للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مجلة نور الإسلام والأستاذ الدجوي

أتمت هذه المجلة الأزهرية سنتها الأولى ولولا فتاوى الأستاذ الشيخ يوسف
الدجوي ومقالاته فيها لكانت جديرة بالتهنئة؛ ففي مكتوباته ما يدعو إلى العجب من
مخالفة إجماع السلف الصالح في الاتباع، وتأييد الخلف الطالح في الابتداع،
وإقرار ما أفسد على الخرافيين دينهم وآدابهم وصحتهم من عبادة القبور بالدعاء
والاستغاثة والتضرع والنذور لها، والطواف بها كالكعبة، واستلام أركانها وتقبيلها
كالحجر الأسود، وتقريب القرابين لها، وتسييب السوائب لأجلها، وشد الرحال
إلى موالدها، وتقديم عرائض الشكوى من مصائب الزمان للمدفونين فيها، وتسميته
ذلك كله توسلاً، وتوجيهه بالتأويلات التي حذقها الأزهريون في توجيه عبارات
الكتب المنتقدة بالاحتمالات الغريبة.
وقد كثر انتقاد أهل العلم الصحيح على هذه الفتاوى والمقالات وكان القائمون
بأمر الوعظ والإرشاد في مصر أشدهم تبرمًا وسخطًا على هذه المجلة أنها قطعت
عليهم طريق الوعظ والإرشاد بكونها مجلة المعاهد الدينية، لا بكون الكاتب في
توجيه البدع وعدها من عبادات الإسلام والشيخ يوسف الدجوي أحد كبار العلماء
الرسميين، فكل واحد من هؤلاء المرشدين الذين نعنيهم قادر على الرد على هذا
الشيخ وتفنيد تأويلاته الباطلة، ولكن الذي يجبنون عنه هو مقاومة رياسة الأزهر
والمعاهد الدينية في مجلتها؛ لأنهم موظفون من قِبَلها، ويعتقدون أن إغضابها يقطع
عليهم عملهم، فيفوتهم ثوابه ورزقهم، لذلك طالبَنَا غيرهم من أهل هذا القطر ومن
غيره بهذا الرد وأوجبوه علينا وأرسل إلينا بعض أهل العلم من الأزهريين غير
التابعين لرياسة المعاهد ومن غيرهم رسائل في الرد على الفتاوى والمقالات الدجوية
لنشرها في المنار، وهو لا يتسع لها، وكل ما يُنشر فيه خير منها، وما فيها من
الدلائل على نصر السنة ودحض البدعة، وحماية جانب التوحيد الأسمى، قد سبق
لنا بسطه بأوسع وأقوى مما كتبوه، فقراء المنار يعرفونه ولا يخفى على أحد منهم
أن يضل بشبهات الأستاذ الدجوي وتأويلاته الضعيفة النحيفة السخيفة، كالاستدلال
على شرعية دعاء غير الله تعالى من أصحاب القبور والاستغاثة بهم في الشدائد
والتضرع إليهم بكشف الضر، وجلب النفع، مما عجزوا عنه بأسبابه - بأن لفظ
الدعاء والاستغاثة قد ورد في اللغة العربية فيما ليس بعبادة.. إلخ. وبأن الصالحين
الذين يدعونهم يجوز أن ينفعوهم؛ لأنهم أحياء في قبورهم، وقد أثبت وجود
الأرواح وصلتها بالأحياء كثير من الإفرنج وغيرهم.
أمثال هذه الشبهات لا تروج عند أحد من عوام قراء المنار فضلاً عن
خواصهم؛ لأنهم يعلمون جميعًا أن الدين اتباع لا ابتداع، لو كان لما يصنعه عُباد
القبور ما ذُكر بالإجمال أصل في الإسلام لنقل فعله نقلاً متواترًا عن الصحابة
والتابعين والأئمة المجتهدين، عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور خلفائه
وخواص أصحابه رضي الله عنه ولكن لم ينقل عنهم شيء لا متواترًا ولا آحادًا، لا
بسند صحيح، ولا بسند ضعيف، على أن العبادة لا تثبت إلا بالنص، بل نقل
عنهم ما يبطل هذه البدع وأمثالها، بل نصوص القرآن القطعية تبطل هذا، وأنَّى
لنا أن نوصل هذه المعلومات إلى قراء مجلة نور الإسلام وأكثرهم لا يطلعون على
المنار؟ !
