نشر في مصر (إعلان) مطبوع عنوانه (أشهر الحوادث وأعظم الرجال.. حادثة في الأزهر) يريد ناشره أن يشهر به نفسه بالولاية والقدرة على إخراج الشياطين من الأجسام والبيوت , ورأى أن إعلانه لا يُقرأ إلا إذا افتتحه بذكر الأستاذ الإمام رضي الله عنه ولو بالكذب عليه لعلمه بأن الأمة تقرأ كل ما يكتب عنه , ومن العجائب أن بعض الجرائد نشرت هذا الإعلان الضار وأقرته. وإننا ننشره وننكره وهو باختصار: (لا ريب أن الجامعة المصرية قد حضرت دروس حكيم الشرق وفيلسوف الإسلام الشيخ محمد عبده إذ كان يتخذ (أدحية) في الأزهر ويقرأ فيها جهارًا والناس من حوله من ترك وعرب وعجم فضلاً عما يخالط ذلك من دانٍ وشاسع , وكان إذ ذاك يصيح بأعلى صوته بأن لا وجود للجن , وكثيرًا ما جاهر بهذا الإنكار على رءوس الأشهاد والعلماء يحاجونه بالكتب المنزلة فما استطاعوا له ردًّا , وكان ينسب ذلك إلى الخيال والتصورات والأوهام وضرب لذلك جملة أمثال , ولكن لكلٍّ شِرْب وله شرب معلوم , وكثير ما كان صاحب المؤيد واللواء والظاهر خاضوا معه في هذا الموضوع , وأكثر الناس وافقه على هذا الأمر على أنه يوجد أكبر شاهد على وجود الجن وهو من خيرة العلماء الأفاضل وعضو في إدارة الأزهر ومن رجال التشريفة وأمين الكتبخانة وهو الشيخ محمد حسنين , وتحرير الخبر أن هذا الشيخ اشترى من منذ سنتين منزلاً بأم الغلام بجوار سيدنا الحسين فأعجبه , ولكن رأى فيه في هذه الأيام رجم أحجار فظن أنه من الجيران فصنع صورًا من خشب على السطوح فزاد الحال وعظم حتى ظهرت الجن في شكل قردة وخنازير وكلاب وقطط , وصاروا ينقلون الكتب والملابس والفرش والمفاتيح من جيبه ويلقونها في الشارع. على أن هذا الشيخ ترك أشغاله واشتغل بهذا الحادث حتى كان لا ينام من الليل دقيقة فشاع الخبر وذاع في مصر وضواحيها , وأرسلت إليه جميع الإخوان جوابات بفوائد ووصفات، وكثير من أعاظم مصر أرسل عدة رجال مهمين يدعون المعرفة فاجتهد الشيخ إبراهيم الطوبي الكتبي واستحضر جملة المغاربة والسودانية فلم تحصل فائدة , وكذلك حضر الشيخ محمد الرفاعي وقرأ وكتب ولكن ما أفادوا كذلك المغربي الذي في الخرنفش؛ فلم تحصل فائدة حتى يئس حضرة الأستاذ وصمم على بيع المنزل أو هجره حتى يحكم الله. وأخيرًا حضر بعض الأعيان وأخبر الأستاذ بأنه يوجد رجل.. ساح في الأرض وفي بلاد الهند والسودان وصاحب علوم وأسرار بل هو الولي في هذا الزمان , واسم هذا الشخص ... فتقابل معه الشيخ وقص عليه ما وقع , فتوجه إلى منزل الشيخ , وطلب سجادة وكان موجودًا وقت ذلك ٣٠٠ نفر , وفرشها وسط المنزل وطلب طشت نحاس وكتب عليه وقرأ وقال: احضر يا من هو موكل بالأذى , وبعد ساعة رفعت الناس الطشت فخرج من تحته طيرة تشبه النسر سوداء وصوتت بصوت رفيع , وتكلم معها وأشار إليها فطارت , والناس تنظر إليها وكل ذلك العمل كان بعد العصر , ولما جاء الليل أحضر جماعة من الجن وكل من حضر سمع كلامهم بالحرف الواحد وأخيرًا همَّ ... بصرف الأذى عن المنزل فانصرف , وكانت فقدت أشياء من المنزل ذات قيمة فردتها الجن كما كانت , وأخيرًا سئل.. عن هذا الأذى فقال معناه أن هذا الأمر يجب عليَّ أن أضع له سور من حديد على أنه لا يمكنني أن أطلع أحدًا عليه مهما كان ميله إليَّ وقربه من فؤادي) . اهـ المراد منه وليس بعدما ذكرنا إلا الغلو في شهرة صاحب الاسم المراد إشهاره بالكذب لمخادعة النساء والعوام بدعوى أن بيته مكتظ بالأمراء والإفرنج.. قد ادعى هذا الدجال عدة دعاوي باطلة يعلم بها أنه يتعمد الكذب: (أولاها) أن الأستاذ الإمام اتخذ لنفسه أدحية في الأزهر كان يقرأ فيها دروسه يعني مكانًا صغيرًا كأفحوص القطاة , والناس يعلمون أنه كان يقرأ في أعظم رواق في الأزهر. (ثانيها) أنه أنكر وجود الجن في دروسه جهرًا. وهذا كذب وبهتان بل اعترف في دروسه وكتبه بوجود الجن كما يعلم من حضر دروسه معنا ومن قرأ تفسير جزء عم من تأليفه أو تفسير المنار الذي نقتبس فيه دروسه التي كان يلقيها في الأزهر. (ثالثها) أن العلماء حاجوه في ذلك. (رابعها) أن المؤيد واللواء والظاهر خاضت معه في هذا الموضوع وكل ذلك كذب مبني على كذب. (خامسها) أن أكثر الناس وافقوه على إنكار الجن وهذا طعن بأكثر المسلمين وقذف لهم بالكفر والردة. وقد بلغنا عن الشيخ محمد حسنين أنه يقول: إن للحكاية أصلاً , ولكن ما نشر في الإعلان كله كذب وبهتان. صرح الأستاذ الإمام في تفسير سورة الناس بأن الجن خلق خفي , وقد قال الله تعالى في أبيهم إبليس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُم} (الأعراف: ٢٧) وما ورد من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن كما في حديث ابن مسعود في استماعهم القرآن قالوا: إنه لا يعارض الآية؛ لأنه من الخوارق وهي تأتي على خلاف سنة الله تعالى فهي من قبيل ما يسميه الحكام بالاستثناء. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يَرَ الجن عندما استمعوا القرآن لأنه تعالى يقول له في أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: ١) ، فقد علم ذلك بالوحي لا بالرؤية. ولكن ما اختلف فيه عالمان من أعلم الصحابة - ابن مسعود وابن عباس - هل كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا، قد صار عند أولياء الشيطان من الأمور المعتادة بزعمهم , فهم يرون الجن ويتصرفون فيهم كما شاءوا متى شاءوا، وما كانوا إلا خادعين وما كان الأستاذ الإمام إلا منكرًا دجلهم تأييدًا للقرآن ونصحًا للعوام. استدل الجاهل ناشر (الإعلان) على وجود الجن بحكاية الشيخ محمد حسنين , وما هذه الحكاية إلا كأمثالها من الحكايات التي لا تحصى عند أهل الخرافات وعبدة الأوهام , فكم من بيت كاد له شياطين الإنس من أهله أو من غير أهله فعبثوا وعاثوا في حنادس الظلمات أو من وراء الحجب والأستار , فتوهم السخفاء أن عيثهم من عمل الجن. وبلغوا من الكيد لمن أرادوا ما أرادوا. وقد اكتشف بعض أصحاب الذكاء والدهاء كثيرًا من هذه الحيل الشيطانية فعلم أن منها ما كان من الجيران لسبب غرامي أو لسبب مالي وهو الطمع في شراء البيت رخيصًا إذا خاف الناس من عفاريته , ومنها ما كان من بعض نساء الدار وخوادمها ابتغاء تركها وسكنى غيرها أو احتيالاً على الرجل الشرود ليأوي إليها. وقد كان من علماء الأزهر من يُحكى عنهم إخضاع الجن أو جعلهم تلاميذ لهم فهل صار للعفاريت والشياطين من السلطان على علماء الأزهر أن يسلبوا راحتهم في بيوتهم في زمن قل فيه ظهور العفاريت لتحوت العوام، إذ قلت الخرافات والأوهام؟