يعفون) على الكبيرة (كذا) غاية ما في الباب أنه
يلزم منه أن نكاح الصغيرة لا ينعقد بدون الولي، وأنه لابد منه، وهذا عين ما ذهبنا
إليه.
وأما سنة رسول الله فمنها ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي قال:
(جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت أهب
لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَعَّد النظر فيها وصوبه،
ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها
شيئًا جلست؛ فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة
فزوجنيها، فقال: وهل عندك من شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله، فقال:
اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئًا،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظر ولو خاتمًا من حديد؛ فذهب ثم
رجع فقال: والله يا رسول الله ولا خاتمًا من حديد ولكن هذا إزاري، فقال سهل: ما
له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنع بإزارك؟ إن
لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء فجلس الرجل حتى إذا
طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليًا فأمر به فدُعِي فلما جاء
قال: ماذا معك من القرآن؟ قال معي سورة كذا وسورة كذا، عددها فقال: تقرأهن
عن ظهر قلبك؟ قال: نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) فقد أنكحها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن وليها ومع عدم التفتيش والتنقيح بحال
وليها (كذا) ودعوى الخصوصية لا تسمع بغير دليل (رواية الأكثرين زوجتكها
بدل ملكتكها) .
ومنها ما رواه الطحاوي في معاني الآثار عن أم سلمة قالت: دخل عليّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة فخطبني إلى نفسي، فقلت: يا رسول
الله: إنه ليس أحد من أوليائي شاهدًا. فقال: إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره
ذلك. قالت: قم يا عمر فزوج النبي صلى الله عليه وسلم فتزوج. ومنها ما رواه
سعيد بن منصور في سننه، حدثنا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن ربيع عن أبي
سلمة: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أنكحني
رجلاً وأنا كارهة. فقال لأبيها: لا نكاح لك، اذهبي فانكحي من شئت. فهذه
الأحاديث كما ترى دالة على عدم اشتراط الولي وأن النساء البالغات لهن أن
يباشرن العقد بنفسهن من غير احتياج إلى الرجال.
وأما ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم: لا تنكح الأيم حتى
تستأمر ولا البكر حتى تستأذن، فلا يفهم منه أن حق التزوج (كذا) للرجال دون
النساء كيف ومفاد الحديث أن نكاح الأيم وكذا البكر لا تنعقدان (كذا) بدون
إجازتهما صريحًا أو كناية، وأما أن حقيقة مباشرة العقد للرجال والنساء فهو بمعزل
عن هذا كيف لا، وقد روى هذا الحديث ابن عباس بلفظ الثيب أحق بنفسها من وليها
والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها والتأويل بأن المراد أن لا يزوجها إلا بأمر
صريح تحريف باطل لا يقبله العقل السليم والفهم المستقيم.
وأما حديث أبي موسى لا نكاح إلا بولي فقد أعله ابن حبان بالإرسال كما
ذكره الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام وتصحيح الحاكم كتحسين الترمذي لا يعتدان
بشيء (كذا) وكذلك حديث أيما امرأة أنكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها
باطل فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا
فالسلطان ولي من لا ولي له. أيضًا ضعيف فإن الزهري الراوي أنكر منه (كذا)
وقال: أخشى أن يكون سليمان وهم كما نقله الحافظ ابن حجر في الدراية على أن
عائشة التي روت هذا الحديث زوجت حفصة بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب
بالشام كما أخرجه مالك في الموطأ، فنسبة النسيان إلى الزهري كما فعله صاحب
المنار كما ترى.
