للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الكرامات والخوارق

تتمة المقالة العاشرة
(المسألة الخامسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أن الكرامة
على قسمين: كرامة حسية كالمشي على الماء، وكرامة معنوية وهي التوفيق لكمال
المحافظة على حدود الشريعة ظاهرًا وباطنًا وما ينشأ عن ذلك من العلوم والمعارف
الإلهية. وذكر أن الأكابر لا يحفلون بالكرامات الحسية وأن أعظم كرامة عندهم
العلم بالله تعالى والدار الآخرة وما تستحقه الدار الدنيا وما خُلقت له ولأي شيء
وُضعت حتى يكون الإنسان من أمره على بصيرة من حيث كان فلا يجهل من نفسه
ولا من حركاته شيئًا. بل قال: إن الكرامة ليست إلا العلم. أما المعنوية فظاهر أن
العلم بمداها وثمرتها وأما الحسية فإنه يشترط أن تكون بتعريف إلهي وهو عين العلم.
ونقول: إن هذه الكرامة المعنوية لا ينكرها أحد وكلها نفع وليس فيها ضرر ولا
خداع فإن العلم نور لا ظلمة فيه. والولي المحمدي لا يليق به التعويل على غير
هذه الكرامة فإن آية نبيه الكبرى معنوية والكرامة قبس من نور المعجزة كما يقولون.
(المسألة السادسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أيضًا أن
الخوارق التي تحصل على أيدي الصالحين قد يكون فيها مكر خفي واستدراج،
وشرط لصحة كونها كرامة أكرم الله بها العبد لا مكرًا به ولا استدراجًا له أن تكون
ناتجة عن استقامة أو منتجة لاستقامة وأن تكون بتعريف إلهي. هذا ما اشترطه
شيخ الصوفية الأكبر، وهو مخالف لما في كتب علماء الظاهر من كون الكرامة هي
الأمر الخارق للعادة الذي يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح. ولو اعتبر بهذا وما
قبله الذين يعتدون المصادفات الغريبة كرامات وإن ظهرت على أيدي المستورين أو
الفاسقين لكفوا من غلوائهم.
(المسألة السابعة والعشرون) أن الكرامة في عرف العامة هي الفصل الذي
يميز طائفة من الناس يسمونهم الأولياء والولي في اللغة الناصر والمتولي للأمور
وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من دونه أولياء وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: ٢٥٧) ، وأولياء الله هم أنصار دينه والمميز لهم كمال الاتباع المعبر عنه
بالتقوى، فكل مؤمن تقي ولي وليس عمل الغرائب ولا صدور الخوارق دليلاً على
التقوى ولا على الولاية؛ قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: ٦٢-٦٣) ، وفي الباب السادس
والثمانين بعد المئة من الفتوحات المكية أن تارك الكرامات هو المتحقق باتخاذ الحق
وكيلاً له امتثالاً لقوله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} (المزمل: ٩) .
(المسألة الثامنة والعشرون) يستدل العامة على ثبوت وقوع الكرامات
للأولياء بقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} (الزمر: ٣٤) وهي جراءة
على تحريف القرآن فاشية فيهم، وإنما الآية في أهل الجنة في الجنة وقد اختزلوا
منها هذه الجملة فكان استدلالهم بها على أن الأولياء يعطيهم الله في الدنيا ما يشاؤون
من الخوارق كاستدلال بعض المتلاعبين على تحريم الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ... } (النساء: ٤٣) وترك القيد وهو قوله: { ...
وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: ٤٣) ، وأكثر الذين رأيناهم يستدلون على الكرامة بما
ذُكر جاهلون بما عدا تلك الكلمة من الآية؛ ولهذا نكتبها لهم بتمامها، وهي {تَرَى
الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي
رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ ... } (الشورى
: ٢٢) ، ثم قال بعدها: { ... ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} (الشورى: ٢٣) ...
