اشتهر عن جهم القول بالجَبْر، بفتح الجيم وسكون الموحدة، وهو إسناد فعل العبد إلى الله تعالى، ففي المواقف للعضد وشرحها للسيد: الجبرية: متوسطة تثبت للعبد كسبًا كالأشعرية، وخالصة لا تثبته كالجهمية قالوا: لا قدرة للعبد أصلاً لا مؤثرة ولا كاسبة، بل هو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها. اهـ. لم يَعُدّ العضد في (المواقف) الجهمية فئة على حدتها كما فعل غيره من أرباب المقالات، بل جعلها قسمًا من الجبرية، فلذا عسر السقوط عليها من المواقف إلا بالسبر، وقد عرفتها. والجبر المذكور هو أحد آراء الجهمية، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (ليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات حتى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله وإنه مخلوق) . اهـ. وعلى قول العضد الأشعرية جبرية متوسطة، اذكر ما قاله العلامة المقبلي في (العلم الشامخ) [١] ، وعبارته: لما رأى محققو الأشاعرة بطلان مذهب جهم بالضرورة، وعود مذهب الأشعري وأتباعه إليه بأدنى إلمام، واضمحلال الكسب كيفما قلبته، وبطلان سعي أهله، تسللوا عنه لواذًا، فمنهم الراجع إلى الحق صريحًا، ومنهم المقارب ولكن مع التستر باللهج بعبارات الأسلاف وتمويه التقارب فيما بينهم وبين الأشعري والكون تحت رايته، وقد رفضوه ونسبوه إلى إنكار الضرورة من حيث المعنى: ثم سمى المقبلي من هؤلاء المحققين إمام الحرمين والفخر الرازي وغيرهم فانظره. * * * (٩) التنبيه لما وقع من خلل النقل عن الجهمية وغيرهم أرى من واجب كل من يؤرخ مذهب قوم، وكل من يناقش فرقة ما في مذهبها، أن ينقل آراءها عن كتب علمائها الثقات، ويقوم بالعزو إلى مآخذها ومصادرها؛ لتكون النفس في طمأنينة مما يريبها إن لم يعن بهذا الواجب - هذا كله إذا أمكن الظفر بكتبها نفسها وآرائها التي دونتها رجالها - وإلا فعلى النَّهِم بتعرف الحقائق أن يأثر عن كتب الأئمة المحققين ما أثروه، ويبني على ما بنوه، مع التحري والتيقظ، وما على باذل جهده من ملام. وبالجملة فلا بد من السند في قبول ما يُعْزَى ويُرْوَى إلى تلك الفرقة، فإما عن أسفارها أو عن إمام ثقة أثر عنها، وأما رمي فرقة برأي ما بدعوى أنه قيل عنها ذلك أو يقال، فمما لا يقام له وزن في الصحة والاعتماد، فلا يتعانى في رده أو مناقشته، وهذه القاعدة يجب أن تؤخذ دستورًا وأمرًا عامًّا في كل ما يؤثر وينقل، وأصلها مما نبه عليه أئمة الرواية عليهم الرحمة والرضوان، إذ لم يقبلوا الأثر إلا بعد معرفة راويه وضبطه وثقته وعدالته؛ إذ ليس من السهل تشريع أمر إيجابًا أو حظرًا، تحليلاً أو تحريمًا، بل أمامه ما أمامه من بذل غاية الوسع، ونهاية الجهد، في تعرف مورده ومصدره تَحَرِّيًّا للحق، واحتياطًا للصواب، وهكذا كل ما يؤثر من الأقوال والآراء، سواء كانت في الأصول أو الفروع أو اللغات أو الأقاصيص، ودليل هذا الأصل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: ٣٦) والآية {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١) إذا عرف هذا تبين أن التساهل في الحكاية والنقل لا يقول به المحققون، ويربأون بأنفسهم عن الخوض فيه وإنما يستروح به المتعصبون والمندفعون وراء كل ناعق، أو المقلدون بدون تمحيص ونقد. من أعجب ما اتفق لي في ذلك ما رأيته في (طبقات السبكي) [٢] من قوله: (وأما جهم فلا ندري ما مذهبه، ونحن على قطع بأنه رجل مبتدع ... ) إلخ؛ ثم قال [٣] : واعلم أن جهمًا غاص في المعاني بزعمه، وأعرض عن الظواهر