والحاصل أن حديث (لا نكاح إلا بولي) وإن كان ينجبر ضعفه بكثرة
الطرق لكن لا يساوي درجة الكتاب والصحاح من الأحاديث التي ذكرت فضلاً عن أن
يكون فاضلاً فافهم وأنصف. وكذلك حديث أبي هريرة: لا تزوج المرأة المرأة ولا
تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها. رفعه غير محفوظ كيف
وأكثر أصحاب هشام بن حسان أحد رواة هذا الحديث كنضر بن شميل وسفيان بن
عيينة وغيرهما يرويانه موقوفًا وكذا الإمام الأوزاعي الذي هو المتابع للهشام (كذا)
أيضًا يرويه موقوفًا قال الشوكاني في نيل الأوطار: الصحيح وقفه على أبي
هريرة.
وقد نقل في عدم (كذا) اشتراط الولي في النكاح عن عثمان وعلي وغيرهما
من الصحابة وموسى بن عبد الله والزهري والشعبي وغيرهم من التابعين كما نقله
ابن أبي شيبة في مصنفه فتبين بهذا بطلان قول الحافظ ابن المنذر: إنه لا يعرف عن
أحد من الصحابة خلاف ذلك. فتنور بهذا جله أن كتاب الله وسنة رسول الله وأقوال
الصاحبة والتابعين كلها تدل على أن نكاح المرأة الحرة البالغة العاقلة نفسها (كذا)
بغير ولي جائز.
هذا حكم الله في دينه وحكمته ظاهرة، فإن النكاح تصرف في خالص حقها وهي
من أهله لكونها عاقلة بالغة، ولهذا جاز لها التصرف في الأموال واختيار الأزواج فلا
معنى لاشتراط الولي لصحته، غاية ما في الباب أن يكون للولي اعتراض إذا
قصرت في أمر بأن تزوجت بغير كفء أو بأقل من مهر المثل، والله أعلم وعلمه أتم.
... ... ... ... ... ... ... ... (عبد الرؤوف البهاري)

هذا ما كتبه بحروفه المعترض، لم نصحح منه إلا عبارة الرازي وبعض أغلاط
الإملاء وهي قليلة وأشرنا إلى بعض ما في عبارته من الغلط والضعف بكلمة (كذا)
وقد أرسل إلينا مقالته بعض قراء المنار الأخيار، وكتب إلينا في آخرها ما يأتي:
حضرة الفاضل العلامة والماجد الفهامة أدام الله مجدكم:
السلام عليكم ورحمة الله وبعد: فإن مقالتكم في المنار في اشتراط الولي في
النكاح لما نظر بعض أحبتي إليها، وأمعن فيها كتب لي بما يتضمنه هذا الكتاب
فأحببنا إرسالها إلى جنابكم رجاء إشاعتها في مجلتكم. وإن شئتم أجبتم عما فيه ولكن
الفضل ولا زلتم بخير.
... ... ... ... ... ... ... ... السيد رحمة الله مهتمم ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... مدرسة جامع العلوم مظفر ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... بور - الهند
جواب المنار
نشهد الله تعالى أنه لو ظهر لنا أن ما قاله هذا المعترض حق لاعترفنا به، وهل
يمنع المشتغل بالعلم من رؤية الحق حقًّا والاعتراف به إلا التعصب لمذهب معين
يحاول أن يثبت له الحق في جميع مسائل الخلاف وينفيه عن مخالفيه وما نحن
بالمتعصبين، إن نقول إلا كما قال إمام دار الهجرة (كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد
عليه إلا صاحب هذا القبر) يعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم: وإذا كان جماهير
علماء الأمة قد أثبتوا في الأصول أن الحق واحد في كل مسألة، وأنه لا عصمة في
بيان أحكام الشريعة إلا للأنبياء، فليس يعقل أن يكون واحد من الأئمة قد أصاب في
كل ما خالف به غيره وأخطأ سائرهم فيه بل يصيب هذا تارة وذاك تارة أخرى،
والمتأخر أقرب إلى الصواب غالبًا؛ لأنه يطلع على ما قاله المتقدم ويزيد عليه. وقد
قال الإمام الشافعي للإمام محمد صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أجمعين:
ناشدتك الله أصاحبنا (يعني الإمام مالكًا) أعلم بكتاب الله أم صاحبكم (يعني أبا
حنيفة) فقال: اللهم صاحبكم وسأله مثل هذا في السنة فاعترف بأن مالكًا أعلم بها
فقال له الشافعي: فعلام تقيس أنت وصاحبكم. اهـ بالمعنى.
