(٩) تابع المسألة الشرقية سيرت دولة إيطالية أساطيلها كلها وجيشًا عرمرمًا من جنودها المنظمة إلى طرابلس الغرب، لمحاربتها في البر والبحر، والاستيلاء عليها بالبغي والقهر، وإلباسها لباس الخوف والجوع، وأهانت الدولة العلية صاحبة ذلك القطر بمساومتها في بيعها وحملها بالتهديد والوعيد على الإذعان لاحتلال الجيش الإيطالي فيها. طمعت دولة إيطالية المغرورة في تلك البلاد لإهمال دولتها أمرها، وتقصيرها في إقامة المعاقل والحصون في برها، ووضع الحامية القوية فيها، وفي بث الألغام وأنابيب التدمير في بحرها، فانقضت عليها بأساطيلها وجنودها، وصبت عليها جحيم قهرها، وقطعت عنها موارد الرزق، في عام وباء ومجاعة وقحط، فأصبح أهل تلك البلاد يحاربون دولةً عاتيةً، باغيةً قاسيةًً، لا ترحم امرأةً ضعيفةً ولا شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً صغيرًا، ويصارعون جوعًا ديقوعًا دهقوعًا، ويصابرون وباءً مريعًا، فهم أحق خلق الله بعطف الكرماء، ورحمة الرحماء، وإعانة الواجدين، وإغاثة القادرين. نعم: إن الدولة العثمانية هي صاحبة هذه البلاد المرزوءة بقسوة الطامعين، وهي التي يجب عليها إغاثتها وإمدادها قبل كل أحد، ولكن حيل بينها وبين إنجادها إن أرادته، فلا أسطول قويّ تنجدها به بحرًا، ولا أوربة تمكنها من إنجادها برًّا، وإذا كانت الدولة عاجزة عن القيام بهذا الواجب انتقل الوجوب إلى من قدر عليه، وأقدر الناس عليه أهل مصر فصار متحتمًا عليهم بحق الجوامع الست التي تتعاطف بها الجمعيات البشرية لا بجامعة واحدة منها، وإننا نبين هذه الجوامع الست ونبدأ بالأعم منها فنقول: الجامعة الأولى الإنسانية خلق الناس ليعيشوا بالتعاون فهو معيار ارتقائهم، وميزان مدنيتهم، فكلما عم كانت المدنية أعم، والارتقاء أشمل، و (خير الناس أنفعهم للناس) كما ورد، وللتعاون أسباب أعمها التعارف، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: ١٣) وأن سهولة طرق المواصلة وتعدد وسائلها زاد في تعارف الناس وتعاونهم، فلا تقع الآن نكبة كبيرة في قطر من الأقطار إلا ويسارع أهل الأقطار الأخرى إلى إعانة أهله وتخفيف مصيبتهم، ومن الشواهد القريبة العهد على ذلك عطف المصريين على الإيطاليين الذين نكبوا بالزلازل والبراكين في صقلية ومسيني [١] فقد نظمت في ذلك القصائد العربية المؤثرة، وجمعت الإعانات المالية، وأرسلت إلى الحكومة الإيطالية. لو حكمنا العقل المجرد من الهوى في أحق الناس أن تبذل لهم المعونة، وتمد إليهم سواعد المساعدة الذين نكبوا بالجوائح الطبيعية، أم الذين نكبوا بظلم إخوانهم البشر لهم، وقهرهم إياهم، واعتدائهم على حريتهم واستقلالهم؟ لحكم حكمًا عادلاً بأن هؤلاء المظلومين أحق بالمعونة، وأجدر بالمساعدة، ولرأينا من أسباب هذا الحكم (حيثياته) أن مساعدة المظلوم وإعانته على ظالمه أكبر خدمة للإنسانية وأعظم نفعًا للبشر؛ لأن فائدتها مزدوجة، ونفعها يتعدى من المظلوم إلى الظالم بكفه عن ظلمه ومؤاخذته عليه، وبذلك يقل الظلم والعدوان بين الناس حتى يكونوا إخوة في الإنسانية، وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا إن يك ظالمًا فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلومًا فانصره) رواه بهذا اللفظ الدارمي وابن عساكر عن جابر، وفي رواية أحمد والبخاري والترمذي عن أنس أنه قال (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) فسئل قبل إتمام الحديث: (كيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره) . فبحق هذه الجامعة يجب على كل إنسان يؤثر حب الإنسانية على العصبية المفرقة والهوى والطمع المفسدين للأخلاق أن يساعد أهل طرابلس ودولتهم، على كف ظلم إيطالية وبغيها عنهم، أو على تخفيف مصيبتهم على الأقل، ولولا المطامع، والمبادلة والمعارضة في المنافع، لما أقرت أوروبة هذه الدولة على بغيها وظلمها، مع اعتراف المنصفين من جميع شعوبها ببغيها وطغيانها، وإنه ليوجد في كل شعب أوروبي كثيرون من أهل الإنصاف وحب الإنسانية، ولولا أن حكومتها وجرائدهم تخادعهم لما كانوا يسكتون عن الانتصار لأمثال هؤلاء المظلومين، على أنه وجد في إنكلترا كثيرون قد عرضوا أنفسهم على السفارة العثمانية للتطوع في جيشها الذي يحارب إيطالية، ومع هذا نرى فينا من ينكر مثل