(١١) الجمعيات السرية إن الفتوحات التي ابتدأت في زمان الخلفاء الراشدين وعَظُمَتْ في زمان الأمويين، واستولى المسلمون على إيران ومصر والشام وإفريقية الشمالية , ولكن هذه الفتوحات كانت إقليمية لا قلبية، نعم تبدلت الحكومات وزالت الدول إلا أن العقائد الراسخة منذ أجيال بقيت كما كانت؛ لأن تبديلها ليس هينًا [١] . ثم كان بين الذين أسلموا أناس كان إسلامهم لمقاصد سياسية , فكانوا يريدون إماتة الديانة الإسلامية , ويتوسلون إلى إحياء عقائدهم بإبرازها بثوب إسلامي جديد وفي أواخر أيام العباسيين ظهر أناس بعضهم ملحد راسخ في الإلحاد وبعضهم فارسي (زردشتي) , وبعضهم من أتباع (ماني) أي نصفه مجوسي ونصفه مسيحي وحصروا الشؤون العامة في أنفسهم. وكان أكثر الناس غافلين عن كل شيء، ومستعدين لتصديق كل شيء، إذا صادفت الجماعة منهم رجلاً صالحًا قادها إلى طريق الهداية، وإذا صادفت آخر صالحًا خرجت معه عن جوهر الدين بدون أن تشعر، وكان (تصديق) كل ما يسمع من أمارات الامتياز في تلك الأوقات، فكل فكر أسند إلى آية ولو لم تكن موجودة، أو أسند إلى حديث موضوع، أو أي كتاب مجموع، كان ذلك يقبل بغير تفكر، ويتبع بدون تدبر. وثَم أسباب أخرى لميل الناس لكل جديد , وهو ظلم الأمراء , فكان الناس بميلهم إلى الجديد يرجون خلاصًا من الظلم الواقع. ثم إن كثرة المذاهب الدينية التي يُكَفِّرُ أصحابُها بعضُهم بعضًا أزالت هيبة الدين وقللت من احترامه في نظر الناس , هذه هي الحالة الذهنية التي تقدمت نشر مذهب الباطنية. الباطنيون: كان ظاهر عملهم بذل الجهد؛ لإحياء مذهب الإسماعيلية الذي هو من مذاهب الشيعة، والحقيقة أنهم كانوا يقصدون إحياء أساطير وخرافات قديمة يكتمونها عن المبتدئين؛ فإن مؤسسي هذه الفرقة لم يكونوا مسلمين لا فعلاً ولا اسمًا , والصحيح أنهم كانوا مجوسًا. منهم (عبد الله بن ميمون بن القداح) عقد مرة مجلسًا وخطب فيه فقال: (إن المسلمين فتحوا بلادنا، وأزالوا دولتنا، إن الانتصار عليهم في الحرب والقتال أصبح مستحيلاً، وإنما النافع في جهادنا لهم أن نقطع أواصر الاتحاد التي بينهم، ونشوش عليهم أمورهم، ونوقعهم في بحر الارتباك، فحينئذ ننال منهم ما نبغي: نحرف الإسلام بتأويل نصوصه، ونمجس المسلمين من حيث لا يشعرون ليخربوا بيوتهم بأيديهم , إذ بهذا وحده يمكن أن تدال الدولة للفرس ويعيدوا دينهم ودولتهم إلى سابق مجدها. وكان عاقبة التشاور في ذلك المجلس انتخاب عبد الله بن ميمون منفذًا لهذه الخطة , وكان ابن ميمون يعلم كنه الأخطار التي تظهر أمام من يريد نشر مذهب جديد , فاختار لذلك طريق الدسائس السرية، وكان عالمًا بمذهب (زردشت) واقفًا على أصوله وفروعه، وكان له نصيب من العلوم الطبيعية، والأحوال الروحية، لذلك بدأ يحرض الناس على الظلم والظلمة , وينفرهم من الاستبداد والمستبدين , فجمع حوله جمًّا غفيرًا , وكان يجذب قليلي الدين بمقدمات فلسفية، ويجذب الشيعة بالإمام الموهوم المستتر، وأهل السنة بالمهدي المنتظر، ويخلب أفئدة اليهود بالمسيح الموعود، كل هذا لأجل إعادة سلطنة إيران الزائلة. بذل ابن ميمون هذا مساعي جمة لنيل المرام , وكان موقنًا بالنجاح , ثم مات وخَلْفُهُ ابنه (أحمد) فواظب على خطة أبيه وعندما ظهر (حمدان القرمطي) وجد الجو مناسبًا جدًّا لامتلاء أفكار الناس بعقائدهم. أهل العراق كانوا مظلومين من قبل الحكومة ظلمًا شديدًا ولذلك كانوا ميالين لكل ما يظهر من جديد فكانت الضرائب كثيرة جدًا والعسرة المالية شديدة على الجمهور، وعندما سمع العراقيون بمذهب حمدان القرمطي الذي يقتضي اشتراك الناس بالأموال هرعوا إليه وقبلوا دعوته بدون