إلخ، فأنت تراها بشارة للمؤمنين العاملين بما سيكون لهم من الجزاء في الآخرة،
فهي كقوله تعالى - بعد ذكر الجنة ودخول المتقين فيها -: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق: ٣٥) ، فأين ذلك من حديث الخوارق في الدنيا؟ !
(المسألة التاسعة والعشرون) أن الاعتقاد بالكرامة ليس من أصول الإيمان،
التي يكلف المؤمن باعتقادها كما تقدم وإنما ذكروها في كتب الدين؛ لما تقدم من
الاستدلال على وقوعها بالكتاب في قصة أم موسى وأم عيسى عليهما السلام. وقد
علم من المقالة الرابعة أن قصارى ما يدل عليه الكتاب هو الإلهام الصحيح للأولى
وتمثل الملك الروح الثانية ومكالمتها وذلك من مقدمات نبوة ولديهما كحبل مريم بنفخ
الروح فيها. فمثل هذا لا يقاس عليه لأنه آية لم تأتِ على قياس؛ لأن زمن النبوة قد
انقطع فلم يبق إلا تحكيم العلم في مسألة الخوارق فما أثبته فهو الثابت وما نفاه فهو
المنفي وما توقف فيه فالوقف حتم إلى أن يتجلى فيه شيء.
(المسألة الثلاثون) لنا أن نجعل الدين معينًا للعلم في البحث عن الخوارق
التي تحقق وقوعها وذلك أن الدين علمنا أن وراء العالم المحسوس عالمًا غيبيًّا لا
تستقل الحواس بإدراكه. ومن حكم الدين في الأخبار بهذا توجيه همة الإنسان إلى
شيء أرقى من هذه المحسوسات التي تشاركه فيها البهائم والحشرات حتى لا يقف
باستعداده غير المحدد عند هذه الحدود القريبة. وإن للعالم الغيبي اتصالاً بعالم
الشهادة المحسوس ومنها أرواحنا التي بها نحيا وندرك.
وهذه المسألة تنفعنا في تعليل كثير من الوقائع التي تسمى خوارق وهي
خوارق عادات حقيقة؛ ولكنها ليست خوارق للسنن الإلهية فإذا لم تظهر لها سنة
حسية جليلة فإن لها سنة معنوية خفية. وهذه التعليلات والتأويلات الآتية من قبيل
تعليل علماء المادة كثيرًا من الظواهر الطبيعية بالأثير يسندون إليه الآثار وإن لم
تدركه الأبصار بل هي أظهر منها وإننا نجعل هذه المسألة آخر المسائل التي نجلي
بها مبحث الخوارق والكرامات. فعلم من هذا أنه ليس في الدين دليل على وقوع
الخوارق لغير الأنبياء إلا في وقائع متصلة بهم ومتعلقة بظهورهم وأن المعول عليه
فيما وراء ذلك هو العلم والاختبار.
وسترى أنواع الخوارق في المقالات التالية وحكم العلم والاختبار فيها.
* * *
المقالة الحادية عشرة
في أنواع الكرامات وضروب التأويل
ما رأيت أحدًا توسع في الكلام على الكرامات كالتاج السبكي في الطبقات
الكبرى؛ ولذلك جعلنا كلامنا في المقالات الأولى معه. وقد تكلم في أنواع الكرامات
وقال: إن بعض المتأخرين عدد أنواع الواقعات من الكرامات فجعلها عشرة وهي
أكثر من ذلك وأنا أذكر ما عندي فيها، ثم ذكر خمسة وعشرين نوعًا لا تخلو من
تكرار وتداخل ثم قال: وأظن أن أنواع كراماتهم تبلغ المئة، وقد زدت عليه في
خاتمة كتاب (الحكمة الشريعة في محاكمة القادرية والأحمدية) أنواعًا مشهورة
عنهم. وإننا نسرد هذه الأنواع المشهورة ونحرر القول فيها. ونشير إلى وجوه
التأويل التي تعتريها فنقول:
(النوع الأول: إحياء الموتى)
ذكر السبكي فيه حكايات في إحياء نحو دابة ودجاجة وحدأة وطفل صغير وقع
من سطح فمات ثم قال: لا يثبت عندي أن وليًّا حيي له ميت مات من أزمان كثيرة
بعد ما صار عظمًا رميمًا ثم عاش بعدما حيي زمانًا كثيرًا، هذا القدر لم يبلغنا ولا
أعتقده وقع لأحد من الأولياء ولا شك في وقوع مثله للأنبياء عليهم السلام. فمثل هذا
يكون معجزة ولا تنتهي إليه الكرامة فيجوز أن يجيء نبي قبل اختتام النبوة بإحياء أمم
انقضت قبله بدهور ثم إذا عاشوا استمروا في قيد الحياة أزمانًا. ولا أعتقد الآن أن
وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمنًا طويلاً كما عمّرا قبل الوفاة
ولا زمانًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء كما خالطاهم قبل الوفاة. اهـ كلامه.
أقول: إذا كان يعترف بأن الشيخ عبد القادر الجيلي أحيا الدجاجة بعد أكلها
مطبوخة! ، فلماذا يستنكر على مثله إحياء الشافعي وأبي حنيفة وبماذا يفرق بين
الإحياءين؟ ! إن كان الكلام في الجواز وعدمه فهو حكم عقلي لا يختلف باختلاف
الأشخاص، وإن كان الكلام في الوقوع فهو يتوقف على المشاهدة أو السماع من
المعصوم أو النقل بالتواتر الصحيح عن أحدهما ولا شيء من ذلك بثابت إلا ما حكى
الله تعالى من قول عيسى عليه السلام: {وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران
: ٤٩) ، ولم يقل إنه أحيا ميتًا أو أمواتًا مضى على موتهم من الزمن الطويل؛
حتى صاروا رممًا بالية ثم عاشوا بين الناس وحدثوهم بما كان من أمرهم بعد الموت،
ولو فعل هذا لما بقي أحد إلا وآمن به.
ولسنا نريد أن عدم النص والتصريح بأنه أحيا الموتى بالفعل يقتضي أنه لم يقع
منه إحياء حقيقي بالفعل أو أن المراد بالموتى موتى الجهل والكفر وبالإحياء الهداية
إلى الإيمان والحق كما قال المأوِّلون وإنما نريد أن السبكي لا يجد نصًّا يؤيد به
دعواه وأنه متحكم، وإن كان مصيبًا في قوله وِفاقًا للقشيري: إن الكرامة لا تبلغ
مبلغ المعجزة ويظهر أن الميزان الذي يزن به هذه الأحكام هو عظمة الأشخاص أو
الأصناف في نفسه فلما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم الناس قدرًا أعطاهم
إحياء العظام الرميم وكون من يحيونه يعيش الزمن الطويل، وأعطى الأولياء إذا
كانوا دونهم إحياء الطيور والأطفال!
كان للنصارى غرام بنقل الآيات والخوارق والأمر الغريب إذا اشتهر بين
الناس لا ينسى وإن كان سنده واهيًا أو موضوعًا. ولم ينقل القوم عن المسيح أنه أحيا
العظام الرميم بل روى لوقا في آخر الفصل الثامن من إنجيله أن ابنة رئيس المجمع
ماتت وأن المسيح قال: (لا تبكوا لم تمُت لكنها نائمة ٥٣ فضحكوا عليه عارفين
أنها ماتت ٥٤ فأخرج الجميع خارجًا وأمسك بيدها ونادى قائلاً: يا صبية قومي،
فرجعت روحها وقامت في الحال) اهـ. وروى يوحنا في الفصل الحادي عشر
من إنجيله قصة إحياء (لعازر) أخي مريم ومرثا وكان المسيح يحبه ويحبهما
وكان مرض فأخبر المسيح تلاميذه بأنه نام وأنه يريد إيقاظه ويعني أنه مات فجاء
معهم من أورشليم إلى قرية بيت عينا، حيث كان لعازر وأختاه وكان قد مات
ووضع في مغارة منذ أربعة أيام فجاءها وأمر برفع الحجر ورفع هو عينيه إلى فوق
وقال: أيها الأب أشكرك؛ لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي
ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني، ولما قال هذا صرخ
بصوت عظيم لعازر هلم خارجًا فخرج الميت ... إلخ.
