جاءتنا الرسالة الآتية من كاتب فاضل في سنغافورة مؤرخة في ٢٧ رجب، قال فيها: بعد الحمد لله والصلاة على نبيه، ورسوم المخاطبة ما ملخصه: سيدي، تشرفت بلثم كتابكم رقيم ١٨ الماضي ونزهت طرفي في وشي أقلامكم , وقد كان وصول ذلك الكتاب إليّ وأنا متأثر بانحراف مزاج، فكان كتابكم الترياق النافع، وقد وصل إليّ (المنار) متتابعًا في ميعاده يهدي إلى الصواب وينبه ذوي الألباب والذكرى تنفع المؤمنين، وما ترشح به صفحاته من النصايح المفيدة والحكم الثمينة قد اجتذب قلوب الكثيرين ممن له إلمام بمعنى الإسلام , على أن سواد قرّاء جهتنا لا تقوى مِعَدُ عقولهم على هضم ما تهدونه إليهم لبعد العهد بالحقائق والإخلاد إلى التقليد إلا أن الحق إذا أشربته القلوب لم تستطع رفضه. أما ما تفضلتم بإبدائه من سديد الرأي والنصح البالغ مما يجعل أهل هذه الجهة على قاب قوسين من أمنيتهم، فقد بادر المملوك بالبحث في اتباع الرأي الأول، وإن كنتُ قد علمتْني التجارب أن قومي بطآء إذا دُعوا إلى مثل هذا، سيما مَن كثرت أمواله، ولكن اليأس عين الشقا، فلذلك أؤمل على بعد أن يكون لهذا الرأي أثر ما، وقد كتبت إلى بعض الأصدقاء ببلاد الدكهن من الهند أن يفتكر في جمع بعض ذوي الكلمة النافذة عند الإنكليز من العرب الحضارمة؛ ليطلبوا من الإنكليز مساعدة مَن بجاوه ولا أتأخر عن رفع ما سيحدث إليكم (إن كان) . أما الرأي الثاني فما إليه من سبيل؛ لأن قومنا قد اتفقوا على أن لا يتفقوا وهذه حقيقة لا يتمارى فيها اثنان، وما استفهمتم عنه من أخبار الجمعيات الإسلامية التي عرفتها، فعلى وجه الإجمال أقول: الجهات التي تطوفت بها هي سواحل يابان وبلادها، وما فيها من المسلمين إلا أناسًا يعدون بالأنامل في ثلاث من المواني لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولهم في بلد كوبي بيت (كلوب) للعب البليرد وغيره، وفيه بعض كتب إنكليزية هزلية لا غيره، وأما جزائر فليبين ففيها كثير مسلمين منهم حكام، ولهم بها بعض شوكة (كريشة في مهب الريح إلخ) والجهل بينهم سائد من كل وجه، وأما الشين فلم أتمكن من التوغل فيهم لهجوم الشتاء وهزال الكيس، وعلى كل حال أقول: إن أنفس الصينيين لم تزل حية، وعندهم نشاط وجد، ولهم حمية وعصبية في الجملة، ولكن تعاليمهم كلها فاسدة، ولا يوجد بينهم فيما أعلم من يطلق عليه طالب علم، ولو أوفدت إليهم ثلة من العلماء مستغنين عن اصطياد الدراهم والتشوف إلى ما في أيدي الناس يصير تأثير منهم كبير يقل كل تقدير عنه، واللغة العربية الفاسدة والفارسية المحرفة تروج بتلك الصقاع، ويوجد بها جحافل من شحاذي العرب والهنود يأوون إلى المساجد والمدارس، ولهم اعتقاد في القبور وبدع كثيرة روجها عليهم الجهل والجهال. وأما إقليم سيام ففيه بعض دول من المسلمين لم يزل معهم بعض استقلال لوقوعهم بين الأمم المتزاحمة، وعدد المسلمين بها غير قليل، وعندهم إلمام بأحكام الصلاة و (العشرين صفة) ويعتنون بحفظ المتون من النحو، ولا يتعدون إعراب الأمثلة، وليس بهذه النواحي مدرسة منظمة ألبتة، وللشعبذة والطلاسم والخرافات جابر، ودعوى الكرامات رواج، سيما بين