أمات السيد رشيد؟ ! أقضى نحبه وتولى؟ ! أتزلزل ذلك الطود الراسخ؟ ! أطوى ذلك العَلم الشامخ؟ ! أيموت العلم وتتضاءل الحكمة؟ ! أتدري أيها الناعي من نعيت؟ أتعلم أنك تنعي حجة الإسلام وعلامة الزمان وفخر الأمة المحمدية بين الأنام، يا لهول المصاب، ويا لفداحة الخطب، فقد جار الزمان واستبد، وعبثت الأيام بهذه الأمة التي أناخت عليها الويلات بكلاكلها، أفي كل يوم تُمنى برُزْء جسيم وبموت رجل عظيم؟ ! أفي كل يوم نصاب في الصميم؟ ! أيها الدهر الخؤون، لقد جرت في حكمك اليوم واشتدت قسوتك، أطفأت سراجًا وهاجًا كان يهتدي به المسلمون في ظلمات هذه الحياة، ويسيرون على ضوئه في دياجي الليالي الحالكات، أتعمد إلى ذلك النور فتخمد أواره وتشاهد هذا الحال فتهتك أستاره؟ ! تولَّ أيها الموت، كيف تجاسرت على اختطاف تلك الروح الكبيرة والاقتراب من ذلك الجسم المتأجج بحب الإسلام؟ ! ألم يخيفك ذلك الاشتعال؟ ! ألم تقف ولهانًا حائرًا أمام تلك النفس التي تسيل جزعًا على تقطع المسلمين أوصالاً، فتنفث في كل طرفة عين من الحكم البالغة ما لو وعاه المسلمون لاستعادوا مجدهم الداثر وحظهم العاثر؟ ! ألم تستهوك تلك الحكم النيرات؟ ! ألم تتريث لتأخذ درسًا في الرحمة والإخلاص؟ ! ألم ترهبك تلك النفس التي كانت تغلي مراجلها في ذلك الصدر الفسيح الذي لم يتسع لغير الدين الصحيح فوعى أصوله وضبط فروعه؟ ! ألم تفزعك تلك الحشرجة وكلها نيران ألم وصدى أوصاب على تقهقر المسلمين وتأخرهم؟ ! بالله كيف استطعت أن تحمل تلك الروح وقد ناء بحملها العالم الإسلامي بأجمعه؟ ! تالله إني لم أكن يومًا لأشعر بفراغ في جانب المسلمين لا أرى من يسده، كما أشعر في هذه الساعة، وكل من يعرف إلى أي درك وصل المسلم إليه في الانحطاط الديني والأخلاقي والأدبي والسياسي، وكيف أضاع حيثيته ومركزه - يدرك أن السبب الجوهري في هذا التأخر المشين هو جهل المسلم بحقيقة دينه القويم , ويفهم أن العالم الإسلامي لم ينجب عالمًا دينيًّا منذ أربعين سنة يصل إلى درجة حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا، ولذا فلا بدع أن تتقرح الجفون حزنًا، وتسيل الدموع أودية على نبراس الفضائل، وسراج المعرفة ومنار السنة ونصير الحقيقة والصادع بالحق في وجه الباطل، وستثبت الأجيال القادمة من هو السيد رشيد رضا. لا أدري من أين أبدأ في سرد أعماله الخالدة، ولا ماذا أقول! وإني لفقير من المعاني وعاجز عن التعبير أن يوفى الفقيد العظيم حقه، غير أن الواجب يقضي على أن أقول كلمتي التي إن دلت على شيء فلا تدل سوى على تقديري لخسارة العالم الإسلامي بموت هذا العلامة القدير والحبر الجليل. ولا أستطيع أن أحدد أعظم عمل قام به الراحل الكريم وكل أعماله عظيمة، فالمنار مجلة العلم والدين والحكمة والأخلاق والإرشاد والسياسة والتاريخ والإصلاح والدفاع عن حقوق المسلمين المهضومة والأدب، مجلة كافحت تيارات الزمان واستمرت تفسر من القرآن ما أشكل على المسلمين من آياته، وتحمل من حِكمه وبيناته، وتنشر إعجازه وغريبه، وتقرر أحكامه التي وضعها الله لعباده، وتأتي بفصول من أحاديث القرون الغابرة للذكرى والاعتبار، كم استورى الناس زنادها فأورت، وطلبت الارتشاف من معينها فأروت، أفادت جميع المسلمين لا فرق بين العرب والهنود والإيرانيين والأتراك والجاويين والإفريقيين والإفرنج والصينيين، عرَّفتهم أصول دينهم، وأفهمتهم واجباتهم، وأنارت طرقهم، ومهَّدت لهم السبل للسير في نور الهداية، وذكَّرتهم بعظمة رجالهم، وترجمت حياة الكثيرين منهم فخدمت العالم الإسلامي من أول يوم صدورها إلى اليوم الذي أغمض الموت فيه عيني صاحبها، فمن لنا بمن يستمر في إصدارها. أليس الخطب - بربكم - جسيمًا؟ ! من سيدافع عن المسلمين إذا ما وصمه أعداؤه بالتعصب الذميم، ونسبوا إليه السخافات المرذولة والخرافات المشئومة؟ من سيحيي لنا ذكر عظماء المسلمين، ويحل مشاكلنا الدينية من غير أن يعتصم بمذهب دون مذهب ويتقيد برأي دون رأي؟ من هو المفتي اليوم وقد تولى رشيد وانقضت أيامه، وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر؟ لا أدري أأبكي موت رشيد أم أندب إيصاد أبواب المنار؟ فقد مات بموت السيد رشيد علمان، ورشيد عالم يتدفق علمًا كالسيل الجارف في اندفاعه من أعالي الجبال، وقد وعى كتاب الله وفهم أسراره، ودرس درسًا تحليليًّا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صحيحها ونبذ غثها، فشرع يبحث عن أمراض المسلمين حتى شخصها وأخذ يصف لهم الأدوية، فمنهم من واظب على الدواء فشفاه الله، ومنهم من أهمل فأخزاه، كم ناضل وجاهد، كم جالد وكابد، وأخيرًا مات فقيرًا، لم يأخذ من هذه الدنيا الفانية سوى الذكر الخالد والعمل الصالح؛ ولكنه خلَّف للمسلمين تركة كبيرة وتراثًا ثمينًا ضخمًا؛ خلف لهم أعداد المنار لجميع ما مضى من سني حياتها، وخلَّف لهم تفسير القرآن، ذلك التفسير الذي اتبع الفقيد في أبحاثه القيمة فيه أساليب العلم الصحيح، فأثبت أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وما تفسير " عبده " إلا نتيجة البحث والتنقيب في معاجم العلوم وكتب المعارف واستنتاجات العلماء الدينيين في جميع العصور الماضية مقرونة بالآراء القويمة والأفكار السليمة، حذف منه الإسرائيليات، وأثبت المحمديات، وأحيا به سنة سيد المرسلين، فاستوجب من الله الرضوان وفسيح الجنان. يا ليت شعري، أي تلميذ في هذا الوجود أخلص لأستاذه كما أخلص السيد رشيد للشيخ محمد عبده؟ فلم تكن تخلو رسالة من رسالاته من نسبة الفضل فيها إلى الأستاذ الإمام حتى توج كل ذلك في تاريخ حياته في كتابه الضخم الذي سيطغى على الأيام ويجتازها إلى القرون القادمة شاهدًا إلى الأبد على مروءته النادرة واعترافه بالفضل والجميل، وأين التراجم التي عهدناها من ترجمة السيد رشيد لحياة أستاذه الإمام، فليست هذه الترجمة بتاريخ حياة فرد من أفراد الأمة؛ ولكنها خلاصة لتاريخ أمة تمثلت في شخص الشيخ محمد عبده، خاض فيها فقيدنا البحث وطرق المواضيع العلمية والأخلاقية، والفلسفية والدينية والتاريخية، وأتى في المقدمة بكلمة عن موقظ الشرق أستاذ أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، وكأنه