مهاجمة اللغة العربية وآدابها لم تقنع جمعية تجديد الإلحاد والإباحة في مصر بصد الشعب المصري وسائر الشعوب العربية بل الأمة الإسلامية عن الدين أو تشكيكها فيه تمهيدًا لإباحة الأعراض وعبادة الشهوات، وتقليد الإفرنج فيما يسهل التقليد فيه من الفواحش والمنكرات، بل نراهم يعنون بتحقير آداب اللغة العربية ليجردوا الأمة من هذا الفصل المنطقي الذي يفصلها من غيرها من الأمم ويثبت لها استقلالها خاصًّا بمقومات خاصة ومشخصات خاصة. وأعظم مقومات الأمم الدين الذي هو مصدر الفضائل والآداب النفسية، واللغة التي هي مظهر العلوم والمعارف والآداب، ويليهما التشريع الذي هو مجلي السيادة والحكم، وقد بدأ هؤلاء الزنادقة بهدم الدين هدمًا مطلقًا لا هدم تجديد كما يدعون في غيره، وهدم التشريع الإسلامي لاستبدال التشريع الأوروبي به، ثم شرعوا في تحقير آداب اللغة بزعم تجديدها بآداب لغات ساداتهم الإفرنج. ألف الدكتور طه حسين أستاذ تجديد الإلحاد والإباحة في الجامعة المصرية غير الرسمية كتيبًا كذب فيه نقلة اللغة العربية ورواة آدابها فيما رووه من شعر العرب في عصر الجاهلية، وزعم أنهم هم الذين وضعوا المعلقات السبع وافتروها على امرئ القيس وطرفة وعنترة. . . إلخ كما افتروا غيرها من الدواوين وما دون الدواوين، واستطرد إلى تكذيب كتاب الله وتكذيب خاتم رسله عليه صلواته وسلامه في إسناد بناء بيته الحرام إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وفي غير ذلك، وجعل ذلك من الأساطير لا يثبته العلم، وهذا جهل منه بمعنى كلمة العلم، فإنه لم يقل أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين أن وقائع التاريخ يتوقف ثبوتها على عدم نفي العلم لما رواه الرواة منها. فخبر بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لبيت الله تعالى تناقلته الأمة العربية بالتواتر المؤيد بتقاليد دينية عملية، ثم أثبته الوحي الإلهي الثابت بالآيات القطعية، ولا يوجد دليل علمي يعارضه، فما معنى قوله: إن العلم لا يثبته؟ - وقد ألقى هذا الكتاب دروسًا في الجامعة المصرية الرسمية، وربما يصدق الكثيرون من طلابها هذا الأعمى البصر والبصيرة فيما يكذب به علماء الأمة الإسلامية وكتاب ربها وحديث نبيها المعصوم فيما يريد به تجريد أمتهم من الدين واللغة والنسب والأدب والتاريخ ليجددهم بذلك فيجعلهم أمة أوربية! ! بل طعمة للدول الأوربية كما جدد نفسه وبيته بتزوج امرأة غير مسلمة وبتسميته أولاده منها بأسماء الإفرنج رغبة عن الأسماء العربية القديمة والجديدة واحتقارًا لها، وقد حدثنا الثقة عن أحد أصدقائه أو أساتذته أنه قال: لا مانع يحول دون إقناعنا للمصريين بسيادة الإنكليز وحكمهم إلا الدين، أي فلا بد من إزالة هذا المانع! . وقد رأيت بعد عودتي من الحجاز مقالاً لأحد مقلدته أو أعضاء جمعيته في صحيفتهم السياسة ناشرة دعايتهم وحاملة لوائهم عنوانها (العقلية العربية وشعر رامي) أنشأها لتقريظ ديوان شعر (أحمد رامي) أحد أدباء النابتة المصرية، وكأنه راعه من شعره ذوقه العربي الصحيح، وأداؤه المصري الفصيح، وقريحته النضاخة بالمعاني، وخياله المصور لها في أجمل المباني، فعز عليه أن يكون شعره عربيًّا صحيحًا، وأن يكون في دوحة الآداب