مناقشة. عندئذ شرع الباطنيون يحرفون القرآن الكريم بالتأويل ويقولون إن له معنى ظاهرًا للعوام ومعنى باطنًا للخواص، وهو المقصود بالذات، لأن الظاهر هو القشر، والباطن هو اللب، وظاهر القرآن الكريم يحمل الإنسان واجبات أخلاقية واجتماعية ودينية كثيرة وفيه أوامر ونواهي كثيرة وهذا مَرْكَبٌ صعب لا يُذَلَّلُ، وبما أن باطن القرآن يقتضي ترك ظاهره طفقوا يفسرونه تفسيرًا غريبًا. كانوا يقولون ليس من شؤوننا البحث عن صفات الله وهل هو موجود أو معدوم، وعالم أو جاهل، خلق الله العقل قبل كل شيء ثم بواسطة العقل خلق النفس وبما أن النفس مشتاقة لكمال العقل احتاجت إلى الحركة، والحركة تحتاج إلى آلات ولذلك خلق الأجرام الفلكية وبتدبير النفس تحركت الأجرام الفلكية حركة دورية وبتأثير ذلك النباتات والمعادن وأنواع الحيوانات. أفضل الحيوانات الإنسان لأن بينه وبين العالم العلوي رابطة من دونها وعندما يرتقي الإنسان إلى مرتبة العقل ترتفع عنه التكاليف والسنن ويستغني عن الاشتغال بالعبادات. الرسل عند الباطنية سبعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ومحمد المهدي [٢] وبين كل رسولين سبعة أئمة والواجب على الإمام إكمال نواقص الرسول الذي تقدمه ولا يخلو عصر من إمام. لهذا المذهب رتب مختلفة: (١) إمام (٢) حجة (٣) ذو مصة (٤) باب (٥) داع (٦) مأذون (٧) مكلب (٨) مؤمن. الإمام عندهم: هو غاية الأدلة ومؤدي الله، والحجة هو مؤدي الإمام والحائز لعلم الإمام ويحتج بذلك المعلم. ذو المصة: هو الذي يأخذ العلم من الحجة أبواب: هو المأمور بتعلم الفكرة. الداعي نوعان: داع أكبر وداع مأذون فالأول هو الذي يعين درجات المؤمنين والثاني هو الذي يقبل أهل الظاهر، ويدخلهم في عداد أهل الباطن ويأخذ عهدهم وميثاقهم. المكلب: هو الذي يدخل بين أهل الظاهر ويعرف أحوالهم والذي يعرضها على الداعي. المأذون المؤمن: هو الذي دخل في جمعية أهل الباطن وصار في ذمة الإمام. الداعي: هو ما يعبر عنه أهل زماننا باسم (جزويت) وهو يراقب الناس فمن رأى فيه قابلية واستعدادا يختبر أحواله وأطواره وأفكاره ويجذبه إلى التعرف إليه فإن رآه متدينا يظهر أي الداعي له بمظهر الدين. وإن وجده ملحدًا أو ضعيف الإيمان يأتيه من حيث يحلو له وإن رآه متحليًّا بمكارم الأخلاق يتمثل له بمظهر ملك كريم، وإن وجده من المنهمكين في الفسق يتظاهر بأنه مثله. وجملة القول أنه يتحبب إلى الرجل ويختلبه حتى إذا رأى أنه استولى على روحه في تنفيذ وظيفته وهز جذبه إلى حزبهم، يقنعه بأن كل ما يرغب فيه من السعادة لديهم. وكان الدعاة يعملون عملهم بالترتيب ويتسلقون إلى الغاية - درجة بعد درجة - وهذه الدرجات ثمانية. وقبل أن نبحث في هذه الدرجات نبين بالإيجاز حقيقة طائفة الإسماعيلية التي يستند عليها بالظاهر أرباب مذاهب الباطنية. طائفة الإسماعيلية: الإسماعيلية طائفة من طوائف الشيعة تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق الكبير كانوا يقولون بإمامة جعفر الصادق وأنه فوضها إلى ابنه الكبير وبما أن إسماعيل توفي قبل جعفر كان يقتضي أن ينقل حق الإمامة إلى محمد المكتوم وبعده قام ابنه جعفر المصدق مقامه وخلفه محمد الجيب وكان ذكيًّا وفعالاً وهذا هو الذي عم نشر مذهب الإسماعيلية وكان يسكن بلدة اسمها سلمية في جوار حمص وأرسل الدعاة إلى جميع الجهات وأهم نقطة كان يعتني بها الإسماعيليون أن العالم لا يخلو من إمام فإن كان مخفيًّا فلا بُدَّ له من لقياه وعند وفاة محمد الجيب أعلن ابنه عبد الله أنه هو الإمام المنتظر أي المهدي. (لها بقية) ... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي