للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا


استنهاض همم
رسالة مطولة لأحد فضلاء الكُتاب في سوريا
(١)
لم نر الحديث تسلسل في هذا الموضوع بين الكتاب مثلما رأيناه لهذا العهد، ولم
نعهد للأقلام جولة في هذا المضمار كجولتها في هذه الأزمنة المتأخرة شعور سماوي
قام في نفوس النبهاء من المسلمين وعقلائهم، وروح زكي هبط عليهم من عالم القدس
فبعث راقد هممهم. إذا تهامس أبناء طنجة بحديث في الإصلاح رنَّ صداه بين أبناء
سنغابور وحوّموا عليه، أو قدح هؤلاء زناد رأي في عمل لاح له وميض في جو
أولئك واشرأبُّوا إليه، وإن تموج الهواء من أقصى الجنوب لهمهمة مسلميها أصاخ له
إخوانهم في أقصى الشمال، وإن تناجَى اثنان هنا انتقلت نجواهما إلى هناك انتقال
الكهربائية بدون أسلاك، أهاب المتيقظ بالمهوّم [١] ، وصاح المنتبه بالغافل وتلتل
العامل المقصر واستحث السابق المتأخر، وهم - في حوارهم هذا - مجمعون على أن
الأمة في مرض يقرب من الحَرَض، وكادوا يصفقون على أن علاجه الناجع هو تعميم
التربية والتعليم. هل الأمة في عوز لتناول هذا العلاج، وهل يتسنى لها تناوله،
وإن أحجمت عن تناوله كيف يكون مصيرها وإلى أي بيئة تتحول بيئاتها؟
استدعى هذا السؤال جوابًا مسهبًا واستثار حديثًا طويلاً، وكنت في ملأ من أهل
اليسار والجاه والنعمة والرفاه؛ فأحببت أن أرفعه على صفحات (المنار) علّ فيه
موعظة وذكرى لأولي الأبصار.
قلت أولاً: إن الحكومات الإسلامية التي ما برحت تحافظ على استقلالها هي
أربع:العثمانية، والفارسية، والأفغانية، والمراكشية.أما بقية الجماعات الإسلامية
فهي إما إمارات مستضعفة تلوذ بالدول الإفرنجية أو تستظل بحمايتها. وإما قبائل
رُحَّل تضرب في صحارِ إفريقية ومجاهل آسيا، وهناك أقوام سقطوا في مهاوي
الاستعمار الأوربي وخنعوا لصولجان الحكم الأجنبي، ولا جرم أن النهضة في
إصلاح الخلل ورتق الفتق، إنما تُرجَى على أكملها في الحكومات الأربع المستقلة. إذا
لم تسعَ تلك الحكومات في التقرب من بعضها ولم تتدبر عاقبة أمرها فبشِّرْها
بسوء المنقلب وشؤم المآل.
كيف يؤمّل الإصلاح العام إذا لم يمشِ رجالات [٢] من أهل المشرق إلى
رجالات من أهل المغرب، ويتحاوروا في إصلاح شؤونهم ويديروا الرأي في مواساة
عللهم وتضميد كلومهم؟ كيف تتحد القلوب وتلتئم الأهواء وعلماء تلك الحكومات
متخاذلون ومن الصراط السوي ناكبون، لا يعترف أحدهم للآخر بشأن ولا
يستصوب له رأيًا إلا إذا وافق هواه ولاءم ما قام في نفسه؟ إذا آنس أحدهم من
الآخر معارضة أو مخالفة بهره [٣] بالزندقة والمروق، وزنه [٤] بالكفر والإلحاد! -
كل ذلك ليلوي عنه أعناق السامعين ويصرف قلوب المعجبين، ويستأثر بالشهرة بين
العالمين. كيف يرجى الإشراف على الغاية التي تتوخى الوصايا إليها وأولو الأمر
في تلك الحكومات لا يهمهم سوى حفظ مراكزهم وصيانة جثمانهم؟ قصروا أيدي
نبهاء الأمة عن مشاركتهم في إدارة شؤونها ومشايعتهم في رأب صدوعها، وأخذوا
بأكظامهم [٥] دون التفوه بكلمة تؤْذِن بإنعاشها وتعمل على إسعادها.