العربية غصنًا قويمًا، فأراد دعوته إلى جمعية التجديد؛ ليكفر بطرافة شعره أدب لغته التليد، ويترك السبح في بحارها، والاقتباس من أنوارها، وينسلخ من سليقته العربية، ويتبرأ من فطرته الإسلامية، ويتكلف تقليد الفرنجة في ترك القوافي والأوزان العربية، ويتنحل المعاني اللاتينية والإغريقية، فيكون من جمعية المجددين، بهدم ما استطاع مما لأمته من لغة وأدب ودين. ومن الغريب أن عمدة دعاة الزندقة في هدم مقومات هذه الأمة ومشخصاتها وصفها بالقديمة، وشبهتهم عليه أن كل قديم فهو قبيح يجب تركه، ومن المعلوم بالبداهة أن حسن الأشياء وقبحها الحقيقيين في ذاتها، وفائدتها، لا في قدمها ولا في جدتها، وما من قديم إلا وكان جديدًا ولا جديد إلا وسيكون قديماً، ومن لا قديم له لا جديد له بل لا وجود له، وإنما الأمم بتاريخها، ومثل من يحاول هدم تاريخ الأمة لأجل تجديدها كمثل من يحاول هدم بنية كل فرد منها ليجدد له بنيه أحسن منها. نعم، إن كل حي يحتاج آنًا بعد آخر إلى جديد يكون مددًا لقديمه لا هادمًا له ومصلحًا لما فسد منه، ومن عجيب أمر هؤلاء أننا نراهم يدعون إلى انتحال ما هو أقدم مما يذمون من قديم أمتهم كالأدب الإغريقي والشعر الإغريقي الذي هو دون الأدب والشعر العربي الجاهلي والإسلامي، والحق أن كلمة الجديد والتجديد كلمة خادمة للنابتة، مستهوية لخيال الشببة؛ لأنهم لا يريدون إلا جعل هذه الأمة لقمة سائغة لسادتهم المستعمرين، بتقطيع ما يربط بعضها ببعض من لغة وأدب وتشريع ودين، وأنهم ليدعون دعاوى لا تثبتها بينة، ويؤلفون أقيستهم من قضايا لا تقوم عليها حجة، بل هي كذب وبهتان، يكذبه الحس والعلم، كوصف مقرظ ديوان رامي للشعر العربي و (العقلية العربية) وهذا نص تقريظه نقلاً عن (جريدة السياسة في ٢٢ المحرم سنة١٣٤٥) قال: العقلية العربية وشعر رامي بينما كتاب مصر يحسون تمام الإحساس بخطورة العقلية الشرقية القديمة. يلمسون في تضاعيف النهضة الحاضرة رغبة صادقة في الخلاص من المصطلحات والعقائد [١] والنظم الرجعية الآسنة فيحاولون السعي بما أوتوا من مواهب لتحرير الفكر وتجديده وتلقيحه بخصائص الثقافة الأوربية سواء في المقالات أو في الأبحاث أم في الروايات القصصية أو التمثيلية - يظل شعراؤنا في المؤخرة جمودًا ضاربين حول أنفسهم نطاقًا محرمًا كجماعة الفقهاء أو اللاهوتيين، يتعهدون في أنفسهم ملكة النظم على أهازيج الحداء البدوية باستظهار ما يمكن استظهاره من شعر العرب موقنين أن الحافظة المشحوذة المتوقدة المحملة بآثار السلف الصالح هي وحدها مثار العبقرية الشعرية على اختلاف أشكالها وميولها [٢] . إنهم يعودون أنفسهم بمجهود آلي مدهش الانتشاء بتسلسل القوافي المتشابهة وانصبابها في رنين لفظي واحد، ولا يخطر لهم ببال أبدًا بل لا يخالط وجدانهم لحظة أن هذه الموسيقى المتشابهة أنصع ما تكون دليلاً على سذاجة فطرية وبغاء غريزي وهمجية متأصلة كعلالات الأطفال أو ألحان البرابرة [٣] . ثم هم لا يفطنون إلى أن كل فن محدود الرسوم ثابت الأشكال متشابه الأجزاء ينبئ عن جمود في الفكر وضعف في قوى الابتكار واستمتاع بضرب من الركود المعنوي منه نشأ هذا الفن [٤] لا لشيء سوى مجرد الترفيه والتسلية وقتل الوقت ومداراة عوامل اليأس