فسقط على أم رأسه، وقامت عليه حجج الشرع، ومنعته عن سبيل الحق أي منع، إلخ، فتأمل قولَ السبكي: فلا ندري ما مذهبه، ثم تَهجُّمَهُ عليه مع أن السبكي انتقد على ابن حزم في تحامله على الأشعري قبل أسطر وعبارته: وهذا ابن حزم رجل جريء بلسانه، متسرع إلى النقل بمجرد ظنه، هاجم على أئمة الإسلام بألفاظه، وفي كتابه الملل والنحل الإزراء بأهل السنة، ونسبة الأقوال السخيفة إليهم، من غير تثبت عنهم، والتشنيع عليهم بما لم يقولوه. ثم قال السبكي: إن ابن حزم ما بلغه بالنقل الصحيح معتقد الأشعري، وإنما بلغه عنه أقوال نقلها الكذابون عليه، فصدَّقها بمجرد سماعه إياها، ثم لم يكتف بالتصديق بمجرد السماع حتى أخذ يشنع. اهـ. فنقول له: لقد كدت تقع فيما رميت به الإمام ابن حزم. وممن نبه على ما وقع من تساهل بعض المؤلفين الإمام فخر الدين الرازي في رسالته التي جمعها في المسائل الواقعة له في رحلته إلى ما رواء النهر، فقد قال في المسألة العاشرة ما مثاله: كتاب الملل والنحل للشهرستاني كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، إلا أنه غير معتمد عليه؛ لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بالفَرْق بين الفِرَق من تأليف الأستاذ أبي منصور البغدادي قال الرازي: وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين، فلا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه، ثم إن الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب، فلهذا السبب وقع الخلل في نقل هذه المذاهب اهـ كلام الرازي. وهكذا انتقد العلامة المقبلي في العلم الشامخ من ينقل مذهب المعتزلة من كتب الأشاعرة بأنه حصل الغلط عليهم في بعض كلامهم. وذكر أن هذا كثير الوقوع في حكاية المذاهب قال: صحة الرواية تنبني على التحري وعدم المجازفة، ثم أثنى على الرازي في تحريه النقل عن المعتزلة وعبارته: قد أكثر الرازي في تفسيره الحكاية عن القاضي وغيره من المعتزلة ثم قال: الرازي أكثر عناية في هذا الشأن، وأدقهم مسلكًا وأوسعهم مجالاً، وحاله في كتبه تحرير حجج الخصوم على أبلغ ما يمكنه، وليس كسائر الأشاعرة لا يعرفون مذهب المعتزلة على حقيقته، ولا ينصفونهم فيما عرفوا قال: وكذلك الزمخشري تنصيصًا وتلويحًا وإيماءً وتصريحًا، كما قال بعضهم: إنه دس الاعتزال تحت كل ذرة من كتابه. وقال أيضا: علم من المختلفين في العقائد اتباع الهوى وقبول المثالب من دون تثبت: ذكر ذلك في نقده على الذهبي في قوله عن الجاحظ: إنه باقعة قليل دين. قال: هو أجلُّ من ذلك وإن تحامل عليه مخالفوه في العقائد، فلا يصدقون عليه، وأصحابه المعتزلة أخبر به، فهو عند المعتزلة من جلة العلماء وعند الجميع مقدَّم الأذكياء الحكماء اهـ. وقال أيضا: وقد صار كل من الفِرَق يحكي الشر عن مخالفيه ويكتم الخير، بل يروي الكذب والبهت، كما تذكر الأشاعرة أن المعتزلة تنكر عذاب القبر، ترى ذلك فاشيًا بينهم، مع أن النقل عنهم باطل، وهو شبيه قذف الغافلات، فإن المعتزلة لا تكاد تظن قائلا يقول هذه إلا شذوذ مثل المريسي وضرار وهما بيت الغرائب، مع أن ضرارًا ليس من المعتزلة في روايتهم؛ لأنهم رووا عنه القول بالرؤية بحاسة سادسة، ورووا عنه القول بخلق أفعال العباد، وأنه رجع عن الاعتزال، قال: وعلى الجملة فليس شذوذه عن الفريقين بغريب، وإنما المُنْكَر إلزامُ المعتزلة قوله، وإنما هذه المسألة كسائر المسائل، لا بد فيها من شذوذ كشذوذ العنبري والظاهرية، وهذا شيء كثير يطلعك عليه كتب المقالات. اهـ. ويتفرع من هذا البحث مسألة جليلة، وهي إلزام الناس لوازم أقوالهم، وإضافتها إليهم إضافة أقوالهم أنفسهم، وقد نبَّه عليها أئمة الأصول، قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في (اللمع) : ما يقتضيه قياس قول المجتهد لا يجوز أن يجعل قولا له، قال: ومن أصحابنا من قال: إنه يجوز أن يجعل ذلك قولاً له، وهذا غير صحيح؛ لأن القول ما نص عليه وهذا لم ينص عليه، فلا يجوز أن يجعل قولا له. اهـ. ومثله يجري في قولهم: لازم المذهب ليس بمذهب، وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلاً في هذه المسألة، وهو قوله في بعض فتاويه: (لازم قول الإنسان نوعان: أحدهما لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه؛ لازم الحق حقٌّ، ويجوز أن يضاف إليهم إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثيرًا ما يضيف الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب. والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه تناقضٌ، وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين عليهم السلام. ثم إن مَن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا بلازمه، قال رحمه الله: وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أم ليس بمذهب، هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضي القائل بعد وضوحه به فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله، وإن كان متناقضًا. وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع الملزوم، واللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه، وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها، فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال) . اهـ كلامه. وهو تفصيل راعى فيه ما عليه أتباع الأئمة من إضافة ما يجري على قواعدهم إليهم، وجعله قولاً لهم، بحجة أن قواعدهم لا تأباه، أو أنه يعلم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه، كما قال تقي الدين. ولا يخفى أن الأقعد هو التورع عن الإضافة مطلقًا، فإن الذي يضاف إلى المرء هو ما قاله أو رواه عنه ثقة، وأما تقويل الإنسان ما لم يقله وإلزامه إياه، وأخذ نتائج منه، فهذا لا يدل عليه منقول، ولا يؤيده معقول، ولا جرى عليه التابعون بإحسان، وإنما نشأ هذا لما استفحل أمر التقليد، وعُومِلَتْ أقوال المتبوعين معاملة أقوال المعصوم ونصوص الكتاب نعوذ بالله من ذلك، وذلك ظاهر لمن له أدنى إلمام بسير القرون، واختلاف حال السلف عن الخلف في تحمل العلوم على أصولها. * * * (١٠) تمثل الشعراء بمذهب الجهمية قال الإمام ابن تيمية في كتابه (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) : أصل قول الجهمية هو نفي الصفات بما يزعمونه من دعوى العقليات التي عارضوا بها النصوص؛ إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه عقليات موافقًا للنصوص لا مخالفًا، ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على النفي صار الشعراء ينظمون هذا المعنى كقول أبي تمام: جهمية الأوصاف إلا أنها ... قد لقبوها جوهر الأشياء اهـ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... * * * (١١) بيان أن مذهب الجهم متلقى عن الجعد بن درهم وشيء من أنباء الجعد وقتله وروى الأئمة أن أول من قال بخلق القرآن وخاض فيه وصيره هِجَّيرَاه: الجعد بن درهم، وكان مؤدب [٤] مروان آخر ملوك بني أمية، ولذا كان يلقب بمروان الجعدي؛ لأنه تعلم من الجعد مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك، وكان الناس يذمون مروان بنسبته إليه، قاله ابن الأثير. وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه: أقام الجعد بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب وسكن الكوفة، فلقيه بها الجهم بن صفوان فتقلد عنه هذا القول. وقال ابن الأثير في سيرة ابن هشام: قيل: إن الجعد بن درهم أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير العراق وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشامًا، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله، فأخرجه خالد من الحبس في وثاقه، فلما صلى العيد يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا تقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى، ولا اتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا: ثم نزل فذبحه اهـ. وقال ابن تيمية في الرسالة الحموية: أصل فشو البدع بعد القرون الثلاثة، وإن كان قد نبع أصلها في أواخر عصر التابعين. ثم قال: وأول من حفظ عنه مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت إليه اهـ، ومراده بالتعطيل حمل الصفات الربانية على المجاز المستلزم للتعطيل؛ لأن التعطيل من لوازم مذهبه. * * * (١٢) نبذة من أخبار خالد بن عبد الله القسري قاتل الجعد أستاذ الجهم اشتهر هذا الأمير بقتل الجعد، وحكى ذلك كل من رد على الجهمية، ومن الناس من أثنى عليه بقتله، وعده غيرة على الدين، ومنهم من رأى أن قتله كان لأمر سياسي إلا أنه موه باسم الدين إقناعًا للعامة بقتله، ثم منهم من وهم أن هذا الأمير كان من الأخيار لأثره هذا، ومنهم من رأى عكس ذلك. ولما كان من متممات بحثنا هذا إماطة الحجاب عن الارتياب في هذا الرجل عوَّلنا على أئمة التاريخ في ترجمة حاله [٥] ، وملخصها أن خالدًا هذا هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز من بجيلة، فأما جده يزيد فإنه أسلم مع أبيه أسد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه رواية يسيرة، ثم خرج في عهد عمر رضي الله عنه إلى الشام، فكان بها وكان مطاعًا في اليمن عظيم الشأن، ثم صار من قواد معاوية وأمراء بعوثه. وأما ابنه عبد الله فلم تكن له نباهة آبائه، وأهل المثالب يقولون: إنه دَعِيٌّ، وكان مع عمرو بن سعيد بن الأشدق على شرطته أيام خلافة عبد الملك بن مروان، فلما قتل هرب، حتى سألت اليمانية عبد الملك فيه لما أمن الناس عام الجماعة فأمنه، ثم مضى عبد الله إلى حبيب بن مسلمة الفهري وكتب له، وكان كاتبا مفوَّهًا، وذلك في خلافة عثمان بن عفان فنال حظًّا وشرفًا، وكان يقال له خطيب الشيطان، ووسم خيله (القسري) ، ثم تدسس ليملك خيلاً في بلاد قسر [٦] فمنعته بجيلة ذلك أشد المنع، فلم يقدر عليه حتى عظم أمره. ثم نشأ ابنه خالد بالمدينة، وكان خالد هذا المترجم، في حداثته يتبع المغنين والمخنثين، وكان يقال له: (خالد الخريت) [٧] ، وقع في شعر عمر بن أبي ربيعة تلقيبه بذلك، ثم صار في مرتبة أبيه بعده، إلى أن ولاه هشام بن عبد الملك العراق سنة ١٠٥ واستمر إلى أن عزله هشام سنة ١٢٠. وكان الإسلام بالعراق في عهد خالد ذليلاً، فكان يولي النصارى والمجوس على المسلمين، وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطئوهن، فيطلق لهم ذلك ولا يغير عليهم، وسبب ذلك أن أم خالد كانت رومية نصرانية، ابتنى بها أبوه في بعض أعيادهم فأولدها خالدًا وأسدًا، ولم