ونحن نعلم أن الشافعي قد أخذ الحديث عن مالك وحفظ الموطأ وزاد عليه في
الرواية وكان عربيًّا يحتج بعربيته، ومع ذلك قال: طلبت لغة العرب عشرين سنة.
ثم إن الإمام أحمد أخذ عن الشافعي، وزاد عليه في الرواية وكان عربيًّا فصيحًا فالذي
يغلب على الظن ويوافق سنة التدريج التي كان بها خاتم النبيين أفضلهم أن أقرب
المذاهب إلى الصواب في المسائل الخلافية أحمد فالشافعي فمالك فأبوحنيفة
رضوان الله عليهم أجمعين. ليس هذا بقادح في فضل المتقدم بالسبق إذ يوجد في
الفاضل ما لا يوجد في الأفضل كما مثلنا بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا يجب أن
يكون المتأخر هو المصيب دائمًا، وإن تساوى مع سابقه في درجة الاجتهاد وزاد في
الاطلاع لما يعرض للمرء أحيانًا من الذهول والنسيان وكلال الذهن وغير ذلك من
العوارض، ولذلك وجب عرض مسائل الخلاف على الكتاب والسُّنة كما قال تعالى:
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) والرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه
والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته لا خلاف في ذلك. والواجب أن يرد
ما يتنازع فيه إليهما على أنهما الأصل الذي يحمل عليه غيره لا لأجل تطبيقهما على
قول معين ولو بالتكلف وجعلهما فرعين، فإن هذا هو التفسير بالرأي الذي قاله فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس مرفوعًا؛ إذ تمهد هذا فإليك البحث
فيما كتبه المعترض في تطبيق الآيات والأحاديث على مذهبه على ضعفه في اللغة
العربية كما علمت من عبارته:
(١) استدل بقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ} (البقرة: ٢٣٠) على أن المرأة تتولى العقد بنفسها دون وليها؛ لأنه
أسند النكاح إليها. ونسي أو تناسى أن النكاح هنا لا يصح أن يفسر بالعقد؛ إذ لو فسر
به لكانت الآية دليلاً على أن المطلقة ثلاثًا إذا عقد عليها رجل آخر وطلقها ولم
يدخل بها فإنها تحل لزوجها الأول، وهذا مخالف لمذهب إمامه الذي يريد الانتصار له
ولمذاهب الأئمة الثلاثة وغيرهم من السلف والخلف، فهو تفسير مردود لا يقول به
أحد من المسلمين وقد بينا معنى الآية في موضعها من التفسير فراجعها في الجزء
الثالث (ص ٤٨١) من هذا المجلد.
(٢) زعم أن قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: ٣٢) الآية يفهم
منه اشتراط الولي. ونقول: يفهم منه أن الرجال مخاطبون من الله تعالى بتزويج النساء ولم يخاطب سبحانه النساء بتزويج أنفسهن، فكيف تزعم أن القرآن يدل
على أنه شرع للمرأة أن تزوج نفسها؟ وقد علم من السنة التي جرى عليها السلف
والخلف من الأمة أن الرجال المخاطبين بتزويج النساء هم الأقربون المعبر عنهم
بالأولياء لا الأجانب.
