اعتاد كثير ممن أراد الله بهم شرًا على الاختلاق والتدليس، وزيادة أشياء في الدين، ما أنزل الله بها من سلطان؛ ليجلبوا بها نفعًا ويكسبوا بها حطامًا، فكذبوا وزوروا آثارًا، ونسبوها للنبي صلى الله عليه وسلم وغَرُّوا بذلك العامة، ومَوَّهُوا عليهم حتى اعتقدوا صدق تلك الآثار، ورسخ في أذهانهم أنها من الحقائق، مع أنها مزورة بلا ريب، ويعرفها كذلك كل من له إلمام بالحديث الشريف، ووقوف على السنة النبوية، واطلاع على السيرة الشريفة والشمايل المنيفة، وخبرة بالتاريخ وتبحّر في المعارف، وبُعد عن الخرافات والأوهام. وكثيرًا ما تستر الأوهام أنوار الحقائق، وتحجب شموس المعارف، ثم لا تلبث أن تزول لذوي الاطلاع والنقد والاختبار، فلا تغرهم تلك الزخارف ولا ينخدعون بأعمال العامة والجهلة، ولا يقلدونهم في أعمالهم الفاسدة التي درجوا عليها، واطمأنوا بها، وركنوا إليها ركونًا عظيمًا. لبّس هؤلاء المزورون على المسلمين وأدخلوا في الديانة الإسلامية ما ليس منها، وحسنوا لهم أعمال أهل الوثنية كالتمسح بالأحجار والأخشاب والأشجار وتقبيل الأبواب والآثار المزورة؛ كأثر القدم المعزو للنبي صلى الله عليه وسلم كذبًا وزورًا في الجامع الأحمدي، وجامع قايتباي ومسجد سيدي عبد الرازق بالإسكندرية وحجر المرفق ومسجد البغلة والآثار التي بالرباط الكائن بقرب بركة الحبش على شاطئ النيل. قال المؤرخ المقريزي: وكان شيخنا السراج البلقيني يطعن في هذه الآثار ويذكر أن له فيها مصنفًا: فترى هناك العامة مزدحمين على التمسح بتلك الآثار والأحجار أي ازدحام معتقدين فيها اعتقادًا كبيرًا، ملتمسين منها البركات الموهومة، مستشهدين بالأحاديث الموضوعة على أن الاعتقاد بالأحجار ينفع، مع أن ذلك من شأن أهل الوثنية؛ فإنهم يحسنون ظنهم بالأحجار، وهؤلاء تشبهوا بهم، وساروا على طريقهم، ولم يكتفوا بتلك الأعمال حتى اعتقدوا أنها قربة تقربهم إلى الله تعالى زلفى؛ مع أنها مفسدة كبرى ودين الإسلام بريء من هذه الأفعال، ومن نسبتها إليه، ومنزه عن أفعال الوثنيين، وعقائدهم الباطلة التي لا يركن إليها مَن اطّلع على السنّة، وأُشرب قلبه بالتوحيد، وابتعد عن الشرك. وقد رأينا إتمامًا للفائدة أن نذكر ههنا نص الفتوى التي أفتى بها حافظ الأنام شيخ الإسلام الإمام أبو العباس أحمد ابن تيمية الحنبلي فيما نقله عنه تلميذه الحافظ ابن القيم وغيره وهي: (أن الجهال تخترع أحجارًا يزعمون أن فيها أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم فيتمسحون بها ويقبلونها كما يقول الجهال في الصخرة التي في بيت المقدس من أن فيها أثرًا من موطئ قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي دمشق مسجد يسمى مسجد القدم يقال: إن ذلك أثر قدم موسى عليه السلام. وهو باطل لا أصل له، ولم يقدم موسى دمشق وما حولها، ومثله أحجار بمصر، وغيرها من البلدان افتراها الكاذبون، واستخفّوا بها عقول العامة؛ بل ما يروى من حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وطئ على الصخر أثَّر فيه قدمه، كل ذلك من الكذب المختلق، لم ينقله أحد من أهل العلم بأحواله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو كذب عليه، فلا يغتر بنقل كثيرين متساهلين في ذلك ساكتين عن حكم الحديث. وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: ١٢٥) ، وذكر الأزرقي عن قتادة: أُمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفت به الأمم قبلها ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه (كذا) فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق، وأيضًا فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه كالمدينة المنورة دائمًا لم يكن أحد من السلف يستلمه، ولا يقبله، فكيف بما لا تعلم صحته من آثاره عليه الصلاة والسلام، وبما يعلم أنه مكذوب كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون، وينحتون فيها موضع قدم ويزعم غيرهم من الجهال أن هذا موضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه وقدمي إبراهيم الخليل عليه السلام فكيف يقال: إنه موضع قدميه؟ كذبًا وافتراءً عليه؛ كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس وغيره من المقامات. اهـ من كتاب تنزيه المصطفى المختار عما لم يثبت من الآثار، للعلامة المحقق الشيخ أحمد بن العجمي الوفائي الشافعي. جاء الإسلام بقطع شأفة الوثنية ورفع أعلام التوحيد، ومحو العقائد الباطلة الراسخة في الأذهان، ونفي كثير من الأباطيل التي كانت منتشرة، وحضّ على التمسك بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن سفاسف الأمور، وبين للناس ما يجب عليهم، وأظهر الحق من الباطل، وحذّر من الوقوع في المآثم. فعلى العاقل أن يتمسّك بأوامره ويبتعد عن تلك الآثار التي ابتدعها المزورون ليروّجوا بها سلعتهم، ويستفيدوا الفوائد الدنيوية الوقتية فجرَّؤا الناس على الأعمال الموجبة لغضب الله تعالى المنافية لدين الفطرة المفسدة للعقائد المزلزلة لركن التوحيد، وسنعود إلى هذا الموضوع في فرصة أخرى. ... ... ... ... ... محمد البشير ظافر الأزهري