الضجر. وإن من يمعن النظر مليًّا في الينابيع التي يستمد منها معظم شعرائنا وحي قريضهم لا يكاد يتبين فيها أثر الحياة الحرة، بل هو على النقيض يلمس تكرارًا مملاًّ مشينًا وتحديًا غريبًا مزريًا لما قاله العرب ورددوه في عصور قضت، بل ويلمس فوق هذا تدلُّها سخيفًا وعبودية عمياء لما اتصفت به العقلية العربية في إلهاماتها الشعرية من عيوب جعلت أدب العرب ضد الفن أي ضد الحياة، كالحذلقة اللفظية الطنانة الجوفاء، والمبالغة المضحكة في الأوصاف، والجرأة على الاستعارة البعيدة عن الواقع، والجنون بالخيال الذي عوض أن يقرب إليك الحقيقة يقصيها عنك جهده. والولع الشديد بالكذب، وادعاء العاطفة دون الشعور بها. والفرار من رسم أفاعيل الوجدان وتقلبات النفس وأطوارها، واعتقادهم المتوارث أن الشعر شيء والحقيقة شيء آخر، وأن خصائص العقل كالروية وإحكام النظر وصدق الملاحظة لا تتفق والفن الشعري الذي يجب أن يكون في عرفهم مجرد تخيل غشاش لصور وعواطف لا وجود لها إلا في مخيلة شاعر دجال [٥] . كل هذه المميزات المشهورة - ويجب أن نفهم ذلك ونسلم به [٦] ، هي التي تستهبط منها غالبية شعرائنا وحيها، وهي التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعد فنًّا سليمًا. إذ الفن الإغريقي الذي عنه أخذت أوربا وتأخذ حتى اليوم لم يتأثر به العرب ولم يلقحوا به أدبهم. وهو الفن الصحيح لأنه يقوم على رسم الحقيقة وإبداعها مخيلة وفق مزاج كل فنان وهواه. فيصبح الفن حياة جديدة تحبب المرء في الحياة الواقعة؛ لأنها تجملها له وتضاعفها وتميط اللثام عن دفائن أسرارها. ومواطن الجمال فيها. فيلحق الفن بالفلسفة والعلم في تأسيس الحضارات الإنسانية وتحقيق المثل الأعلى. أما الفن العربي - إذا صح أن للعرب فنًّا - فهو الهرب من الحياة، هو تخيلها جوهرًا غريبًا عن حقيقتها. وفي رأيي أن قد نشأ ذلك من أن العربي رجل حاد الشهوة بعيد مطلب الحس، جوالة، رحالة، متفنن في استغلال قواه البدنية لذة، والعقلية مرحًا ونسيانًا، فهو يود الحصول على اللذتين؛ لذة الاستمتاع بالحياة الواقعة في جو شهوي رحب لا قيد فيه ولا نظام، ولذة الاستمتاع بالحياة الفنية المخيلة في عالم غير عالمه الأرضي فيه لذائذ أخرى وشهوات أخرى وغرائب أخرى، فهو رجل لا يتطلب في الفن رسم الواقع لدرسه والعمل لتجميله وإصلاحه بل هو يعيش الواقع هذا (؟) ويستوعبه ويستمرئه ويمتص عصارته حتى إذا ما مجَّته نفسه هرع إلى عالم مخيل كاذب كعالم آكل الأفيون فلا يزال به حتى يدرك قراراته فيعاوده سأمه فينزع إلى ميله الأول وهكذا [٧] . وإن من يعرف أن العرب قد تأثروا بعلوم الإغريق على ضآلتها دون آدابهم وفنونهم وهي التي كانت قد ازدهرت أيما ازدهار وبلغت من العمق والصدق والروعة ما لم تبلغه فنون في أي عصر ذهبي يفهم تمامًا أن عقيدة العرب في أن القرآن ليس كتاب دين منزل فحسب بل كتاب أدب منزل أيضًا، هو الذي حال بينهم وبين استغلال أدب الإغريق وجعلهم يرون الكمال المطلق في الخلق الأدبي مجاراة الأسلوب القرآني والنقل عنه والاقتباس منه إلى حد أنهم كانوا يقيسون مقدرة التأثر منهم (؟) بقدرته على محاكاة البلاغة القرآنية في صوغ العبارة وصقلها، الأمر الذي أحال الأدب نوعًا آخر من أنواع العبادة