(٣) وزعم أيضًا أن قوله تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} (البقرة: ٢٣٢) لا يفهم منه اشتراط الولي لأنه لم يذكر الولي، ولأن النظام يتفكك
بهذا التفسير وإنه لزعم غريب اعتاد مثله أهل الجدل. كأن هذا القائل ومن نقل عنه
أعلم بمدلول الكلام ونظامه من الصحابي الذي قال: إن الآية نزلت فيه إذ عضل؛
أخته فلم يرض أن يعيدها إلى زوجها الذي طلقها حتى نزلت الآية فيه
فزوجها منه، وأعلم بهذا المدلول من الأئمة الثلاثة وسائر علماء السلف والخلف
الذين أخذوا بحديث البخاري في سبب نزولها. فراجع تفسيرها في (ص ٥٢٧)
وما بعدها من هذا المجلد. وما نقله من اختيار الرازي مردود لمخالفته الحديث
الصحيح، وقول الجمهور باعترافه على أن الرازي أجاب عنه وأشار إلى ترجيح
مذهب إمامه الشافعي.
(٤) زعم أن حديث معقل بن يسار لا يدل على أن الخطاب في النهي عن
العضل للأولياء لما تقرر في الأصول من أن العبرة بعموم الفحوى. ونقول: إن
المراد بعموم الفحوى أن ما ورد بسب خاص لا يقصر على سببه بل يؤخذ بعموم
اللفظ، فكل رجل منهي عن عضل موليته كمعقل بن يسار. وجعل الخطاب في هذا
النهي للأزواج المطلقين لا وجه له في العربية لأن المعنى عليه: لا تعضلوا أيها
الأزواج مطلقاتكم أن ينكحن أزواجهن، وما أزواجهن إلا مطلقوهن ولا معنى
لعضلهن عن أنفسهم. وما قاله من زعم أن النهي للأزواج من أن المراد بأزواجهم
من يصيرون أزواجهم على سبيل المجاز المرسل تنافيه الإضافة إليهن على ما حققه
الإمام عبد القاهر الجرجاني في مثله. وإذا لم تكن الآية مع الحديث نصًّا في أن
الرجال هم الذي يزوّجون ويمنعون، فليكن ظاهرًا في ذلك وأين النص أو الظاهر أو
الإشارة من الكتاب على مذهب المعترض من أن المرأة تزوج نفسها؟
(٥) ما دفع به قولنا: (لو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت) ... إلخ، مدفوع
من نفسه وقوله عن الرازي: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ} (البقرة: ٢٣٢) أن يخليها ورأيها؟ لا يصح سندًا؛ لأن الحديث ناطق بأنه كفر
عن يمينه واستحضر زوجها وعقد لها عليها ولو كان المراد ما ذكره لسكت عن
المعارضة أو لأذن لها أن تعقد عليه. ولو كان هو وغيره من الأولياء منعوا النساء
مما هو حق لهن لما أقرهم الشرع على ذلك بل لأمرهم بتركهن يزوجن أنفسهن أمرًا
صريحًا.
(٦) سلم أن الذي بيده عقده النكاح في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَعْفُون} (البقرة: ٢٣٧) ... إلخ هو الولي ولكنه خصه بوليّ الصغيرة. على أن الخلاف فيه
أقوى من الخلاف في المنهجيين عن العضل. وهو على قول من ذهب إلى أنه الولي
حجة من الحجج على ما ذهبنا إليه من أن الرجل هو الذي يزوج المرأة وأن الشريعة
لم تسمح لها بأن تزوج نفسها، وعلى القول الآخر لا يدل على ما ذهب إليه الحنفية
من أن أمرها بيدها إذا كانت راشدة - فهذا مجموع ما ذكره من آيات القرآن دليلاً
على مذهبه، وقد رأيت أنه لا حجة له في شيء منه بل هو حجة عليه.
(٧) حديث سهل بن سعد حجة على مذهب المعترض في جعل الصداق
منفعه، فإنه صريح في جعل تعليم ما معه من القرآن صداقًا، وهو لا يجيزه في عدم
استقلال المرأة بتزويج نفسها ورجوعها إلى ولاية الإمام إذا لم يكن لها ولي، كما
قال بعض العلماء في تلك المرأة: فإنه لم يكن يعرف لها ولي من المؤمنين، على
أن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الولاية العليا على جميع من آمن به لقوله
تعالى في سورة الأحزاب: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا
الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض} (الأحزاب: ٦) فولاية الأقربين بعضهم على بعض
هي دون ولايته عليه الصلاة والسلام، ومن فروع هذه الولاية ما نزل فيه قوله تعالى
في هذه السورة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ
لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: ٣٦) وقد نزلت في إباء زينب وأخيها الذي هو
وليها تزويجها بزيد، فتزويج النبي عليه الصلاة والسلام تلك المرأة المجهولة لذلك
الرجل لا حجة فيه على أنه يجوز للمرأة التي لها ولي أن تزوج نفسها أو توكل من
تشاء من الرجال في تزويجها كما هو مذهب المعترض الذي يزعم أن حديث سهل
حجة له؛ إذ لا يقاس أحد به صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الحافظ السيوطي هذا الحديث في باب اختصاصه صلى الله عليه
وسلم بأنه يزوج من شاء من النساء بمن شاء من الرجال. واستدل على هذه الولاية
الخاصة له صلى الله عليه وسلم بالآية التي ذكرناها آنفًا، وقلنا: إنها نزلت في زيد
وزينب وبحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره (ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في
الدنيا والآخرة) وذكر في الباب ما أخرجه ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي
(أن عبد الله ذا البجادين خطب امرأة فلم تتزوجه فسألها أبو بكر وعمر فأبت فبلغ
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله ألم يبلغني أنك تذكر فلانة. . قال:
بلى، قال: فإني قد زوجتكها فأدخلت عليه) وهذا الحديث معضد بالآية وبما ورد
في الصحيح. فلينظر المنصف إلى تحريف هؤلاء المتعصبين يتركون العمل
بالحديث فيما هو صريح فيه ويحتجون به على مخالفهم فيما لا يدل عليه، وهكذا
شأن من يجعل مذهبه أصلاً والكتاب والسنة فرعين يحملان عليه ولو بالتأويل أو
يتركان.
(٨) حديث أم سلمة فيه حجة على مذهب المعترض، فإن قولها: (ليس أحد
من أوليائي شاهدًا) دليل على أنه كان من المعروف في الإسلام أن المرأة لا يزوجها
إلا بعض أوليائها، وليس فيه أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أبطل هذه
السنة حتى يكون حجة على جماهير الأمة القائلين بأن الولي هو الذي يتولى التزويج،
بل فيه أن عمر ولدها هو الذي زوجها وهو وليها إن صح الاحتجاج بالحديث.
وقد استدل الطحاوي (مُحَدِّث الحنفيَّة) رحمه الله تعالى بهذا الحديث على أن
المرأة لا تتولى بنفسها عقد النكاح وإن كانت ثيبًا، بل توليه الرجال خلافًا لما زعم
المعترض.
هذا وقد أَعَلَّ المحدثون حديث أم سلمة هذا بأن عمر ابنها كان صغير السن
يومئذ فإنه ولد في الحبشة في السنة الثانية من الهجرة وتزوج صلى الله عليه وسلم
بأمه في السنة الرابعة، وبأنه عليه الصلاة والسلام لا يفتقر في نكاحه إلى وليّ.
(٩) حديث أبي سلمة عند سعيد بن منصور غير معروف وسنن سعيد غير
متلقاة بالرواية ونسخها مفقودة، فما عساه يوجد منها لا يحتج به بمقتضى القاعدة التي
قررها ابن الصلاح في تلقي الكتب والاحتجاج بها، وأبو الأحوص شيخ سعيد هو
سلام بن سليم، وقد روى عن عبد العزيز بن رفيع بالفاء (لا بالباء الموحدة كما
ضبطه المعترض) وقد ذكر في تهذيب الكمال جميع مَنْ رَوَى عنهم عبد العزيز،
ولم يذكر فيهم أبا سلمة. وهذه كنية غير واحد من الصحابة والتابعين. ثم إن ما
ينفرد به سعيد في سننه يجب أن يكون محل النظر، فقد ذكر صاحب التهذيب وتبعه
الذهبي في الميزان عن يعقوب بن سفيان أن سعيدًا كان إذا رأى في كتابه خطأ لا
يرجع عنه.