كنا نظن - كما يظن كثير من الناس - بالأستاذ الشيخ يوسف الدجوي ظنًّا
حسنًا يرفعه عن طبقة الجامدين على التقاليد الذين تؤثر في علمهم البيئة العامية.
وأول ما ظهر لنا مخالفًا لحسن ظننا في علمه وفهمه خطاب أرسله إلى عدو
السلف والمحدثين الشيخ الكوثري التركي الحشوي، فطبعه تلميذ للكوثري ووزعه
في الأمصار، فلما رأيته عزمت على الرد عليه، ودعوة الشيخ الدجوي إلى
المناظرة في موضوعه كتابةً، فلم نلبث أن رأينا اسمه في محرري مجلة نور
الإسلام ومن رأينا أن لا نتعجل بنقدها، ثم لم نلبث أن رأيناه هو مفتيها، وأن رأينا
في فتاويه ما لو خصصنا جميع صحائف المنار للرد عليه لما وفت به، ولو كانت
مجلة نور الإسلام تقبل الرد على ما يُنشر فيها كالمنار بما شاءت من الشروط
العلمية والأدبية لكفتنا وكفت غيرنا مؤنة هذا الواجب، لتمييز الحق من الباطل،
ولكنها لا تفعل.
فلم يبق إلا أن تنشر هذه الردود التي كتبها - أو يريد أن يكتبها - الكثيرون
في بعض الجرائد الإسلامية اليومية بمصر، وأن ترسل خلاصة منها إلى الجرائد
الإسلامية في سائر الأقطار.
وقد كان بعض علماء هذه البلاد شرعوا في الرد عليه في جريدة الفلاح
المصري فحال إبطال الحكومة لها دون المضي في ذلك، ولكن من هؤلاء مَن
حاول الرد عليه في كل ما رآه مخطئًا فيه من نقل ورأي وحكاية قول غير صحيح،
وهذا شرحه طويل، فالواجب الرد عليه فيما أخطأ فيه من المسائل الدينية قبل كل
شيء.
وإن لديَّ من الشواغل الخاصة في هذا الوقت ما يمنعني من التصدي للرد
التفصيلي عليه في الجرائد (منها) أنني مشتغل بإتمام طبع الجزء الأول من تاريخ
الأستاذ الإمام الذي طال العهد على مطالبة الناس لنا به وهو أكبر مما سبقه
وسيصدر في هذا الصيف إن شاء الله تعالى.
لو أعطى فضيلة الأستاذ الأكبر - أو مجلس الأزهر الأعلى - هذه المجلة
حقها من العناية في نظام التحرير وأبواب المسائل لجعل لباب الفتوى لجنة خاصة
أو لناطها بفضيلة مفتي الديار المصرية وهو يختار لها من العلماء من يرى فيهم
الكفاية تحت إشرافه؛ فقد علمت أن الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي هذا
العصر قد فضل مَن قبله من المفتين بإقامة الدلائل على ما يفتي به في كل موضوع
بحسبه، وهو على ما علمت من سيرته في الذروة العليا من علماء الأزهر في سعة
الاطلاع على العلوم الشرعية ومتعلقاتها ولا سيما التفسير والحديث اللذين قصر
فيهما الأكثرون. ويظهر مما يكتبه الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي في نور الإسلام
أنه من أقلهم بضاعة في هذين العلمين، وهما أساس علوم الشرع ولا سيما الحديث
- روايته ودرايته - وفي آثار السلف الصالح.
ولم يقف هذا الأستاذ عند حد الفتوى في الجناية على هذه المجلة العامة التي
كان من الواجب عليها العناية بجمع كلمة المسلمين والتأليف بينهم حتى وجه عنايته
للتفريق بين الأزهريين - إن لم أقل المصريين - وبين الوهابيين، بكتابة مقالات
خاصة في الطعن على عقائد هؤلاء وتجهيلهم، وقذفهم بتكفير مَن عداهم من
المسلمين، والظاهر أنه تلقى ما يسنده إليهم من المتداوَل على ألسنة الناس من تأثير
الدعاية العثمانية التركية القديمة التي أذاعها أتباعهم وأنصار سياستهم منذ ظهرت
نهضتهم الدينية في بلاد العرب، وخشي الترك أن يؤسسوا دولة عربية قوية تزيل
سلطانهم من البلاد العربية، فحاربتهم الدولة لذلك بالسلاح وبالدسائس والدعاية
الدينية، واستخدمت في هذا بعض المنافقين والخرافيين من المعممين وغيرهم من
الكُتَّاب، فزعموا أن لهم مذهبًا جديدًا في الإسلام من قواعده تكفير كل من يخالفهم،
ومن أشهر من ألف في الرد عليهم كبير ملاحدة العراق المجاهر بالإلحاد جميل
صدقي أفندي الزهاوي الشاعر المشهور.
ولولا هذا السبب السياسي لما كانت الدولة تبالي بعقائدهم وافقت السنة أم
خالفتها فإنها كانت تعد النُّصَيْرية والإسماعيلية والدروز من المسلمين في معاملاتها
الرسمية كلها! .
والحق أن هؤلاء الذين سموهم بالوهابية من أتباع إمام السنة الأكبر أحمد بن
حنبل رضي الله عنه، وإنني اطَّلعت على أكثر كتبهم وفتاويهم فلم أرهم يخالفون
مذهبه إلا في شيء واحد وهو أنه إذا صح الحديث -بخلاف الصحيح في المذهب-
وأخذ به الأئمة الثلاثة أو اثنان منهم فإنهم يرجحون العمل به على الصحيح في
المذهب.
وأما التكفير فلا يأخذون فيه إلا بما أجمع عليه المسلمون. بهذا صرح المجدد
الشيخ محمد عبد الوهاب وغيره من أولاده وأحفاده رحمهم الله تعالى.
وهم يفرقون بين بيان ما هو كفر بالقول والكتابة وبين الحكم به على الشخص
المعين ومعاملته معاملة المرتدين بالفعل فقد صرحوا بأن الشخص المعين يمكن أن
يكون متأولاً، وأن يكون في ارتكاب بعض المكفرات معذورًا بالجهل، ولم يبلغنا
أن حكومتهم قد أقامت حد الردة في الحجاز على أحد ممن ينكرون عليهم بعض
أقوالهم ويقولون لهم: إنها شرك بالله تعالى. مع العلم بأنهم يقيمون الحدود الشرعية.
وقد أجمع علماء المسلمين على تكفير من يشرك بالله تعالى أحدًا من خلقه ملكًا
كان أو نبيًّا أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا بتوجيه أي عبادة إليه مما يقصد به القربة
وطلب النفع أو دفع الضر من غير طريق الأسباب ولا سيما الدعاء الذي هو مخ
العبادة، والتضرع في الشدائد، وتقريب القرابين، فما كان من هذه التعبدات عمليًا
فهو لا يحتمل التأويل، وما كان منها قوليًّا فمنه ما يحتمل التأويل، وقد يخطئ
بعض علماء الوهابية كغيرهم في بعض المسائل التي تحتمل ذلك والتي لا تحتمله.
ولكن لا ينكر أحد عرف حالهم وبلادهم أنهم طهروها مما كان فاشيًا فيها من
الشرك بعبادة القبور والشجر والحجر، ومن البدع والخرافات التي أجمع المسلمون
على بدعيتها، فضلاً عن المعاصي المعروفة وترك الفرائض. فهي بهذا تفضل
هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام. وإن ما ينكره العالِم المسلم على أهلها مما لا
يخلو منه قوم من الأقوام فهو دون ما ينكر على غيرهم. فلماذا يخص الأستاذ
الدجوي هؤلاء بالرد عليهم والطعن في دينهم بغير بصيرة في هذا الوقت الذي وقع
فيه بين حكومتهم في الحجاز وحكومتنا المصرية من الخلاف والشقاق ما هو معروف
يشكو منه جميع المسلمين عندنا وعندهم وفي سائر الأقطار ويتمنون زواله؟
هل يدعي الأستاذ الدجوي أنه يفعل ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وهو يعلم أن في بلادنا من البدع والمنكرات أضعاف ما في بلادهم، وأن
أهلها أحوج من أهل نجد إلى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن المجلة التي
يكتب فيها منتشرة هنا غير معروفة في نجد، ولأن كلامه يرجى قبوله عند عوام
مصر وما يقرب منها من الأمصار، ولا يرجى أن يكون له من التأثير عند مَن
عساه يطلع عليه من الوهابيين إلا شره وأضره؛ لأنه ليس له من الآثار العلمية
المؤيدة بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح ما يحملهم على الثقة به والاعتداد
بعلمه ودينه إذا هو وصل إليهم، ولم يكن طعنًا فيهم، فكيف وهو طعن يستطيع
عوامهم الرد عليه؟ !
