للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نزوح العرب عن أسبانيا

ظهرت في إحدى صحف نيويورك المسائية مقالة نفيسة لكاتب أمريكي قدير
ساعد بها على جلاء الريب العالق بالأذهان حول حقيقة خروج العرب من بلاد
الأندلس التي تدعى اليوم أسبانيا فآثرنا إيراد ملخصها، وهو هذا:
منذ ثلاث مائة وأربع سنوات نفت أسبانيا العرب من داخل حدودها بناء على
أمر ملكي أصدره فيليب الثالث فكان لها بذلك النفي انتحار وطني.
أعطت أسبانيا قبائل ماريسكوز مهلة ثلاثة أيام فقط لينزحوا في خلالها عن
البلاد مع أن عددهم كان مناهزًا مليونًا ونصف المليون، والمتبادر إلى الذهن أن
قومًا هذا عديدهم يستحيل عليهم العمل بما ينطبق على الأمر الصادر بحقهم ولا
يستطيعون الجلاء عن البلاد بكل تلك السرعة، وحينئذ أنشأت الحكومة تطردهم
وتطاردهم بقسوة بربرية تفوق الوصف، فعاملتهم معاملة الحيوانات والضواري؛ إذ
ذبحت منهم ألوفًا، ونقلت الباقين على بواخر إلى سواحل أفريقيا، وقد أجمع ثقات
المؤرخين على أن كثيرين من المطرودين كانوا يعرضون على السيف وهم على
متون السفن وتطرح جثثهم في البحر حتى لقد قيل: إن الأسبان فتكوا بمائة ألف
عربي من مجموع ١٤٠ ألفًا كانوا منقولين دفعة واحدة إلى القارة السوداء، وما
صافحوا الموت إلا بعد مقاساة صنوف التعذيب والإهانات وتمثيل فظيع بهم تقشعر
منه الأبدان.
ابتدأ عهد انحطاط أسبانيا وخرابها منذ ثورانها الجنوبي على العرب ونفيهم
من أراضيها، فإن قبائل الماريسكوز كانت تؤلف أفضل طبقات الشعب الأسباني،
فإنها صاحبة الأفكار والمعارف والصناعة؛ ولما دفعتها أمواج الحوادث إلى أراضي
أفريقيا وبعضها إلى بطون الحيتان وجوف الأرض، أبقت فراغًا في أسبانيا لم يقم
بعدها من يملؤه. فإن العلوم والفنون والصنائع انحطت بعدها أو تقلص ظلها بالكلية
من البلاد الأسبانية، وأمست مقاطعات واسعة من أراضيها ليس لها من يحرثها
فكانت قفارًا جرداء ليس فيها ساكن.
إن الزراعة العجيبة التي صيرت سهول الأندلس مثال الفردوس قد انمحت
آثارها ولم يعد لها رسم، وهكذا انقضى عهد المصانع الحريرية وأساليب الري
المنتظمة التي كانت تحيا بها البلاد. وبالتالي فإن البقاع التي كانت كجنة عدن
بروائها باتت عبارة عن صحاري قاحلة.
إن مغبة نفي العرب من الأندلس جاءت آفات على أبنائها، فإن العلم الذي
يتغلب على الطبيعة ويذلل قوتها لتخضع لإرادة الإنسان، والذكاء الذي يصقل
الأخلاق ويلطف العواطف ويعين على إيجاد الإخاء والتقدم، كانا في أسبانيا
مجسمين بالعرب، ومنذ نفي العرب نفيت معهم تلك المزايا الراقية التي هي عناصر
المدنية القديرة، وحل محلها بين الأسبانيين خرافات وأوهام هي شر أعداء الإنسانية
ومعاثر الارتقاء.
عظيمة كانت زلة أسبانيا بنفيها العرب من بلادها وعظيمًا كان القصاص الذي
وقع على الأسبانيين بسبب زلتهم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مرآة الغرب)