والذي روي في هذا المعنى واحتج به الحنفية حديث ابن عباس عند أحمد وأبي
داود وابن ماجه والدارقطني أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم
فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الدارقطني عن عكرمة مرسلاً وذكر أنه أصح. والحنفية يحتجون بالمرسل ,
وقد حققنا من قبل أن ليس للولي أن يجبر موليته على النكاح، والحديث مرسله
وموصوله لا يدل على أكثر من ذلك فلا شبهة فيه على القول باستقلال المرأة
بتزويج نفسها. فمن قال من الأئمة بنفي الإجبار مصيب، فالحق أنه هو الذي يزوج
برضاها وإذنها. ومن قال: إن لها أن تستقل بتزويج نفسها فلا دليل له من كتاب ولا
سنة بل الكتاب والسنة حجتان عليه.
(١٠) زعم أن حديث أبي هريرة عند الجماعة: (لا تنكح الأيم حتى
تستأمر) ... إلخ لا يفهم منه أن حق التزوج (يريد التزويج) للرجال. ولو
قال: لا يدل على اشتراطه لكان له وجه أما نفيه الفهم فلا وجه له؛ لأن الكلام
مبني على أن سنة الإسلام جارية بتزويج الرجال للنساء، فالشارع ينهاهم أن
يفعلوا هذا وهو حق لهم أقرهم عليه بشرطه إلا بعد أمر من الثيب واستئذان البكر. فهو إذًا لم يدل على إنشاء مشروعية كون الولي هو الذي يزوج فهو يدل حتمًا على أن
ذلك كان مشروعًا وعليه العمل. ولا تنافي ذلك الرواية الثانية عن ابن عباس فإن
كونها أحق بنفسها يقتضي أن يكون للولي حق ولها حق هو آكد، وهو يتفق
مع وجوب استئمارها.
والحكمة في هذا التعبير أن الثيب كثيرًا ما كانت تخطب إلى نفسها، وأما البكر
فلم تجر العادة بخطبتها إلى نفسها، وأما البكر فلم تجر العادة بخطبتها إلى نفسها بل
إلى أوليائها، والثيب لا تستحي أن تصرح برضاها بمن خطبها، والبكر تستحي،
وغرض الشارع أن يبين للأولياء ما ينبغي لهم مراعاته في تزويج مولياتهم؛ فحرم
عليهم الإكراه والإجبار وأمرهم أن يستأذنوا البكر فيمن يرضونه لها من الخاطبين
وأن يكتفوا منها بالسكوت الذي يشعر بالرضى ولا يكلفوها الإذن الصريح وأن
يتركوا الثيب وشأنها في الاختيار إذا خطبت إلى نفسها وإليهم، فلا يزوجوها بمن
يخطبها إليهم إلا بأمر صريح منها؛ لأنها لا تستحي من التصريح بمن ترضى
وتختار. هذا هو مفهوم مجموع الروايات ولو فهم الصحابة منه أن الثيب تعقد على
نفسها لفعل ذلك كثيرات منهن، ولكن لم يرد ذلك من أحد في رواية سالمة من العلل،
وفي مختصر مشكل الآثار أن الذي للمرأة قبل الحق في عقد نكاحها أن تأذن فيه
لوليها وتولية ذلك، فيكون العقد منه عليها عقدًا منها على نفسها؛ لأن عقود الوكلاء
في هذا مضافة إلى آمريهم وبهذا الجمع بين الروايات نقول.