وكان اللائق بمكانته من كبار علماء الأزهر وباشتغاله في تحرير مجلة دينية
منسوبة إلى هذا المعهد الكبير الصيت جديرة بأن يكون من أكبر مقاصدها التأليف
بين المسلمين - وقد قام عنده باعث ما على الرد عليهم دون غيرهم - أن يقرأ عدة
من كتبهم المطبوعة المشهورة ويرد على ما يراهم متفقين عليه مما يرى هو أنه
خطأ أو على من يراه مخطئًا من علمائهم باسمه ولو فعل هذا لرأى أن هذه
التأويلات والاحتمالات التي يحتج بها على هذه البدع التي يسميها التوسل قد قيلت
من قبله وفندت تفنيدًا في تلك الكتب.
ومن أغرب ما يتأوله لعُباد القبور بناء أقوالهم وأفعالهم على أنهم أشعرية
يعتقدون أن لا فعل لغير الله تعالى ولا تأثير في شيء ما، لا كسب البشر الذي هم
فيه مجبورون في قوالب مختارين، ولا خواص الأشياء الطبيعية كإحراق النار
وإرواء الماء، فلو كان هؤلاء الناس يعتقدون هذا لما شد الرحال نساؤهم مع
رجالهم وأطفالهم إلى القبور، وحملوا إليها الهدايا والنذور، وقربوا عندها القرابين
لأجل قضاء حوائجهم، ودفع البلاء عنهم ومن العجيب أنهم يعتقدون أن بعضهم لا
يقبل من القرابين إلا المعز كأُويس القرني الذي ذبح عند قبره من عهد قريب ألوف
من المعز، وهذا القبر مزور قطعًا، فإن أويسًا لم يأتِ مصر (وأشهر الأقوال أنه
قُتل في واقعة صِفِّين وكان في جيش علي كرم الله وجهه) وكذلك شيخ آخر اسمه
أبو سريع لا يقربون له في مولده وغيره إلا المعز.
ومن استنبأهم واستنبطن أمرهم يعلم أنهم يعتقدون أن هؤلاء الموتى يجيبون
دعاء مَن يدعوهم وإغاثة من يستغيث بما له من التصرف في العالم فوق الأسباب،
لا أن الأسباب نفسها صورية يخلق الله الأشياء عندها لا بها كما يقول الأشعرية،
وإن أبلد الناس يعلم أنهم لو كانوا يؤمنون بأنه لا تأثير لها في نفع ولا كشف ضر لا
بسببية ولا بسلطة غيبية لما شدوا إليها الرحال، وحملوا الأثقال، وبذلوا الأموال
وارتكبوا عندها منكرات الأعمال، كترك الصلوات، واتباع الشهوات المغفورة
بزعمهم بما لهم من الكرامات. وكذلك لو يعلمون أن نذر هذه القرابين لها لا ينفعهم
شيئًا لما نذروا شيئًا منها. فإلى متى نكابر الحس بالاحتمالات الوهمية ونسمي هذا
علمًا ودينًا؟ !
ونزيد هؤلاء الخرافيين الذين لا يعرفون من الدين إلا ما يتلقفه بعضهم عن
بعض من الجهالات الموروثة التي اتبعوا فيها سنن من قبلهم مصداقًا للحديث
الصحيح المعروف. وقد أفسد ذلك عليهم دنياهم وصحتهم كما أفسد دينهم وقد صح
في الأحاديث لعن النبي صلى الله عليه وسلم لمتخذي القبور مساجد ولواضعي
السرج عليها، ووصفه إياهم بأنهم شرار الخلق عند الله عز وجل؟ آلله - يا شيخ
يوسف - لو كان الوهابيون الذين يقترفون هذا كله وما قبله، مما حرم هذا لأجله،
من دون قومك الذين ألفت هذا منهم، وتتأوله لهم تارة بحمل ألفاظهم على المجازات
اللغوية أو العقلية التي لا يعقلونها وتارة بأنه لا يضر مع العقيدة الأشعرية ماذا
كنت تقول فيهم؟ ! حاسب نفسك قبل أن يحاسبك ربك وأنصف منها.