هذا ما رووه وهو على انقطاع إسناده ليس في شيء مما قال السبكي. أما حكاية
البنت فيحتمل أنها كانت في نوم حقيقي كما هو ظاهر قوله. وأما الحكاية الثانية
فإننا معشر المؤمنين نسلم بها إذا صح نقلها بالتواتر وإن كان ملاحدة النصارى قالوا
فيها باحتمال المواطأة بين المسيح ولعازر على ما كان (نعوذ بالله من كفرهم)
وباحتمال أن يكون ذلك من قبيل النوم الطويل فقد ثبت أن من الناس من ينام عدة
أسابيع أو عدة أشهر ثم يستيقظ بسبب أو بدون سبب، ولولا ما ثبت في القرآن من
نبوة المسيح وتأييد الله تعالى له بإحياء الموتى لكان التأويل متعينًا فليس عندنا نقل
متواتر يعتد به.
هذا، وإننا خرجنا عن الموضوع بإدخال المعجزة في البحث. والذي نقوله
في هذا النوع من حيث عدُّه في الكرامات إنه لم يثبت والأصل عدمه. وإن ما أورده
السبكي من الحكايات ينطبق على القاعدة التي قررها في طبقاته وهي عدم جواز
إظهار الكرامة إلا لأمر عظيم يضطر إليها حتى إنه انتحل تطبيق ما أورده من
الكرامات المأثورة عليها. وكان ينبغي له أن يطبقها على قاعدته الأخرى وهي عدم
بلوغ الكرامة مبلغ المعجزة فيقول: إن إحياء الموتى لا يكون من الكرامات ولا عبرة
بتلك القصص والحكايات.
هذا، وإن المشعوذين في أوربا وغيرها يخيلون للناس أنهم يذبحون الإنسان
فيبينون رأسه عن جثته ثم يحيونه ويطمع العلماء بأن يرتقي العلم بالناس إلى
مستوى يهتدون فيه إلى إعادة الحياة لمن تفارقه بعد زمن قريب! ومنهم طائفة من
الروحيين تشتغل بالبحث عن طريق مناجاة أرواح الموتى ولا يبعد أن يجيء يوم
يظهر لهم فيه أن ما روي من إحياء سيدنا عيسي للبنت ولعازر.
وإحياء سيدنا محمد لابن جابر قد كان بسُنة إلهية خفية وهو إمداد الأرواح
القوية العلوية للأرواح الضعيفة السفلية حتى تعود بإذن الله إلى التصرف بالجسد
وإذا لم يطل على مفارقته الأمد. وقد سبق الإلماع إلى أن آيات الأنبياء عليهم السلام
إذا كانت جارية على سنن إلهية روحانية يكون ذلك أليق بكمال الله عز وجل مما إذا
كانت بمحض القدرة لما فيه من اتفاق القدرة على النظام والحكمة وذلك كمال في
القدرة لا نقص فيها.
* * *
(النوع الثاني: تكليم الموتى ورؤية الأرواح)
قال السبكي: هو أكثر من النوع الذي قبله وروى مثله عن أبي سعيد الخزاز
رضي الله تعالى عنه ثم عن الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه وعن جماعة
من آخرهم بعض مشايخ الشيخ الإمام الوالد ولست أسميه.