(١١) اقتضب المعترض الكلام في إعلال حديث (لا نكاح إلا بولي) مع
علمه بما ورد في تصحيحه قال في نيل الأوطار بعد أن أورد حديثي أبي موسى
وعائشة في المنتقى معزوين إلى الإمام أحمد وأصحاب السنن ما عدا النسائي ما نصه:
(حديث أبي موسى أخرجه أيضًا ابن حبان والحاكم وصححاه وذكر له الحاكم طرقًا،
وقال: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم
سلمة وزينب بنت جحش، ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًّا. وقد جمع طرقه الدمياطي
من المتأخرين. وقد اختلف في وصله وإرساله فرواه شعبة والثوري عن أبي
إسحاق مرسلا ورواه إسرائيل عنه فأسنده. وأبو إسحاق مشهور بالتدليس. وأسند
الحاكم من طريق علي بن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم
صححوا حديث إسرائيل وحديث عائشة أخرجه أيضًا أبو عوانة وابن حبان والحاكم
وحسنه الترمذي، وقد أعلّ بالإرسال وتكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج قال:
ثم لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره. وقد عد أبو القاسم بن منده عدة من رواه عن
ابن جريج فبلغوا عشرين رجلاً وذكر أن معمرًا وعبيد الله بن زحر تابعا ابن جريج
على روايته إياه عن سليمان بن موسى وأن قرة وموسى بن عقبة ومحمد بن
إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعة تابعوا سليمان بن موسى عن
الزهري قال: ورواه أبو مالك الجنبي ونوح بن دراج ومندل وجعفر بن برقان
وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وقد أعلّ ابن حبان وابن عدي وابن
عبد البر والحاكم وغيره الحكاية عن ابن جريج بإنكار الزهري. وعلى تقدير
الصحة لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه) اهـ
كلام نيل الأوطار، ومنه تعلم أن ما ذكره المعترض من إعلال الحديثين لا يشفي
العلة ولا يبرد الغلة وأن الحجة بهما قائمة.
(١٢) وأما قوله: إن عائشة راوية الحديث زوجت حفصة بنت أخيها ... إلخ
أي فهو ضعيف بعمل الراوي بخلاف روايته على طريقة الحنفية؛ فجوابه من
وجهين: أحدهما أننا لا نسلم أن عمل الراوي بخلاف روايته يبطل العمل بها؛ لأن
الرواية حجة بشرطها، وعمل الراوي ليس بحجة؛ لأنه غير معصوم لا سيما إذا كان
عمله مخالفًا لما ورد عن الشارع المعصوم. وثانيهما: أن فقهاء مذهب المعترض
أوردوا أثر عائشة في كتبهم، وذكروا ما قيل في معناه من أنها أذنت في التزويج،
ومهدت أسبابه فلما لم يبق إلا العقد أشارت إلى من يلي أمرها عند غيبة أبيها أن
يعقد، يدل على ذلك ما رُوي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة
رضي الله عنها تخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض
أهلها: زوج فإن المرأة لا تلي عقد النكاح. أسنده البيهقي عنه.
(١٣) ثم إن المعترض جاء بعد إيراد ما تقدم بحاصل مردود وهو أن حديث
(لا نكاح إلا بولي) وإن كان ينجبر ضعفه بكثرة الطرق لا يساوي درجة الكتاب
والصحاح التي ذكرت. وقد علمت مما تقدم أن الحديث صحيح بل يكاد بكثرة طرقه
والعمل به يكون متواترًا، وأن الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة ما ذكره
المعترض منها وما لم يذكره مؤيدة له لا معارضة.