فعلوا ما فعلوا إرادة المحافظة على الإطلاق والاستئثار بالسلطة والانفراد
بالأمر، ليتهم يعلمون أن ذلك الإطلاق الذي توخوه هو عين التقييد والحجز، أليسوا
في هلع دائم وجبن خالع من حدوث ثورات تقضي على سلطتهم وتبزهم إطلاقهم
واستبدادهم؟ أليسوا في حذر وإشفاق من تألب الأمة عليهم وأخذها على أيديهم؟
أليس كل خطأ في سياسة البلاد أو خلل في إدارة مصالحها وأعمالها يُنسب في العادة
إلى عاهلها أو أميرها إذا كان مطلق التصرف ويُعزَى إلى أفن رأيه وسوء تدبيره؟
هذه شؤون المطلقين المستأثرين بالسلطة. اصرفوا أبصارَكم تلقاء أولئك الذين
زحزحوا عن عواتقهم عبء المسؤولية، وألقوا معظمه على رجال من أممهم، وقيدوا
أنفسهم بآراء المنتخبين والشرائع والقوانين - تروهم يتقلبون في شؤونهم وملء
عيونهم غمض، وحشو أجسامهم أمن، لا تسمع في بلادهم لاغية شكوى عليهم، ولا
تحس برِكْز أو حسيس [٦] لثورة في خضد شوكتهم وثل عروشهم إذا ألمَّ بسياسة الأمم
ضعف أو فساد، أو حدث في مصالحها العامة تراخٍ أو خلل - كان المسؤول بتلك
التبعة والمطالب بسوء نتائجها هو الذي جناها واجترحتها يده، لا ينحى على الزعيم
الأكبر بلائمة ولا ينبس في النيل منه بكلمة. لا جرم أن المسمى بالإطلاق هو عين
التقييد، والمسمى بالتقييد هو عين الإطلاق.
أنى يُتاح للأمة إفاقة من هذا الخمار أو تفلت من أحابيل الجهل والضعف
والاستخذاء (المذلة) وروحها التي هي المال في قبضة أناس لا يهمهم سوى إنفاقه
في سبيل شهواتهم؟ ليت شعري بماذا يمتاز المسترسلون في ملاذهم المنغمسون في
شهواتهم عن البهائم المرسلة إذا لم يبذلوا جزءًا من دثرهم - مالهم الكثير - في إنقاذ
أمتهم من الجهالة، وتنوير عقول شبانها بالعلم والعرفان.
مهما تنعَّم المرء في ضروب الترف وتقلب في أنواع الرفه كان حظ البهيمة في
ذلك أكمل ولذاتها أتم، البهيمة تسعى في تلمس شهوة نفسها واستيفاء لذة حواسها،
فالخليق بالإنسان أن يباينها في ذلك ويسعى في تطلُّب شهوة عقله واستيفاء لذة
وجدانه وشعوره، شهوة العقل هي الارتياض بالكمالات والقيام بالواجبات. لا كمال
أرفع ولا واجب أقدس من خدمة المرء لأمته وسعيه في إصلاح قومه. لا عمل
يحفظه التاريخ ويشكره الله مثل عمل المرء في صيانة وطنه وإنقاذه من المخاطر
المحتفَّة به. ما ينتظر المتقاعدون عن العمل؟ ماذا يرجو المخلفون عن مشايعة
العاملين؟ ما الذي يثبط الهمم عن السعي؟ ما الذي يُضعف العزائم عن الجهر
بالحق والنصيحة؟ أينتظرون صيحة من العالم العلوي تثير الراكد وتوقظ الراقد؟!
أيرتقبون هُتافًا من عالم الأرواح يزعج الأنفس المطمئنة ويتلتل الهمم المستكنة؟!
أيصيخون إلى نبآت وهمسات من خلل برازخ الأموات تجمع البدد وتصلح ما
فسد وتعلم الجاهل وتنبه الغافل؟ !
جلت عظمة الله وتقدست حكمته، إن هي إلا نواميس كونية وسنن إلهية
وضعها تعالى من العالم موضع القطب من الرحى أو الروح من الجسد، فمَن رعاها
حق رعايتها، وتوخى السير عليها ظفر، ومن دابرها أو تنكّب جددها عثر تلك
النواميس والسنن لا تبديل فيها، ولا تخلف يعترض دون اطرادها إلا ما كان
في أزمنة النبوات أزمنة التحدي بالخوارق والمعجزات.
وبالجملة، إن ما تواتر على الأمة من القوارع وتتابع من وخزات الحوادث
كافٍ لإماطة غشاوة الغفلة عن أبصار آحادها وتفكيك هممهم من العقل والأغلال التي
كبلتها. وما رأيناه لهذه الآونة من تلك الروح العلوية الفائضة عن ألسنة عقلائنا
والطائفة على أسنان أقلامهم في خطبهم وكتاباتهم - جدير بإحياء ميت الآمال فينا
وإثارة رواكد الأماني في نفوسنا وحقيق بأن يبعثنا على اطِّراح اليأس والقنوط
والأخذ بأسباب الحيطة والحزم قبل تقلص الفرص وتجافي الأسباب وحدوث ما لم
يكن في الحسبان. فلنلُف اليأس بالكسل ونرمي بهما من حالق جبل. ولنضع أمام
أعيننا نور الأمل ثم لنُقبل على العلم والعمل، وعلى الله سبحانه العصمة من الزلل.
((يتبع بمقال تالٍ))