(ص٢٣٣) شاكي الجوانح من خلائق ظالم ... شاكي السلاح على المحب الأعزل (شاكي السلاح: تام السلاح) قولهم: شاكي السلاح إما أن يكون من الشوكة فيكون أصله شائك ومعناه حديد السلاح ماضيه , وإما أن يكون من الشك ويكون أصله شاكك ومعناه حامل السلاح. فالتمام ليس من معنى شاكي كما هو ظاهر. (ص٢٥٤) رأيتك للسفْر المطرَّد غاية ... يؤمونها حتى كأنك منهل (السفْر: السفَر سكنت الفاء ضرورة والمطرد: الطويل) السفر هنا ليس أصله مفتوح الفاء فسكنه وإن مصدر، كما يفهم من قول الشارح وإنما هو بسكون الفاء من الأصل؛ لأنه جمع سافر كصحْب جمع صاحب يقال: نحن قوم سفْر أي مسافرون، والمطرد اسم مفعول لطرده عن البلد بمعنى أبعد يقال: فلان مشرد مطرد وهو نعت لسفر باعتبار لفظه كما أن يؤمون عاد إليه باعتبار معناه. والمطرد إنما يكون بمعنى الطويل إذا أجري على اليوم نعتًا يقال: يوم مطرد أي طويل كامل تام يقول الشاعر: إن المسافرين الذين شردهم عن أوطانهم البؤس والشقاء يؤمونك كما يؤم العطاش المناهل. (ص٢٥٤) وإلا تكن تلك الأماني غضة ... ترفّ فحسبي أن تصادف ذبلا (ذبلاً: يابسة) يقول الشاعر: إذا لم أصادف أماني غضة طرية فإني راضٍ أن تكون ذابلة لا غضة ولا يابسة , وقد بينا معنى الذبول في الكلام على بيت صحيفة ٢٢٨ وتفسير الذبول هنا باليبس فضلاً عن كونه لا يصح لغة لا ينطبق على قصد الشاعر ولا يلائم غرضه، فإن ما يريد الإنسان ويتطلبه لا يسميه أمنية ما لم يكن فيها شيء من الفائدة والنفع ولو قليلاً , وتلك القلة كنَّى عنها الشاعر بالذبول فلو أراد بالذبول اليبس كان كناية عن خيبته وعدم نيله لأمانيه وقوله (حسبي) ينافي هذا كما لا يخفى. (ص٢٦٩) قُدعتم فمشيتم مشية أممًا ... كذاك يحسن مشي الخيل باللجم (قدعتم: لجمتم) لعل صوابه: ألجمتم لأنه يقال: ألجمت الفرس لا لجمته. ثم إن تفسير القدع بالإلجام لا أراه صحيحًا , وإرادة معناه الموضوع له نهاية في الحسن. القدع: الكف قدعه فانقدع وقدعت الفرس إذا كففته بلجامه لتنهنه من حدة جريه فالشاعر يقول: ردعتم عن مرامكم وكففتم عن غيكم كما تكف الخيل بلجمها فتمشي مشيتها المعهودة. (ص٢٧١) أرض مصرّدة وأخرى تثجم ... تلك التي رزقت وأخرى تحرم (مصردة: لا شجر بها) الأرض التي لا شجر بها يقال لها: مِصراد كمفتاح لا مصردة , أما المصردة هنا فمن التصريد ومعناه التقليل , وصرد له العطاء قلله , وصرد السقي قطعه دون الري وشراب مصرد مقلل. قال النابغة: وتسقي إذا ما شئت غير مصرد ... بصهباء في حافاتها المسك كارع وقرن الإثجام بالتصريد هنا مثل قرن الوابل بالطل في الآية الكريمة. (ص٢٩٤) وبالخدلة الساق المخدّمة الشوى ... قلائص يتبعن العبنَّى المخدّما (المخدمة: المستديرة التحجيل فوق الأشاعر) ما ذكره لا يصلح هنا لا في تفسير الكلمة الأولى (المخدمة) ولا في تفسير كلمة القافية (المخدما) لأن ما ذكره من صفات التحجيل وهو للخيل. وكلمة القافية جارية على العبنى وهو العظيم من الجِمال كما قال الشارح وهي من الخَدَمَة (محركة) سير غليظ يشد في رسغ البعير , أما المخدمة الواقعة في الشطر الأول , وفسرها الشارح بما فسر فهي وصف للغادة التي وصفها بامتلاء الساق ثم قال: إن شواها أي يديها ورجليها مخدمة أي مخلخلة؛ لأن الخدمة أيضًا تأتي بمعنى الخلخال كما تأتي بمعنى السير المذكور , ومعنى البيت أن المنزل تبدل قطينه فبعد أن كانت تمرح فيه الغواني ذات الخلاخيل صارت ترتع فيه النياق اللائذة بفحلها المشدود الرسغ بالسير. (ص٣٠٣) قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدة التعنيس مبتسما (قلصت: كمدت) الكمد والكمدة تغير اللون وذهاب صفائه , وليس هذا المعنى من التقليص في شيء. والتقليص له معان وإذا أسند إلى الشَّفَة فقيل: تقلصت شفته أو قلصت - كان بمعنى انزوت وتشمرت علوًا , وهذا ما أراده الشاعر. (ص٣٢٣) ويوم المصدفية حين ساموا ... أنو شروان خطبًا غير هين (ساموا: أذاقوا) سام فلانًا الأمر كلفه إياه وسامه خسفًا أولاه إياه وأراده عليه , وهذا المعنى في السوم مجاز كما في الأساس , وأصله أن يحاول صاحب السلعة بيعها بثمن ويريده مشتريها على أقل منه. فقول شاعرنا هنا من قبيل السوم المجازي أي أرادوا أنو شروان على التوسط في خطب اعتدوه له , وهو يحاول التفصي منه لأنهم أذاقوه إياه , وإذا فسرنا الكلمة هنا بالإذاقة نكون حمَّلناها ما لا طاقة لها به لا حقيقةً ولا مجازًا. (ص٣٢٤) تآمرت نكبات الدهر ترشقني ... بكل صائبة عن قوس غضبان (تآمرت: اتفقت) تآمروا تشاوروا كأتمروا , وإسناد التآمر إلى النكبات إسناد مجازي لطيف. وتفسير التآمر بالاتفاق عدول بالكلمة عن معناها المستعملة فيه واللائق بها هنا. وإذا قيل: إن التشاور على الرشق لا يقتضي الرشق بالفعل قلنا: والاتفاق عليه لا يقتضيه أيضًا وإنما هو شيء يفهم من المقام. (ص٣٤٤) أميلوا العِيس تنفخ في بُراها ... إلى قمر الندامى والنديّ (البُرى: التراب) البرى بضم الباء جمع برة وهي حلقة تجعل في أنف البعير تكون من صفر ونحوه ومنه قول المقصورة (يرعفن بالأمشاج من جذب البرى) , والعيس إذا أوضعت في السير تجعل تنفخ ونفخها يمر على تلك الحلقات المعلقة في أنوفها لا التراب الذي على الأرض على أنه لا معنى لإضافة التراب إلى العيس. (ص٤١٣) كالليل أو كاللوب أو كالنوب ... منقادة لقادر غربيب (اللوب: الإبل السود) اللابة: الإبل المجتمعة السود على أنه لا يمكن أن تراد الإبل السود هنا قط لئلا يكون من قبيل تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن الشاعر إنما يصف الإبل ويظهر من تشبيهه لها بالليل والزنج أنها كانت سوداء فكيف يشبهها وهي سود بالإبل السود. وإنما اللوب هنا جمع لوبة وهي الحَرة , والحرة بفتح الفاء أرض ذات حجارة سوداء ومنه قولهم: أسود لوبي نسبة إليها وتسمى الحرة أيضًا لابة ومنه لابتا المدينة. هذا ما أردت محادثة الشارح فيه أو مؤاخذته عليه مما سبق من الخاطر الكليل لأول وهلة , ويخيل لي أنه لو بالغ منتقد في انتقاده لعثر على أكثر مما عددته عليه وقد أضربت عن كثير مما غلب على ظني تحريفه أو تصحيفه كقول الشاعر (ص ٢٧) : فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته قودًا ركوبًا فقال الشارح: (القود: البعير المسن) والصحيح أن القود بالقاف: الخيل، أما البعير المسن فيقال له: العود بالعين المهملة. وأظهر من ذلك قول الشاعر في (ص٤٤٩) : قضيب من الريحان في غير لونه ... وأم رشا في غير أكراعها الخمش فقال الشارح: (الخمش: المخدشة) والصواب أن الكلمة في البيت مصحفة عن الحمش بالحاء المهملة وهي جمع أحمش الدقيق الساقين أي ضئيلهما , وقد حمشت ساقه وهو حمش الساقين , ومنه قول الحماسي يهجو امرأة: وساق مخلخلها حمشة ... كساق الجرادة أو أحمش ومثله ما في (ص٣٥) : كالأجدل الغطريف لاح لعينه ... خزر وأنت عليه مثل الأجدل فقال الشارح: (الخزر: الحساء الدسم) مع أن الأجدل - الذي هو الصقر - لا يأكل الأطعمة الدسمة ولا ينقض عليها وإنما الكلمة خزر كصرد ولامها زاي لا راء ومعناها ذكر الأرانب , وهو من طعام الأجادل يقول: إن الشاعر على صهوة فرسه كالصقر يعلو صقرًا رأى أرنبًا فجدَّ في أثره. ونظيره أيضًا ما في (ص٢٥٦) : أبا جعفر إن الجهالة أمها ... ولودٌ وأم العلم جذاء حائل فقال الشارح: (جذاء: بلا ثدي) فسرها على كونها من الجذ بالذال المعجمة وهو القطع , وإنما هي جداء بالدال المهملة وهي المرأة الصغيرة الثدي والذاهبة اللبن لعيب خلقي في ثديها وقوله (حائل) يؤيد هذا المعنى. على أن الشارح حفظه الله تساهل في تفسير كثير من الكلمات تساهلاً ربما لم يرضِ نقاد اللغة ولم يستجيزوه من مثله مثل قوله (منى) جمع أمنية، (جيش أزب) متجمع، (السنان) الرمح، (الأيكة) الشجرة، (أحرج) أجبر، (الحديث سرار) سر، (الصبر) الدواء المر، (الفرند) السيف، (الصفاة) الصوانة، (تهفو خلائقه) تضطرب، (يجم) يترك، (الطوَل) الحبل الطويل، (سيديل) سينتقم، (المعرس) المنزل، (الاصطلاء) الالتهاب، (الوابل) المطر، (البنان) الأصابع، (لاحب) طريق مُزجاة كاسدة، (النكال) المصيبة، (الهنات) الأمور، (شكائم) انتصارات، (اقتضى) طلب القرض، (يخترمن) يخترقن - في نظائر ذلك مما كان من باب التفسير بالأعم أو بالأخص أو باللازم , وهو ما يأباه المدققون في اللغة ويرون التسامح فيه غلطًا فاحشًا وجريمة لا تُغتفر. بقي لي كلمة لا أحب أن أبلغ بالكلام آخره ما لم أحدث بها حضرة الشارح وهي أني عددت عليه كلمات هي من قبيل المشترك وقد فسرها بمعناها غير المراد للشاعر كتفسيره للبرى بأحد معنييه وهو التراب مع أن المراد معناه الآخر كما مر آنفًا , فإن ذهب حضرة الشارح إلى أن تفسيره للمشترك بغير المراد منه غير موضع للانتقاد لكونه لم يخالف فيه أصل وضع اللغة وأنه في ذلك لم يخرج عن كونه شارحًا لديوان أبي تمام وعدَّ مؤاخذتي له على تلك الكلمات مؤاخذة في غير محلها وعلى غير الوجه الذي أعلنه في طلب الانتقاد - إن زعم ذلك كان من يفسر قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} (الغاشية: ١٢) بقوله: العين: الباصرة، والجارية: الفتاة! - يصح أن يسمى مفسرًا للقرآن وشارحًا لكلام الله تعالى، وكنت إذ ذاك جديرًا بسحب الكلام وطلب العفو والسلام. اهـ.