(١٤) ومن غريب أمر المعترض في تحريفه أنه قال بعد هذا أن حديث أبي
هريرة (لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها)
غير محفوظ مرفوعًا وينقل تصحيح وقفه عن نيل الأوطار وهذه عبارة نيل الأوطار
فيه: وحديث أبي هريرة أخرجه أيضًا البيهقي قال ابن كثير: الصحيح وقفه على
أبي هريرة وقال الحافظ: رجاله ثقات. وفي لفظ للدارقطني: كنا نقول: التي تزوج
نفسها هي الزانية. قال الحافظ: فتبين أن هذه الزيادة من قول أبي هريرة، وكذلك
رواها البيهقي موقوفة في طريق ورواها مرفوعة في أخرى (فعلم من هذا أن
الجملة الأخيرة من الحديث رويت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفة
على أبي هريرة) . وعبارة أبي هريرة كنا نقول: إن الزانية هي التي تزوج نفسها
صريحة في أن هذا القول كان فاشيًا في الصحابة ومثله لا يفشو بمجرد الرأي فله
حكم المرفوع ولو لم يرفع فكيف وقد رفع كما علمت.
(١٥) قال: إن عدم اشتراط الولي في النكاح منقول عن عثمان وعلي
وغيرهما من الصحابة، وموسى بن عبد الله والزهري والشعبي وغيرهم من
التابعين ... إلخ، ونقول: إن هذا نقل لم يثبت، ولذلك قال الحافظ ابن المنذر: إنه
لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، أي خلاف اشتراط الولي.
وقد روى الدارقطني عن الشعبي قال: ما كان أحد من أصحاب النبي صلى
الله عليه أشد في النكاح بغير ولي من علي كان يضرب فيه. فظهر بهذا كله بطلان
قول المعترض (فتنوّر بهذا جله أن كتاب الله) ... إلخ، بل كتاب الله تعالى وسنة
رسوله وأقوال الصحابة والتابعين وعملهم في جملته، على أن المرأة لا تزوج نفسها
بل يزوجها من حضر من أوليائها الأقرب فالأقرب برضاها. فإن لم يوجد لها ولي
رجع أمرها إلى إمام المسلمين ذي الولاية العامة فهو يزوجها، ولهذا خالف أبا
حنيفة فيما انفرد به صاحبه (محمد) بل صاحباه، وقالا بوجوب الولي. ذكر
الطحاوي في شرح معاني الآثار قول الإمام أبي حنيفة أن للمرأة الحق في تزويج
نفسها بدون ولي قياسًا على تصرفها في مالها، وأنه ليس للولي أن يعترض إلا إذا
تزوجت بغير كفؤ أو بدون مهر المثل قال: وقد كان أبو يوسف يقول: (إن بضع
المرأة إليها وإنه ليس للولي أن يعترض عليها في نقصان ما تزوجت عليه عن مهر
مثلها) ثم رجع إلى قول محمد أنه لا نكاح إلا بولي. اهـ
فإذا كان صاحبا أبي حنيفة (رحمهم الله تعالى) قد خالفاه في هذه المسألة بعد
ما علما بما ورد فيها عن الشارع وأصحابه مما لا محل له معه لقياس البضع على
المال، فما بال هذا المقلد المعترض جاء في آخر الزمان يحرف الكلم عن مواضعه
ليصحح قول أبي حنيفة؟ على أن في المذهب الحنفي مسائل لا تحصى قد رجح
الشيوخ فيها قول صاحبيه على قوله.
وأما ما ذكره في حكمة مذهبه، فهو وجه القياس الذي بطل بالنص والحكمة
البينة لما ثبت بالنصوص هي ما بيناه في المنار (ص ٤٦١) من المجلد السابع
ونقول في خاتمة البحث:
إن من يريد الاهتداء بالكتاب والسنة يجب عليه عند النظر فيهما أن ينبذ هواه
وتعصبه ويقصد أن يجعلهما الأصل الأصيل الذي يعمل به وينبذ كل ما خالفه لا أن
ينظر فيهما التماسًا لتأييد قول رجل معين كلامه هو أصل الدين عنده، فإن وافقته
النصوص الإلهية قبلها، وإلا حرفها وصرفها عن وجهها، على أن المتعصب لرأي
ما يعميه تعصبه عن رؤية الحق والمقلد قد قطع على نفسه طريق النظر في الدليل،
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .