بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فقد جرت عادتنا أن نشير في فواتح سني المنار إلى شيء من تاريخه أو تاريخ الإصلاح، أو حال سيره في عالم الإسلام، ونقول الآن على رأس السنة السادسة عشرة: إن صوت الإصلاح الديني قد علا كل صوت في الأقطار الإسلامية التي بلغتها دعوته وهزتها صيحته، فخفتت دونه أصوات الحشوية الجامدين، والدجاجلة المخرفين، وقد خذل الله ببيروت في العام الماضي أشدهم إفكًا وتخريفًا، فيما يسميه نظمًا وتأليفًا، فخذلته الخاصة ولم تنصره العامة، وعورض ما يفتريه من الرؤى والأحلام بشيوع خبر رؤيين رآهما بعض الصالحين من الحجاج، فقد حدثني الثقة المتفق على توثيقه في بيروت قال: لما عاد والدي من الحجاز عام حجه جاء (الشيخ فلان) للسلام عليه، وكان يُعد من أصدقائه وأقبل بلهف ودهشة ليعانقه، فصاح به والدي: يا شيخ فلان - وذكر اسمه - إن النبي صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنك، فقد رأيته عند زيارته في المدينة المنورة في الرؤيا، وأمرني أن أبلغك أنه غير راضٍ عنك. وأما الرؤيا الأخرى فقد رُويت لي عن رجل من الحجاج أعطاه ذلك الدجال نسخًا من كتبه ليوزعها في المدينة المنورة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه قبل دخول المدينة بليلة واحدة يقول له: إن هذه الكتب غير مقبولة، فلما استيقظ ألقى تلك الكتب أو دفنها في جانب الطريق. فمثل هاتين الرؤيين من ذينك الحاجين الصالحين نقض ما يدعيه ذلك الدجال من الرؤى التي هو متهم فيها بتعظيم شأن نفسه، والتمهيد لدعوى الولاية له ولولده وتحقير من اتخذهم أعداء له؛ لأنهم ينيرون عقول الأمة حتى لا تغتر بمثله. هذا إيماء إلى عاقبة دجال القطر السوري المجاهر بعداوة الإصلاح وأهله، ولا نكبر شأنه بالرد عليه أو التصريح باسمه. وقد خفت أيضًا صوت دجال (جاوه) وظهر جهله، وما أبقى عليه تكريم حكومة هولندة بل نسبه وسنه، ودجال تونس المقيم معدود عند عقلاء بلده من المجاذيب أو المجانين، ولو كان في تونس حرية لحزب الإصلاح كالحرية الشاملة لأهل الجمود والفساد؛ لرأى العالم الإسلامي من تونس ما لم يَرَه من سائر الأقطار. وأما دجالها المتقلب في البلاد كتقلبه في الآراء والأفكار فهو يتتبع مواقع الصيت والاشتهار، ويتأيّا مساقط الدرهم والدينار، فيدور مع من يملك ذلك حيثما دار، حتى إنه أفتى بجواز بناء الكنائس للروم والبلغار، والإنفاق على ذلك من بيت المال، فنال الحظوى بمثل هذه الفتوى عند زعماء جمعية الاتحاد والترقي، واصطنعوه لكل ما يبغون من الخداع الديني، وقد خذلهم الله ولم يعتبر المسكين {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: ١٨٣) . هذه حال المجاهرين بمقاومة الإصلاح الديني وأهله، لا صوت لأحد منهم يُسمع، ولا رأي لهم يُتبع، وإنما يغترون بكثرة من يصدق الخرافات، ويسلِّم كل ما يُعزى إلى الأموات تقليدًا للآباء والأمهات، ومواتاةً للأتراب واللدات، ويحسبون هذا اتباعًا لهم، ويعدون أهله من أشياعهم، فيفتنون بكثرتهم، ويهونون من أمر المصلحين لقلتهم، وقلة من يهتدي بهم، ولو فكروا وقدروا وتدبروا واعتبروا، لرأوا أن هذه القلة هي محل الرجاء، وتلك الكثرة كالغثاء أو الهباء، وأنها تتفلت كل يوم من أيديهم كما تتفلت الإبل من عقلها، بل من جامعة الإسلام التي عرفوا اسمها وجهلوا حدها وفصلها، فكثرة أشياع الخرافات إلى قلة، وقلة حزب المصلحين إلى كثرة، وقد فطن هرقل ملك الروم لهذا الأمر الذي جهله المغرورون، فسأل عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ فلما علم أنهم على قلتهم في ازدياد، وأن من دخل فيهم لا يخرج منهم، علم أنهم حزب الله الغالبون. ولو رجَّع أولئك الدجالون البصر وكرروا التأمل والنظر، لرأوا أن هؤلاء العوام الذين لم تبلغهم حقيقة دعوة الإصلاح، أو صدهم عن النظر فيها سدنة القبور المعبودة وتجار الولاية والصلاح، هم الذين يتسللون يومًا بعد يوم مما يسمى الإسلام التقليدي، ولا يهتدون السبيل إلى حقيقة الإسلام البرهاني، فأكثرهم يفتنون بالشبهات المادية التي يبثها فيهم حملة قشور العلوم العصرية، ومنهم من يشُكُّون في الإسلام بمطاعن دعاة النصرانية، فما بال زعماء الدجل والخرافات لا يتصدون للرد على تلك الشبهات، وأنى لهم الرد عليها وهم لا يعرفون مواردها ومصادرها، ولا يقفون على شيء من العلوم المتولدة هي منها، ولا يميزون بين أصول الإسلام التي يجب الدفاع عنها، والخرافات والأوهام الملصقة بها، وإنما قصارى ما عندهم أن يقولوا للعوام: إن جميع العلوم الطبيعية باطلة، وإن تعلمها كفر، ومتعلميها زنادقة، ويريدون أن يتلقى الناس قولهم هذا بالقبول والتسليم، كما يوجبون عليهم قبول جميع ما يقولون: إنه من الدين، على أنهم يعظمون الحكام والأغنياء المتعلمين لتلك العلوم، فهل يرضى أحد بأن يكون من هؤلاء في مكان المقلد من الإمام المعصوم؟ كلا إننا نرى كثيرًا من المتعلمين في المدارس العصرية يعدون خرافات أمثال هؤلاء الدجالين حجة على جميع العلوم الإسلامية، فهم لذلك يصدون عنها، ويعدون من إضاعة الوقت النظر في شيء منها. يزعم هؤلاء الدجالون أن الضلال كل الضلال هو ما يدعو إليه المصلحون من هدي الكتاب والسنة، على النحو الذي كان عليه الصدر الأول من الأمة، ونبذ كل ما استحدثه الخلف، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة. وقد جعلوا همهم الطعن في دعاة هذا الإصلاح، ورميهم بحجارة الزور والبهتان، وأكبر شبهتهم أن هذا من الاجتهاد الذي انقطع فضل الله به عن العباد، وأن كتاب الله الذي أنزله هدى للعالمين، ووصفه بالتبيان والمبين، لم يتبين معناه إلا للأفراد القليلين، الذين وصفوا بالأئمة المجتهدين، حتى إنهم لو لم يوجدوا لما أمكن لأحد أن يكون من المسلمين، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكفي في بيان كتاب الله من دون علمهم، وإن قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) فإن لم يكن قد بيَّنه كما أمر الله، فكيف يكون قد بلَّغ رسالة الله؟ وهل يُعقل أن يكون عجز عن ذلك وقدر عليه سواه؟ معاذ الله، وحاش لله. ألا إن هؤلاء ليسوا من أهل البصيرة والاستدلال، فنجذبهم بالحجة أو ندمغهم بالبرهان، وإنما نريد بمثل هذا الكلام أن نُذكِّر من لهم نصيب من الاستقلال بأن مقلدة أمثال هؤلاء المساكين كلهم عرضة للمروق من الدين، وأنهم لو كانوا يغارون عليهم وعلى دينهم لجعلوا همهم في وقايتهم من الكفر والإلحاد، لا في وقايتهم من هدي السنة وهدي القرآن، وحصروا عنايتهم في كشف الشبهات التي تخرجهم من حظيرة الإسلام، لا في نشر الخرافات التي تحصرهم في زريبة الأوهام، ولكن يظهر أن ترك الإسلام ألبتة أهون عليهم من ترك التقليد الأعمى إلى هداية الكتاب والسنة؛ ولذلك نراهم يدهنون للمارقين من أصحاب المال والجاه، ويثنون عليهم بالألسنة والأقلام، ولا تظهر غيرتهم على الدين إلا في تضليل حماة الدين، ونحمده تعالى أن خذلهم وكبتهم، وصرف قلوب الناس عما تزوّر أقلامهم، وتفتري ألسنتهم. هذا، وإن الإسلام ليشكو اليوم من شيطان الإفساد السياسي، ما لا يشكو من شيطان الإفساد الديني، فقد غلب على مقام أولي الأمر زعنفة من عبدة الطاغوت والشر جعلوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وأرهقوا الأمة قتلاً وحبسًا ومصادرةً وتخويفًا، يأكلون تراث الأمة أكلاً لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا، إذا دعوتهم إلى الحق وَلَّوْا منك فرارًا، وجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا، وقد مكروا بأناس استخدموهم لغش المسلمين مكرًا كبارًا، فاتبعوا من لم يزده ماله وجاهه إلا خسارًا، وكان من كيدهم ومكرهم - وعند الله عاقبة مكرهم - أنهم عجزوا عن إسكان حركة الإصلاح، وإسكات نداء دعاته: حَيَّ على الفلاح، أرادوا إفساد أمرها بتوسيدها إلى غير أهلها من المنافقين المتزلفين إليهم، الراضين أن يكونوا آلات في أيديهم، فنصروا هؤلاء على أبناء بجدتها، وآباء عذرتها، كما وسدت صروف الزمان إليهم من الأمر ما ليسوا له بأهل، فدنت بذلك ساعة الأمة، وقد جاء أشراطها , ولا تلبث أن تأتي بغتة، قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة) رواه البخاري في صحيحه. هذا هو السر في تناقض بعض الصحف التي ظهرت بعد ظهور الفئة الباغية، والجمعية الطاغية الإسلامية في الظاهر الاتحادية في الباطن؛ إذ تمدح الإسلام وتنفِّر عن الأعمال التي تحييه وتطعن في القائمين بها، وتدعو إلى الجامعة الإسلامية، وتلقي الشقاق بين العاملين لها، ويزاحم أهلها المصلحين، وهم أعوان المفسدين، ومنهم مَن تخدع رؤيته وتفتن خلابته ويغر ببكائه أو تباكيه، والمنافق يملك عينيه فيبكي بهما متى شاء. فكم أذرى الدموع لنهب مال ... وكم أبدى الخشوع لنيل جاه ومنهم من لو علم المغرورون برقته، حقيقةَ حاله في علمه وعمله وعقيدته، لولَّوْا منه فرارًا، وأعرضوا عنه ازورارًا، واستصغروا أنفسهم استصغارًا، لتعجلهم باتباع كل ناعق، وعدم التزييل بين الصادق والمنافق، وستظهر للجميع الحقائق، فحبل الكذب وإن طال قصير، ومصير المنافقين شر مصير. وإنما نخشى أن لا تظهر العبرة إلا بعد خراب البصرة، وأن يأخذ الله المسلمين كافةً بما جنته تلك الفئة الباغية {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة} (الأنفال: ٢٥) . ذلك بأن الأمة تحتاج إلى ضروب من الإصلاح يمد بعضها بعضًا، وأصولها خمسة: الديني، والعلمي، والاجتماعي، والسياسي، والمالي، وقد تداعت هذه الأصول كلها في العالم الإسلامي، ولا يسهل إقامة بعضها إلا بإقامة باقيها؛ لهذا أردنا عندما لاحت لنا من الآستانة بارقة الأمل في الإصلاح السياسي أن ننشئ فيها عملاً كبيرًا من الإصلاح الديني والعلمي، الذي هو أكبر عون على غيره، ولا سيما الإصلاح الاجتماعي، فعلمنا أن ما لاح لنا كان برقًا خلبًا، وسرابًا بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل تبين لنا أن مثل ذلك البلاء النازل، الذي تراءى بصورة الإصلاح الخادع، كمثل ذلك العذاب الذي نزل بصورة العارض {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: ٢٤-٢٥) . أجل، إن هذا العذاب ليمثل ذلك الانقلاب، الذي حسبنا أن وراءه ما نرجو من الإصلاح، فكان بسوء تصرف ذويه عين الإفساد، وقد أنذرنا الأمة سوء عاقبته، وخطر مغبته، فتماروا بالنذر {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: ٣-٥) وقد هُزِمَ الجمع وولوا الدبر، فبأي القول والفعل بعد ذلك يُعْتَبَر، فإن لم يتدارك الأمر أهل البصيرة والنظر، فلا منجاة بعد ذلك ولا مفر {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: ٤٦) لا أريد الإشارة إلى قيامة الناس كافة، بل أريد قيامة هذه الأمة خاصة، فإذا هي فقدت هذا الرمق من استقلالها، وزال هذا الذماء الذي تتردد به أنفاسها، فأي نوع تملكه بعده من أنواع إصلاحها. فليس الخطر الذي نخشاه اليوم على الإسلام هو كيد المفسدين لدعاة الإصلاح بإغراء غير أهله بالدعوة له؛ لمعارضة المضطلعين بالقيام به، واستئجارهم المنافقين وتأييدهم على الصادقين، مع عدم تمييز الأكثرين بين المحقين والمبطلين، ولا نحو ذلك من أعمال هؤلاء الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وإنما الخطر الأكبر هو إفسادهم السياسي الذي فتح علينا باب المسألة الشرقية، فبدأ بمملكة طرابلس الغرب الإفريقية، وثنى بولايات الدولة الأوروبية، ويُخشى أن يثلث بالولايات الآسيوية، ولا ينفعنا يومئذ ظهور صدقنا وكذبهم، ونصحنا وغشهم؛ لأن الأمر يخرج من أيدينا وأيديهم، إلى مَن لا يرحمنا ولا يرحمهم، على أن زعماء هذه الفتنة، ومبسلي هذه الأمة لا حظ لهم من الحياة إلا الجاه والمال، فإذا فاتهم الأول بفقد الاستقلال، فإن لهم من الآخر ما يمتعهم بسائر اللذات، ولم يدرء هذا الخطر مقاومة أهل الإخلاص لهم، وانتزاعهم تلك المقاليد من أيديهم، على أنه لا يبعد أن تعود إليهم، فتكون الكرة الثانية هي الطامة القاضية، ولا يدرؤها من بعد، مثل ما كان من قبل، وإنما يرجى أن يدرأه البدار إلى تقوية كل قطر من المملكة في نفسه، ونوط الدفاع عنه وإقامة العمران فيه بأهله، وهو ما يعبرون عنه بالمدافعة الملية، والإدارة اللامركزية، ثم بناء المصلحة العامة على قواعد الصدق والإخلاص، فإذا لم تتفق الأمة والدولة على هذا، فعلى الأمة والدولة السلام.