وضع للناس حديث النهضة الحديثة في الشروق، ورجالها وأسبابها وصورهم في شخص الرجل الذي لا يفتر عن ذكره، ولا يمل التفكير في آرائه الصائبة واستنتاجاته البقية ببقاء الزمان. ولقد كنت أقرأ هذا التاريخ يومًا في بربرة الصومال وعندي صديق يستمع، فوقفت فجأة وانحدرت دموع عيني كالوابل الهطل، بعد لحظة سألني الصديق عن سبب بكائي، فأجبته: (إنما بكيت كيف تصل يد الموت إلى عالم كهذا لا يستطيع الزمان أن يبقى حتى تنفذ مادته؟) اقرأ بربك كتابه (نداء الجنس اللطيف) فتعرف عظمة الفقيد؛ إذ أثبت ما للمرأة في الإسلام من مركز ومقام، وأفهم العالم أن الإسلام لا يهضم حقوقها بل جعل لها من حماية الرجل وحماية الشرع ما تستطيع أن تعيش معهما سعيدة موفورة الكرامة، يالك من كاتب قوي الحجة، سريع الخاطر، حاضر الذهن، لا تعيقك عن إثبات الحق البراهين المعقدة، تدلي بالآراء القوية والحقائق العقلية والنقلية حتى ترجع النفوس الظامئة إلى الحق وقد ارتوت بما أفهمتها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والاستدلالات المنطقية التي لا تقبل الجدل ولا النقض، ولكن واهًا لك يا رشيد واهًا؛ فقد ذهبت وأخليت الديار، وأصبحت مع الأخيار في دار الأبرار، وأين نحن منك وقد بعد الدار وشط المزار، واأسفاه على ذلك الرجل العظيم، ذلك العلم الخفاق، فقد خَفَتَ ذلك الصوت الداوي الذي طالما رنَّ رنينه في الآفاق، فاستفز الأرواح بعد خمولها، وبث فيها نشاطًا وأوجد فيها حياة، ويشهد أبناء النيل أني في قولي لصادق، وتشهد الجزيرة العربية وتشهد جاوا والهند، ويشهد العالم الإسلامي بفضل عالم قلمه السيال طالما صر فوق الطروس، فحفز النفوس، وزلزل العروش وهذَّب المبادئ، وكوَّن الأخلاق، وطيب الأعمال وأرشد إلى حسن المآل. ولو لم يؤلف السيد رشيد إلا كتابه (الوحي المحمدي) لكفاه ذلك فخرًا واجبًا له إلى الأبد ذكرًا، ولكن مؤلفاته أكثر من أن تحصى وهي أكثر من كثير أو تذكر في كلمة تأبين كهذه أكثر كلماتها زفرات، وجل جملها أنات من قلب حزين يندب حظ المسلمين، ويعرف أنه كما اختفت جريدة المؤيد في مصر ستختفي المنار، وكما لم يقم أحد بديلاً عن عبد الكريم الريفي ولا عن محمد عبد الله حسن الصومالي، ولا عن المهدي، ولا عن عرابي باشا، ولا عن جمال الدين الأفغاني، ولا عن مصطفى كامل وسعد زغلول والشيخ محمد عبده، فكذا لن يقوم أحد مقام السيد رشيد رضا. ولست أقول: إن العالم الإسلامي لا يكتف رجالاً أعلامًا ونباريس أولي فهم وإدراك، ولكني أقول: إن النفوس متضائلة والأحلام حقيرة، وأنه لا يوجد رجل يضحي بنفسه في سبيل مبدئه الديني ويعرِّض صدره لسهام الانتقادات المُرة الكَرَّة تلو الكَرَّة كما فعل السيد رشيد رضا، ونحن في عدن كنا نستنير بمناره ونسترشد بعلمه، وطالما كتب - رحمه الله - المقالات وحبَّر الفتاوى لإرشادنا، ولا يسعنا إلا أن نستمطر الرحمات من لدن العلي الأعلى على روحه الطاهرة - آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي إبراهيم لقمان ... ... ... ... ... ... ... رئيس نادي الإصلاح العربي بعدن