فخنق وظائف الابتداع وابتلى المصنوعات الأدبية بمرض اللفظ والعناية بالمبنى دون المعنى والعرض دون الجوهر [٨] ؛ فكانت سخرية عجيبة لا مثل لها في تاريخ الإنسانية، هي أن الأدب العربي منذ الإسلام لم يخرج للناس سوى كتاب عظيم واحد هو كتاب الإسلام نفسه أي القرآن. تلك هي العقلية العربية وهي المتسلطة على معظم شعرائنا حتى اليوم لا سيما أفراد السلالة المنصرمة منهم، وتلك هي التي يحاول التجرد منها بعض شبابنا كالشاعر أحمد رامي في ديوانه الثالث الذي نحن بصدده الآن. (رامي شاعر نزَّاع إلى التجديد، توَّاق إلى استئصال جراثيم الثقافة العربية من نفسه وكبح ما تولده من ولع بالصناعة اللفظية وانصياع لعواطف مفتعلة زائفة، هو يروض إحساسه بالثقافة الفرنجية جهده كي تستضيء على نور عقله المستنير أفاعيل وجدانه فيشرف على حالاته النفسانية إشراف الفنان الأوروبي الذي لا يقنع من عواطفه بالشعور بها؛ بل هو يريد أن يفهم هذا الشعور ويحلله، يريد التمييز بين عميقه وتافهه، بين جيده ورديئه، بين إنسانية العامة والخاصة، يريد أن ينفد إلى باطن نفسه ما استطاع مستنبشًا أغوارها السحيقة النائية كيما يؤدي إحساسه تأدية أمينة صحيحة لا كلفة فيه ولا غش. رامي شاب يتدفق في شرايينه دم الصبا، وتغلي في فؤاده نزوات الفتوة وتسبق العاطفة فيه العقل، وتتحكم في قلبه أعراض الشباب من طيش ورعونة ونزق وعدم احتفال، وهو يدري ذلك جيدًا ولكنه لا يخشاه أو يحاول تشذيبه أو الفرار منه، إذ هو يحس بسليقته الشعرية أن مستهبط وحيه هو هذا الشباب الأهوج الجموح، وأنه لولا الشباب لما كان الشعر، وأن نقائصه المزعومة تلك هي في الحقيقة غذاء الميول الأول والأخير. لذلك هو يعب في شبابه حتى الشرق، تاركًا نفسه على سجيتها، مطلقًا لشهواته العنان، مرسلاً أهواءه في يم الحياة حيث يعلم أن قلبه لا بد سيتحطم على صخرة في النهاية ألمًا وحسرة. وهو عربيد كبير يستسلم كل الاستسلام لغرائزه الدنيا ويذهب في الخضوع لها أقصى المذاهب كي يلمس عن كثب وجه الحياة كاملاً من فرح وبؤس، وضحك وبكاء، وجحيم ونعيم، ولذة وألم. يعيش رامي هذه العيشة غير العادية التي تذكرنا باللورد بيرون أو ألفريد موسيه. يعيشها ويؤديها كما شاعت في نفسه واضطرمت بين جوانحه. لذلك هو شديد الحاجة لعقل نير مدقق فاحص يحفظ به توازنه، ولذلك هو شديد الميل للاغتراف من معين الثقافة الأوربية حتى يتمكن عقله من ملاحقة وجدانه في تدوين ما يجول به من عواطف وشعور. وإليك مثال ذلك قطعة عنوانها (بين الشك واليقين) . قد أحاطت بك العيون فما أسـ ... ـطيع ألقى مكان عيني منك وجرت حولك الأحاديث حتى ... كدت أنسى الذي أحدث عنك وأطافت بك القلوب وقلبي ... ضاع في غمرها ولما يضعك خبريني أي القلوب تناجيـ ... ... ـن فقد همت في غيابة شك أي نفس سبرت غور هواها ... وتحديت سرها بالهتك فتنعمت كي تنيمي أساها ... نومة الطفل بعد طول التشكي وتبادلتما الهوى بعيون ... تتلاقى بالغيب خوف التحكي هي نفسي، قولي أقري شجاها ... وأبيني عن سر نفسك تلك أم نفوس حسبت فيها وفاء ... وتوهمت حبها دون شرك قدك وهما، لقد تغلغلت فيها ... وتبينت ميلها للترك فشجاني أني أحبك حبًّا ... خالص الود في نعيم وضنك وتيقنت أن ملكك قلبي ... وتأكدت أن قلبك ملكي هذه الوحدة الأساسية المترابطة بها أجزاء المقطوعة بحيث لا يمكن انتزاع أي بيت منها دون أن يهوي البناء كله [٩] أمر نادر للغاية عند شعرائنا، وهو الدليل الحي على هجمة العاطفة المباغتة على الشاعر دفعة واحدة. وإن ما يستهويني في رامي هو أنه شاعر له عروس شعر يستوضح على نورها مفاتن الحياة، يحبها ويستوحيها فنه ويحب الحب فيها، ويحب نفسه عاشقًا لها مضني بهذا العشق متشبثًا به في بلد متأخر نساؤه، مقصيات عن رجاله، لا يشعر فيه الأديب الفنان شعورًا مباشرًا بما تحمل المرأة من سحر الأنوثة وكنوز الرحمة، ورامي صادق في شعره صدقه في حبه، وهذا الصدق هو الذي يمتاز به عن شعراء الشباب جميعًا، فمقاطيعه تتراءى فضاحة مخضبة بدم قلبه فيها كل هواه من ولع وشك وغيرة وحسرة وعذاب كهذه مثلاً: بين ذل الهوى وعزة نفسي ... ضاع قلبي فما عرفت التأسي وعزيز على الهوى أن أضيع الـ ... ـقلب في الحب بين ظن وحدس كلما قلت هين في هواها ... ما ألاقي من وحشة بعد أنس خفت أني أكون أعطيت قلبي ... للذي باع حبه بيع بخس وفؤادي أعز ما أقتنيه ... في حياة أعيش منها بحسي أو بعض هذه: كان يغنيني إذا عز اللقاء ... أننا ننشق من نفس الهواء ويعزيني إذا طال المدى ... بالتلاقي أن أظلتنا سماء ثم وليت فلم ألق الذي ... يبعث السلوى لنفسي والعزاء يا هنيئًا لك ما تلقينه ... من نعيم ومراح وصفاء شارفي البحر وناغي موجه ... وابعثي النشوة فيه بالغناء وانضحي الجو بمنثور الشجى ... واتركي الألحان تسري ما تشاء ما لقلب فاقد توأمه ... غير أن يبكي ويمضي في البكاء ثم هو مغرم باقتناص شوارد عواطفه، وحبسها في مقطوعة صغيرة كما يفعل شعراء الغرب بعد تحليلها حسب التدرج المنطقي في إحساسه بها كهذه [١٠] هجرتك علني أسلو فأنسى ... وأطوي صفحة العهد القديم وعالجت التناسي فيك حتى ... غدا من فرط ذكريه همومي ذكرتك ناسيًا ونسيت أني ... أريد البرء للقلب الكليم وكنت أحاول النسيان جهدي ... فصرت أحن للحب المقيم ولرامي بعد إذ يكون قد أقلقه حبه، وعبث براحته وأمضه رغبة في افتقاد نفسه والخلو بفكره واستجماع قواه للتحليق بها فوق العالم بعيداً عن الصغائر اليومية حيث تخلص روحه من أدران الأرض، وتتطهر في سموات الله. وإليك بعض أبيات من قصيدة رائعة أسماها (الوحدة) فهي أبدع ختام: أنا إن عشت لا أعيش لنفسي ... فمقامي استرواحة لظعين إنما العيش روضة أنا فيها ... زهرة لا تظل فوق الغصون ضاع نشري فضاع في الجو لم ينـ ... ـشقه إلا لوافح تذويني بح صوتي في ضجة الناس لا أسـ ... ـمع فيهم تناوحي وأنيني فإذا ما خلوت أسمع في الوحـ ... ـدة نفسي وأستجيش حنيني وأراني وقد غنيت عن النا ... س بنجوى خواطري وظنوني خلت أني أعيش في عالم الأر ... واح لا في سلالة من طين والآن وقد أشرت إلى مكانة رامي عندنا من الشعر الصحيح أقول إن هذه كلمة كان من واجبي أن أكتبها اعترافًا بمجهوده، غير أني لا أود أن يفهم البعض منها أن في نيتي إقامة شعر (أحمد رامي) على صريح شاهق والإشادة به كعمل من أعمال الإنسانية الخالدة، لا، ليس في هذا الشعر لا إبداع خارق ولا عبقرية ولكنه أجود من أي شعر نسمعه من شباب مصر اليوم، ورامي أصدق من كثير من شعرائنا المشهورين، وقد يأتي يوم وهو دون شك قريب تكتمل فيه قوى شاعرنا الشاب فيتحرر تمام التحرر من أوزان الشعر العربي التقليدي وتفاعيله، وعندئذ يخلق خلقه الخاص في إطار مبتكر طريق غير مقيد لا بالقافية العربية المتشابهة العتيقة، ولا بالفكر العربي أيضًا. ... ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم المصري *** تعليق المنار يصف الأدباء الدكتور طه حسين بالغرور ولكن غروره يعد تواضعًا تجاه غرور مقلده إبراهيم المصري فهو يحكم على رامي وعلى سائر شعراء العصر قد فضله عليهم ويحكم على أشعار الأمم والشعوب وعلومها حكم القاضي الجاهل الجائر المغرور الذي يسوّل له غروره أن الأعناق كلها تخضع لحكمه، وأن الطبيعة تنفذه ممتثلة لأوامره ونهيه، وأعجب أمره أن كل ما هجا به الأدب والشعر العربي بالباطل يحق عليه في مقاله هذا فهو شعريات خيالية كاذبة فيما مدح وفيما ذم، وهو مزجي البضاعة في اللغة العربية كما يعلم من أغلاطه ووضعه الكلم في غير موضعه، وفاقد لذوق الشعر العربي الذي أعجب به كل من عرفه من جميع الأمم. ما وصف به هذا المقرظ شعر العرب باطل لا يخفى بطلانه على أحد اطلع على شعرهم قبل الإسلام وبعده، فإن كان له دليل يدل عليه، أو شواهد تشهد له، ففي نظم بعض المولدين المتكفلين في القرون الوسطى إلى القرن الماضي، وسببه ضعف اللغة العربية بضعف دولها أو زوالها وهو ما يسميه أهل النقد اليوم وقبل اليوم نظمًا لا شعرًا. كان بيني وبين مستر (متشل إنس) الإنكليزي الحر المستقل الفكر مسامرات ومطارحات علمية وأدبية ودينية أيام كان بمصر يشغل منصب (وكيل وزارة المالية) ذكرنا في بعض أسمارنا الشعر، فقال: إنه لا يظن أن الشعر العربي يسمو إلى مكانه الشعر الإنكليزي، قلت: وأنا لا أظن أن الشعر الإنكليزي يرتقي إلى أوج الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه، ولكن ظني وظنك منتزعان من معرفة أحد الشعرين فلا يصح أن يبني عليه حكم صحيح، وإنما الحكم الصحيح في هذا لمن أتقن اللغتين، ومارس الشعرين. ثم لقيت مستر (بلنت) المستشرق الإنكليزي الشهير وهو الذي نظم المعلقات السبع بالإنكليزية، ومن أجدر منه بالحكم في هذه القضية؟ فذكرت له ما دار بيني وبين مستر متشل إنس وطلبت حكمه فيه فقال: قل لمتشل إنس: إن العرب كانت تنطق بالحكمة في شعرها عندما كان الإنجليز دايرين عريانين في الغابات أهـ بحروفه. وأقول الآن: إن الإنكليز هم أصحاب القدح المعلَّى بين الشعوب الأوربية في الشعر وشاعرهم الأكبر (شكسبير) لا يفاخره مفاخر في شعب منها. وأما شعر الإغريق الذي يفضله المجدد (إبراهيم المصري) على الشعر العربي وينعى على العرب نبذهم له وترك الاقتباس من معانيه كما اقتبسوا من فنون اليونان وفلسفتها. فقد كنا نجهله قبل أن يترجم لنا سليمان أفندي البستاني (الإلياذة) نظمًا، وكنا لا نبيح لأنفسنا الحكم فيه فلما اطلعنا على (الإلياذة) وهي أعلى شعر الإغريق ومفخرتهم التاريخية حكمنا بأن أجدادنا لم ينبذوا شعرهم وراء ظهورهم إلا أنهم وجدوه دون الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه، وأنه على ذلك مشوه بالخرافات الوثنية التي طهر الله عقولهم ومخيلاتهم منها بالإسلام، وأن هذا كان عن علم ومعرفة من خواص أدبائهم