ونقلت في كتاب (الحكمة الشرعية) عن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي
ما حكاه عن نفسه في الفتوحات المكية (باب ٣١١) وهذا نصه: (ولقد كنت
انقطعت في القبور مدة منفردًا بنفسي فبلغني أن شيخنا يوسف بن يخلف الكرمي قال:
إن فلانًا وسماني ترك مجالسة الأحياء وراح يجالس الموتى، فبعثت إليه وقلت: لو
جئتني لرأيت من أجالس، فصلى الضحى وأقبل إليَّ وحده ما معه أحد، فطلب علي
فوجدني بين القبور قاعدًا مطرقًا وأنا أتكلم على من حضرنى من الأرواح فجلس إلى
جانبي بأدب قليلاً قليلاً فنظرت إليه فرأيته قد تغير لونه وضاق نفسه وكان لا يقدر
يرفع رأسه من الثقل الذي عليه وأنا أنظر إليه وأتبسم، فلا يقدر أن يتبسم لما هو فيه
من الكرب فلما فرغت من الكلام وصدر الوارد خفف عن الشيخ واستراح ورد وجهه
إليَّ فقبل بين عيني فقلت له: يا أستاذ مَن يجالس الموتى أنا أو أنت؟ ! قال: لا
والله بل أنا أجالس الموتى والله لو تمادى علي الحال فطست. وانصرف وتركني
فكان يقول: من أراد أن يعتزل عن الناس فليعتزل مثل فلان) اهـ.
وأقول الآن: إن مثل هذه الحكاية منقول عن الصوفية بكثرة وهو من
خوارق العادات المألوفة المعروفة؛ ولكنه ليس خارجًا عن السنن الإلهية، ولا
خارقًا للنواميس الكونية. ولا علاقة له بالأمور الدينية، وإنما الروح الإنساني مستعد
في أصل الفطرة لإدراك عالمه؛ ولكنه يشغل عنه بعالم الجسد الذي يكون كل شغله
به من أول النشأة وهذا الاستعداد يكون قويًّا في بعض الناس فإذا اهتدى من يكون
قويًّا فيه إلى استعماله يزداد قوة حتى يتمكن من رؤية الأرواح المجردة أي: التي
تفارق الأجساد ويقوى على خطابها وللإفرنج في هذه السنين عناية بهذا الأمر
واشتغال به كبير، ويروى عنهم في استحضار الأرواح ومكالمة الموتى أضعاف ما
روي عن الصوفية من الوقائع؛ ولكنهم مع ذلك لم يبلغوا فيه مبلغ الصوفية فيما أظن
ولا يبعد أن يسبقوهم في يوم من الأيام؛ لأن جد هؤلاء الإفرنج ومثابرتهم على
الأعمال التي يهتدون إلى طريقها من الغرابة بمكان.
هذا ما يقال في التأويل لمن صحت عنده الروايات عن الأولين والآخرين. ومن
الناس من يقول: إن كل ما يروى في هذا المقام غير حقيقي وإنما هو من ضروب
الشعوذة والسيمياء يخيلون فيه للناس ما لا حقيقة له في الواقع وقد ذكر الصوفية أن
بعض المشاهد الروحية يكون في عالم الخيال، وبعضها يكون في عالم المثال، وقد
أطلنا هذا البحث في كتاب (الحكمة الشرعية) فكتبنا فيه ٣٥ صفحة، ومنه: قال
حجة الإسلام الغزالي (رحمه الله تعالى) في كتابه (المنقذ من الضلال) في الثناء
على الصوفية: (حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون
منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد) وفي المواهب اللدنية للقسطلاني أن الغزالي قال
في تفسير حديث: (مَن رآني في المنام فقد رآني حقًّا) وحديث: (مَن رآني في
المنام فسيراني في اليقظة) ، ليس معنى قوله: (فقد رآني) أنه رأى جسمي
وبدني وإنما المراد أنه رأى مثالاً صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في
نفسي إليه. وكذلك قوله (فسيراني في اليقظة) ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني
(قال) : والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل،
فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل
هو مثاله على التحقيق، فعلم بهذا أن الغزالي يريد برؤية الأرواح رؤية مثل
متخيلة لها؛ ولكنه قال في المنقذ بعد ما تقدم: ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور
والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق الناطق.