الكبراء والأمراء. وأما جهات ملاكه وأرض الملايو، فبعضها يحكمها الإنكليز أصالة، وقسم كبير منها تحت حمايتهم، وقسم منها ينسب لسيام، وهو تحت مطامعهم، وحالة المسلمين بهذه الجهات أحسن حالة من سواهم لحصولهم على الحرية فيما يتعلق بالدين أو بالتعليم والاجتماع، وللمساواة المزعومة في حكومة الإنكليز، ولكن إخواننا إلى الآن لم يوفقوا إلى إقامة جمعية أو تنظيم مدرسة أو مشروع من نحو هذا، ولا مانع منه من جهة الحكومة ألبتة، نعم قد أقيمت بسنغافورة منذ نحو سنتين جمعية عربية لم يتجاوز عدد أعضائها ثلاثين، وعلى إثر ذلك هزت الحمية أحد المثرين، فالتزم ببيت فسيح يكون محلاً لتلك الجمعية، والتزم أيضًا بنفقة أستاذ يقوم بتعليم أولاد العرب حروف الهجاء وطرفًا من الحساب ونزرًا من العربية العامية، والتزم أعضاء الجمعية بمرتب لأحد طلبة العلم يتولى عقود أنكحة العرب، ويعلم أولادهم العربية وطرفًا من العقائد الإسلامية على الطرز القديم، وقد استمر ذلك إلى الآن وآثار الانحلال على تلك الجمعية بادية والله لطيف بالعباد. وبحيدرآباد جمعية عربية لم تتسق تمام الاتساق. وأما مستعمرة هولاندا فقد تطوفت في أكثرها، وكما ترون في بعض كتاباتي أخبارها، وهنا لا غناء لي عن الإلماع إلى التعريف بالعرب الموجودين بهذه المستعمرة، وهم قسمان: أولهما أناس قدموا من الغرب على ما هو المشهور، وقد اختلطوا بالأهالي وتبعوهم في كل العوائد والصفات، وبقي لبعضهم اسم (رادين) ومنهم حاكم جاوه المأسور في سورا كرتا، والقسم الثاني هم العرب الحضارم، وصلوا إلى هذه الجهات منذ ثلاثة قرون تقريبًا يبتغون الرزق، قد رفضتهم بلادهم لما حل بها من المصائب والدمار، وكان أولهم دخولاً إلى هذه النواحي عدد من السادات أهل الفضل والعلم، فنشروا الدعوة، وبهم ضرب الإسلام في هذه الجهة بجرانه وقد صار من أولادهم عدة أمراء على كثير من هذه النواحي من غينيا الجديدة إلى فليبين ولم يزل عدد كثير موجودًا منهم إلى الآن، وبوصول أخبار من ذكر إلى أوطانهم نهض الجم الغفير من البوادي والرعاع ويمموا هذه البقاع , وصارلهم فيها رواج عظيم لتعظيم الأهالي للجنس العربي، وافتخارهم بمصاهرتهم، ولم يزل أكثر هؤلاء العرب متميزين عن الأهالي في الهيئة والألقاب، وإن ساووهم في الجهل والغباوة والكسل، وبهذه الأطراف جم غفير ممن يدعي العلم وعدد قليل من العلماء، وليس بها مدرسه للمسلمين، والتعليم عندهم على الطراز القديم في المساجد ونحوها في الشروح والحواشي، وحظ الآفق من علمائهم إيراد الاعتراضات على العبارات والرد عنها , وليس لعلم الحديث ولا للعلوم العقلية ذكر ألبتة، ولتشديد الحكومة عليهم ساءت ظنونهم بأنفسهم فقل أن تجد بينهم من يثق بابنه وعرسه، فضلاً عن أن يتجاسر بأن يدعو إلى الاجتماع أبناء جنسه. وتظاهر الهولنديين الآن بالشماتة بالإنكليز بالغ فوق الحد. وأما بلاد الهند فقد طُفتُ بعض جهاتها واتصلت ببعض جهابذتها، فيها مدارس يؤمل نجاحها، كما لا يخفاكم , وأشهر جمعياتها (ندوة العلماء) ولها في أكثر بلاد الهند محلات معلومة، ولهم مجالس أخرى مثل محمدن (كلوب) و (انجمن إسلام) في