لا من باب من جهل شيئًا وعاداه. هذا وإن شعر هوميروس أقدم شعر يذكر في التاريخ، وشكسبير أشعر شعراء الإنكليز بل الإفرنج كافة قديم أيضًا فقد نظم شعره في القرن السادس عشر ومات هو في ١٦١٦ م وذلك قبل ابتلاء أوربا بالثقافة المادية الشهوانية الجديدة التي يدعو إليها الكاتب وأساتذته بحجة تفضيل الجديد على القديم. يزعم المقرظ أن العرب لم يوجد عندهم كتاب إلا كتاب دينهم (القرآن) ولا ندري أيقول هذا عن جهل بما عند العرب أم تبيح له دعاية الإلحاد وهدم مقومات الأمة العربية الكذب كما هو شأن جميع دعاة السياسة ودعاة الزندقة. إنما موضوع كلامه وكلامنا معه الشعر، فهل يدعى أن ديوان الحماسة ودواوين المعري ولا سيما اللزوميات مصداق لما وصم به الشعر العربي (والعقلية العربية) ؟ دع ما لا يحصى من كتب الأخلاق والأدب المتداولة كأدب الدنيا والدين للماوردي والحكم لابن عطاء الله السكندري - وغير المتداولة وهي اكثر وبعضها محفوظ في خزانات دور الكتب العامة والخاصة وأكثرها قضى عليه جهل التتار المخربين في الشرق، وجهل الأسبان المتعصبين في الغرب. أي عيب في الأوزان العربية حملته على جعلها رقا يجب أن يحرر الشاعر نفسه منه؟ وأما القوافي فإن صح أنها قيد أو مدعاة ملل، فاللغة لا تقيده بشيء منها وقد كسر المولدون من شعراء العربية في الأندلس وفي الشرق هذا القيد منذ قرون، وزاد شعراء هذا العصر عليهم. وأما علوم العرب وفنونهم وأستاذيتهم لأوربا فمبسوطة في كتب علمائها المنصفين ومؤرخيها الاجتماعيين، كموسيو سيدليو والدكتور غوستاف لوبون ومستر درابر وأمثالهم. أعاذ الله الشاعر الفتى (أحمد رامي) بسلامة فطرته، وفضائل ملته، ومقومات أمته، واستقلال فكره، من إغواء شياطين الزندقة والإلحاد، ودعاة الإباحة المطلقة، أعداء أمتهم وملتهم، وخدمة المستعمرين المستعبدين لأقوامهم، والمستبدين في مصالح أوطانهم، وعن تغريرهم لهم بلقب الشباب لحسبانهم أن الشبان بغرارتهم وحبهم للتنقل والتجدد، وجرأتهم على الأحداث بطبيعة حداثتهم، هم الذين يتبعون غوايتهم، ويؤلفون جند ضلالتهم، ويكونون في مصر ثقافة مادية إباحية تذهب بصحة الأمة وثروتها وأعراضها ودينها فتكون طعمة للطاعمين الطامعين. وبهذه المناسبة نعيد ونكرر تحذير الأمة العربية في مصر وفي كل قطر من دعاية جريدة السياسة الإلحادية ودعواها إمكان استغناء هذه الأمة عن دينها وتشريعها وآدابها وتاريخها بما تسميه الثقافة الأوربية، فإن الأمة العربية لا تحتاج إلى اقتباس شيء من أوربا إلا الفنون العملية التي ترتقي بها الزراعة والصناعة والنظام المالي والعسكري. وكل ما عدا هذا من عادات وتقاليد وتشريع وفلسفة مادية فهي مفسدة للأمة، لا لأن ما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى بل لأن فساد الآداب والعادات والأفكار المادية هي في أوربا موضوع شكوى عقلائهم من جميع شعوبهم، ولأن هذه الشعوب أقوى من أمتنا احتمالاً لهذه المفاسد، وإننا نرى من تأثير دعاية الإلحاد وفوضى الآداب هنا ما يشكو من سوء عاقبته جميع العقلاء ولا سيما فُشُوّ إباحة الأعراض الذي هو مصيدة الشيطان للشبان؛ فهو هادم لنظام البيوت (العائلات) وهدمها هدم للأمة فكيف يمكن معه تجديد شباب الأمة، وملكها؟؟