وذكر الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر) جماعة كانوا يرون النبي e
في اليقظة منهم الشيخ قاسم المغربي، ونقل عن الشيخ قاسم المذكور أنه قال:
وأكثر ما تقع رؤية النبي e يقظة بالقلب ثم تترقى إلى رؤية البصر (قال) :
وليست رؤية النبي e كرؤية بعضنا بعضًا وإنما هي جمعية خيالية وحالة برزخية
وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من به باشره اهـ.
ففهم أن الإنسان لا يزال يفكر في الميت الذي تتوجه إليه نفسه ويعمل في
إخطاره على قلبه حتى يتخيل أنه يراه معه؛ لأنه يغيب عن عالم الحس ويستغرق في
عالم الخيال.
وذكر الشعراني في ميزانه عن شيخه علي الخواص أن الأئمة المجتهدين كانوا
يرون النبي e يقظة ويسألونه عن الأحكام المشكلة. ولو كانت هذه الرؤية حقيقة
مطردة لما اختلفوا؛ إذ لا يمكن أن يجيبهم بأجوبة مختلفة في المسألة الواحدة؛ ولما
توقفوا في بعض المسائل، فإن صح قوله فهي الجمعية الخيالية وهي لا تزيد
الإنسان على ما في نفسه على أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ادعى ذلك.
وفي الذهب الأبرز (ص٤٤ و٤٥) من النسخة المطبوعة بمصر سنة
(١٢٩٢) أن ابن المبارك سأل الشيخ عبد العزيز الدباغ عن استحضار صورة النبي
e في ذهن المؤمن هل هي من عالم الروح أو من عالم المثال أو من عالم الخيال؟
قال: فأجاب رضي الله عنه بأن ذلك الاستحضار من روح الشخص وعقله فمن
توجه بفكره إليه صلى الله عليه وسلم ووقعت صورته في ذهنه فإن كان ممن يعلم
صورته الكريمة لكونه صحابيًّا أو من العلماء الذين عنوا بالبحث عنها ثم حصلوها
فإنها تقع في فكره على ما هي عليه في الخارج. وإن كان من غير هذين فإنه
يستحضره في صورة آدمي في غاية الكمال في خلقه وخلقه فقد توافق الصورة التي
في فكره ما في الخارج وقد تخالفه، والحاضر في الفكر هو صورة ذاته صلى الله
تعالى عليه وسلم لا صورة روحه عليه الصلاة والسلام فإن الذي شاهده الصحابة
رضي الله تعالى عنهم وأخبر عنه العلماء هو الذات لا الروح الشريفة ولا يجول
الفكر إلا فيما يعلمه الشخص ويعرفه. فقولكم: هل هو من عالم الروح؟ إن أردتم
به الاستحضار فهو من عالم الروح أي: من روح المتفكر. وإن أردتم به الحاضر
أي: فهل الحاضر في أفكارنا روحه صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقد سبق أنه ليس إياها، وأما المحادثة والمكالمة إذا حصلت لهذا المتفكر فإن كانت ذاته طاهرة
وتحبها روحه ولم تحجب عنه أسرارها وكانت معه كالخليل مع خليله فالمحادثة
معصومة وهي حق وإن كانت الذات على العكس فالأمر على العكس والله الموافق
اهـ.
وما ذكره أخيرًا من الحكم في المحادثة فيه غموض ولا أقول هنا كما قلت في
الحكمة الشرعية: إن فيه وقفة ظاهرة.
ثم قال ابن المبارك: إنه ذكر لشيخه رجلاً من الصالحين كان يذكر الله مع
جماعة من أصحابه فما كان من أحدهم إلا أن تبدل لونه وتغير حاله وبدل جلسته هل
هذه المشاهدة التي وقعت لهذا الرجل مشاهدة فتح أو مشاهدة فكر؟ فقال: مشاهدة
فكر لا مشاهدة فتح ومشاهدة الفكر وإن كانت دون مشاهدة الفتح إلا أنها لا تقع إلا
لأهل الإيمان الخالص والمحبة الصافية والنية الصادقة. وبالجملة فهي لا تقع إلا
لمن كمل تعلقه بالنبي e وكم واحد تقع له هذه المشاهدة فيظنها مشاهدة فتح وإنما
هي مشاهدة فكر. وهذا القسم الذي يقع له هذه المشاهدة وهو غير مفتوح عليه إذا
قيس مع عامة المؤمنين كانوا بالنسبة إليه كالعدم ويكون إيمانهم بالنسبة إليه كلا
شيء والله أعلم.