تسلم هي، وبنى لها خالد بيعة في قبلة المسجد بالكوفة فكان إذا أراد المؤذن في المسجد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس، وإذا قام الخطيب على المنبر رفع الناس أصواتهم بالقراءة، فذمه الناس والشعراء، فمن ذلك قول الفرزدق: ألا قطع الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد فكيف يؤم الناس من كانت أمه ... تدين بأن الله ليس بواحد بنى بيعة فيها النصارى لأمه ... ويهدم من كفر منار المساجد وكان خالد قد أمر بهدم منار المسجد؛ لأنه بلغه أن شاعرًا قال: ليتني في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دَلٍّ مليح فلما سمع هذا الشعر أمر بهدمها. وكان يبالغ في سبِّ أمير المؤمنين علي عليه السلام، تؤثر عنه حكايات في ذلك عديدة وكان مذممًا للغاية، هجاه الفرزدق والأعشى بأشعار كثيرة، ويذكر به أقوال تقشعر لذكرها الأبدان، وقد قص شيئًا منها ابن الأثير وأبو الفرج الأصبهاني، ولما قصها أبو الفرج قال في أثرها: اللهم الْعَنْ خالدًا وأخزه وجدِّد على روحه العذاب. ثم آل أمر خالد إلى أن غضب عليه هشام، وعزله عن العراق، وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي، وأمره بحبسه وتعذيبه، فحبسه ثمانية عشر شهرًا بالحيرة مع ابنه إلى أن أمر الوليد بضربه فضرب، ثم حبس ثم حمل إلى يوسف بن عمر فعذبه عذابًا شديدًا ثم قتله ودفنه بالحيرة في المحرم سنة ١٢٦. وكانت غلة خالد بالعراق عشرين ألف ألف، ولما ختن نائبه طارق ابنه بالكوفة أهدى إليه خالد ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب، ولما ولي بعد خالد يوسف الثقفي قال يحيى بن نوفل يمتدحه، ويعرض بأعمال خالد الذميمة: أتانا وأهل الشرك أهل زكاتنا ... وحكامُنا فيما نُسِرّ ونجهر فلما أتانا يوسف الخير أشرقت ... له الأرض حتى كل واد منور وحتى رأينا العدل في الناس ظاهرًا ... وما كان من قبل العقيلي يظهر ومن أراد استيفاء أحواله وأخباره، بأفظع من هذا، مما نصون عنه بحثنا المسطور فليرجع إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني رحمه الله. * * * (١٣) حمل الأثرية على الجهمية والإغراء بهم قال الشهرستاني: كان السلف كلهم من أشد الرادين على جهم ونسبته إلى التعطيل اهـ، ومن أشهر كتبهم في الرد عليه كتاب الإمام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية، وكتاب الإمام الدارمي، وكتاب التوحيد والرد على الجهمية للإمام البخاري في آخر صحيحه، وفي كتاب خلق الأفعال أيضا. وكتاب لابن أبي حاتم وغير هؤلاء. ومن أوسع من عني بالرد عليهم من المتأخرين الإمام ابن تيمية في عدة من مؤلفاته وفتاويه، وكذلك تلميذه الإمام ابن القيم في بعض مؤلفاته مثل كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية، وكتاب الكافية الشافية. وقد عَدَّ الإمام أبوالقاسم الطبري الحافظ في كتابه شرح أصول السنة، ممن قال: القرآن كلام الله غير مخلوق نحوًا من خمسمائة وخمسين نفسًا من التابعين الأئمة المرضيين، على اختلاف الأعصار، ومضي السنين والأعوام، قال: وفيهم نحو من مائة إمام، ممن أخذ الناس بقولهم، وتدينوا بمذاهبهم، لا ينكر عليهم منكر، قال: ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه [٨] ، قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق، جعد بن درهم في سني نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان. اهـ. (للرسالة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))