بمبي، والجمعية الإسلامية في مدراس وغيرها مما له بعض فائدة. وللعلوم العقلية والفنون الحديثة المقام الرفيع ولله الحمد. وبذكر الحضارم , اسمحوا لي باستفساركم عما لهجت به الجرائد في أعدادها الأخيرة من ذكر صدور الإرادة بتنظيم حضرموت مع ذكر تنظيم ولاية اليمن وحيث إنها (بلاد بها نيطت عليّ تمايمي وأول أرض مس جلدي ترابها) . أحب استطلاع كنه الخبر إن لم يكن عليكم في ذلك مشقة وقد سبق للمرحوم اجتهاد في لَمِّ شعت قبائل حضرموت للخضوع للدولة بطلب من حضرة دولتلو المشير السيد أحمد مختار باشا المعتمد السلطاني بمصر غير , أن تلك المساعي، ويا للأسف ضاعت سدى , وقد قام بعد ذلك أحد إخواننا أهل الفضل والتحقيق بخدمة جليلة تسهل أمر تنظيم تلك الأصقاع بلا كلفة تذكر مع إقامة الحجة على ما تدعيه إنكلترا من حماية تلك الشطوط , فإن كان في السماء مطير أو فيمن نؤمل خير، فسنلبي إشارتكم وإلا فلتوضع هذه الجملة في زاوية النسيان لئلا نبحث عن حتفنا بظلفنا، والله ولي التوفيق. ويعنّ لي أن أطلب بلسان (المنار) أو (المؤيد) إصلاح الخطب الجُمَعيَّة في ممالك الدولة، بل وسائر الشرق بحيث تكون صالحة لنفع الناشئة الخالية مع حذف لعن الأرفاض ومساواتهم بالكفار مما كان سببًا في تفريق ريح المسلمين منذ أكثر من اثني عشر قرنًا. وقد جاءنا رسالتان أخريان من سنغابور: إحداهما مذيلة باسم (عبد المعين) يثني فيها على (المنار) وما على شاكلته من الجرائد العربية (كالثمرات) و (السلام) للصدق في خدمة الملة والدولة والجامعة العثمانية، والحث على الاتحاد والقيام بالمشروعات النافعة، ثم أظهر الكاتب أسفه من عدم تلبية ندائنا والقيام بما نحث عليه، وذهب إلى أن السبب في هذا (عدم الثقة بولاة الأمور الموظفين في خدمة الدولة، فحينئذ يجب التنديد بأعمالهم ولا ينبغي السكوت عنهم، فإن ذلك يزيدهم جرأةً وتماديًا، فإنا رأينا في جريدة (المؤيد) الغرّاء عدد ٢٩٠٠ نقلاً عن مكاتبه بمكة المشرفة أخبارًا لا أصل لها، والحقيقة أن المخاوف وعدم الراحة والأمن لا تزال كما كانت سابقًا مع الاستبداد وتهاون ولاة الأمور مما يضيق المقام عن شرحه. إلخ والرسالة الثانية جواب لنا عن كتابة خصوصية في شكوى إخواننا الجاويين من ظلم هولندا وما يجب الأخذ به لتلافيه، وفيها كلام عن تعدي هولندا على الأجينيين وظلمها لهم مع أنهم تابعون للدولة العلية رسميًّا وهي لا تسأل عنهم، وربما نتكلم عنهم في العدد التالي. وجاءتنا رسالة من بتاوي الجاوه يقول صاحبها الفاضل أنه كان لِما كتبناه في المنار ٣٢ بشأن المسألة الجاوية أحسن وقع، وأذعن الجميع لإلقائنا التبعة على قناصل الدولة العلية، وبشرَنا الكاتب بأن جميع المسلمين هناك يتداولون (المنار) فرحًا به ... وأثنى على سعادتلو محمد كامل بك شهبندر الدولة العلية عندهم سابقًا، وذكر أن صدقه وإخلاصه هما السبب في سعي هولندا بالوشاية عليه حتى استبدلت الدولة به أحمد أمين بك الحالي المذموم بكل لسان، وذكر أن هولندا صارت تعاقب من يذكر اسم كامل بك أو الدولة العلية، فعسى أن يصل هذا الخبر إلى مسامع مولانا الخليفة فيتدارك الأمر.