قال ابن المبارك: ومما يؤكد هذه المشاهدة الفكرية وأنها تقع لغير المفتوح
عليه كونها تقع لمن كملت محبته في شخص، وإن كان غير النبي e ولقد أخبرني
بعض الجزارين أنه مات له ولد كان يحبه كثيرًا وأنه لم يزل شخصه في فكره حتى
أن عقله وجوارحه كلها معه فكان هذا دأبه ليلاً ونهارًا إلى أن خرج ذات يوم إلى
باب الفتوح أحد أبواب (فاس) حرسها الله تعالى لشراء الغنم على عادة الجزارين
فجال فكره في أمر ولده الميت فبينما هو يجول فكره إذ رآه عيانًا وهو قادم إليه
حتى وقف إلى جنبه. قال: فكلمته وقلت له: يا ولدي خذ هذه الشاة - لشاة اشتريتها
-حتى أشتري أخرى، وقد حصلت غيبة قليلة عن حسي فلما سمعني مَن كان قريبًا
أتكلم مع الولد قالوا: مع مَن تتكلم أنت؟ فلما كلموني رجعت إلى حسي وغاب الولد
عن بصري فلا يدري ما حصل في باطني من الوجد عليه إلا الله تبارك وتعالى اهـ.
وقلت بعد إيراد هذا في (الحكمة الشرعية) : وظاهر أن هذا الرجل قد
انطبعت صورة ولده في خياله , ولشدة اشتغاله به وضعف شأن المحسوس الذي هو
آخذ به بالنسبة إليه غاب عن حسه وتلاشى تحت قوة سلطان خياله فتمثلت له صورة
ولده المطبوعة في خياله بشرًا سويًّا فحدثه وهْمُه بأنه يراه حقيقة فخاطبه بما خاطبه
به حتى إذا تنبه بتنبيه آخر لم يَرَ شيئًا. وهذه الرؤية من قبيل الأحلام المنامية.
وقد رأيت امرأة مخبولة تخاطب الأموات وتخبر عن حالهم عند ما يمرون في خيالها:
هذا فلان يقول كذا هذا فلان يقول كذا، وكثيرًا ما تكون الغيبة عن الحس للعشاق
باستحواذ الخيالات والأوهام عليهم حتى إن أحدهم لفرط شغفه واشتغال فكره
بمعشوقه يمثله له خياله فيتوهم أنه موجود أمامه حقيقة فيقابله بما يليق به من الآداب،
ويرفع إلى أعتاب جنابه ما شاء من العتاب وفي ذلك قال قائلهم:
يمثلك الشوق الشديد لناظري ... فأطرق إجلالاً كأنك حاضر
ومنه الحكاية عن عاشقة تقول:
فليس نومًا خفض رأسي إنما ...
أسجد للطيف الذي قد سلّما ...
فإنني استزرته توهما ...
فزارني ورقّ لي ترحما ... لما رأى في الجفن فعل السهدِ
وقال لي بالله ما أضناكي ...
قد كلّ عنك نظر الإدراكِ ...
نامي بجفني فاقصدي مناكي ...
كما تريه أنت أو يراكي ... فليس لي بغير ذا من جهدِ
ومثل هذا في كلامهم كثير وفيه يقال: الجنون فنون، وكل حزب بما لديهم
فرحون!
(النتيجة)
إن ما نقل عن كثير من عباد المسلمين والنصارى وغيرهم من رؤية الأنبياء
والأولياء والرؤساء الروحيين صحيح فإن حال الأشخاص في الرائين والناقلين في
بعض الوقائع ليس فيها شائبة الكذب؛ ولكن هذا ليس من الخوارق الحقيقية ولا تلك
المشاهدات دليل على أن صاحبها على الحق وإنما هو تأثير الحب والشغف وكثرة
الفكر والتخيل في الشيء مع تأثير الوجدان به يضعف الحواس، ويقوي الوسواس،
فيغيب صاحبه عن حاله، ويحضر مع خياله. ومن الناس من كان يستعين على
إثارة رواكد الخيال بما يضعف الحواس والعقل من المخدرات كالحشيشة المعروفة
فقد كان أول من استعملها الباطنية والمتصوفة ولذلك كانت تسمى حشيشة الفقراء
كان شيوخهم يشغلون فكر المريد ببعض الأموات المعتقدين أو بالجنة مثلاً ويناولونه
شيئًا من الحشيشة فتخدر حواسه فيتجسم ما في خياله من الصورة التي كان وجَّهه
الشيخ إليها فتتمثل له في صورة بديعة وما كان المريدون يعلمون بأن لما تناولوه من
الحشيشة تأثيرًا فيما رأوه وإنما كانوا يعتقدون أنه تصرف روح الشيخ في عوالم
الملكوت وإدناء بعض ما فيها من عالم الملك.
وأنت ترى أن هذا الذي قلناه في تفسير رؤية الأرواح ومكالمتها مأخوذ من
كلام كبار الصوفية ولم نفتحره افتحارًا. وإنني أعترف بأن ما قاله الشيخ عبد
العزيز الدباغ فيه هو كرامة من كراماته المعنوية فإنه كان رجلاً أميًّا وفتح الله عليه
بالمعارف العالية وأكرمه بحل كثير من المشكلات الفلسفية كهذه المسألة والمشكلات
الدينية أيضًا على أنني لا أسلم بكل ما نقل عنه ولا أقول إنه معصوم أو محفوظ من
الخطأ. وما قاله في إيمان من يرى النبي e رؤية فكرية خيالية لا ينافي ما قلناه
آنفًا من كون هذه المشاهدات لا تدل على حقية اعتقاد صاحبها فصاحب الإيمان
الصحيح في الأصل تجعل إيمانه إيمانًا وجدانيًّا فيكون أقوى من إيمان غيره.
وكذلك صاحب الاعتقاد الباطل فهي تقوى في نفس صاحبها ما هو فيها حقًّا كان أو
باطلاً كما فعلت بإيمان الذين تمثلت لهم السيدة مريم عليها السلام وهم يعتقدون أنها
أم الله - تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا - فثبت بهذا أن هذا النوع ليس من الخوارق في
شيء.
ورأيت أن كلام الصوفية الذي حل الإشكال يشير أو يصرح بأن وراء هذه
المشاهدات الخيالية والمكالمات الوهمية شيئًا آخر أعلى منه وهو إدراك الأرواح
إدراكًا صحيحًا، والاستفادة منها استفادة حقيقية لم يكن يعلمها المرء من قبل وهذا
شيء لا يمكن أن يعرفه إلا مَن ذاقه وهو جائز، وإن لنا من الثقة بصدق بعض
المخبرين به أكثر مما لأهل هذا العصر من الثقة بأهل أوربا إذ يصدقونهم بكل
شيء غريب يقطعون بثبوته وإن لم يعرف دليلهم هؤلاء المصدقون.
وإذا ثبت هذا النوع لبعض الأولياء والأصفياء لاستعداد فيهم قوَّاه استعماله
وسمي كرامة لهم فلا ينبغي أن تعتقد أنه جاء مخالفًا للسنن الإلهية في الخلق ولا أن
تصدق أحدًا من الناس بخصوصه يدعيه؛ لأنه مما لا يمكن إثباته لغير من ذاقه ومن
ادعى ما لا يمكن إثباته فهو أحمق أو مجنون لا يبالَى به وهذا الذي قررناه حجاب
دون اغترار العامة ببعض الدجَّالين وهو غرضنا الأول من كل ما كتبناه في
الخوارق والكرامات.
((يتبع بمقال تالٍ))