ذلك منا نحن المشاركين لأهل طرابلس في الجوامع الست كلها. الجامعة الثانية الشرقية الناس كلهم إخوة في الإنسانية والإخوة قد يختلفون على المنافع، ويغلب طمع القوي منهم على ما تطالبه به الفطرة وعاطفة الأخوة من التسامح والإيثار، بل من العدل والإنصاف، فيتفرقون ويختصمون، ويستعين بعضهم على بعض، ويقع الخصام والعدوان بين الجماعات كما يقع بين الأفراد، وهذا هو السبب في تكوين عصبية الجامعات المختلفة فقد كانت وما زالت الشعوب والقبائل والأمم والدول تتخالف وتتحالف، وتتنازع وتتصارع، والأصل في هذه العصبيات الاشتراك في الصفات والمقومات التي تقتضي التآلف ومقاومة المخالف فيها كالنسب والوطن واللغة والحكومة والدين والعادات والآداب، وكلما كان ما به الاشتراك أكثر، كان التآلف والتعاطف أعم وأشمل، فالمشتركون في النسب قد يخاصمون الغريب عن نسبهم من أبناء لغتهم ووطنهم ودينهم، وكذلك أهل الوطن واللغة مع الغريب عنهما المشارك في غيرهما مثلاً، وعلى هذا المنهج تصغر العصبيات وتكبر. كثر ما به الاشتراك بين أهل أوروبة، فهم مشتركون في الدين والعادات العامة، والأحوال الأهلية والاجتماعية، وطرق الكسب، وفنون الحرب، ونظام الحكومة، وأكثر خواصهم يعرفون من لغاتهم الكبرى ما يتخاطبون بها مع الآخرين ويقرءون جرائدهم وكتبهم، وينقل بعضهم عن بعض في كل يوم كل أمر ذي بال، وينشرونه للجمهور في جرائدهم، فيشعر كل شعب منهم مما يشعر به الشعب الآخر من مؤلم أو ملائم، فهم بهذه الأمور كلها عصبية واحدة على من يخالفهم فيها، وقد اتحدوا بها على المخالفين فصار العالم كله (أو ما يعبر عنه بالعالم القديم إذا استثنينا أميركة) عصبتين يعبر عن إحداهما بالغرب، ويراد به أوربة الطامعة، وعن الأخرى بالشرق، ويراد به آسية وأفريقية المطموع فيهما. وكان الأولى أن يقال: والشمال مكان الشرق والغرب، ولكن لا مشاحة في الإصطلاح كما يقال. يرى كثير من الكتاب والمؤرخين أن المراد بالشرق الإسلام وبالغرب النصرانية ولكن المختبرين من علماء نصارى الشرق الذين عرفوا كنه سياسة أوربة ورأوا سيرتها في مستعمراتها يعلمون أن أوربة تحتقر جميع الشرقيين ولا تعد النصارى منهم أهلاً لمساواة الأوربيين في شيء، وأن أية دولة من دولها تستولي على بلاد شرقية تحتقر جميع أهلها، وتستعلي عليهم بعظمتها الجنسية؛ لأنها ترى أن الأوربي يجب أن يكون سائدًا؛ لأنه أوربي، وأن الشرقي يجب أن يكون مسودًا؛ لأنه شرقي. لا يزال الشرق ضعيف التماسك جاهلاً أنه مضطهد من الغرب كله، وأنه يجب عليه التناصر لدفع سيل الغرب الآتي وعدوانه المخشي، وقد رأينا الخبيرين بكُنْه هاتين الجامعتين من شبان النصارى الأحرار في مصر وسورية يميلون كالمسلمين إلى انتصار اليابان الوثنية، على روسية النصرانية، يوم وقعت الحرب بينهما، فإذا مال هؤلاء الأذكياء إلى ظفر طرابلس الغرب الشرقية المظلومة، وانتصارها على إيطالية الغربية الظالمة، فذلك أولى، بل لا يكفي أن يميلوا ويعطفوا، دون أن يساعدوا وينصروا، فالأقربون أولى بالمعروف. الجامعة العثمانية أهل الولايات العثمانية البحتة والممتازة والمستقلة في إدارتها مختلفون في الأجناس والأديان، واللغات والعادات، وليس في استطاعة أهل ولاية منها أن يكونوا دولة قوية تحمي نفسها من أوروبة إذا صالت عليها بجيشها وأساطيلها، ومصر في ذلك كغيرها، فإن كانت أغنى وأعلم، فهي أضعف في الحرب وأعجز، فمن مصلحة الجميع تأييد الجامعة العثمانية، وإصلاح حال الدولة العلية، وهذا الإصلاح يتوقف على شكل الحكومة الذي يعبرون عنه باللامركزية، وهو ما ستصير الدولة إليه، ولا بقاء لها بدونه، إذا هي سلمت من كيد أوروبة لها، وحالت سياسة التنازع دون التعجيل عليها -سلمها الله تعالى وكفاها كيد الكائدين- وحينئذ تكون الولايات العثمانية كالولايات الجرمانية أو الولايات المتحدة كل منها داخل في إدارتها الداخلية ومشتركة مع سائر الولايات في السياسة العامة وقوة الجيش والأسطول إلخ. فعلى العثمانيين في جميع الولايات من جميع العناصر والملل أن يستمسكوا بعروة العثمانية ويبذلوا النفس والنفيس في حفظ كيانها، وتأييد سلطانها، والفرصة الآن سانحة فينبغي اغتنامها، وما ذاك إلا بمساعدة أهل طرابلس العثمانيين على حفظ أنفسهم وبلادهم وبقائهم عثمانيين مثلنا، متصلين في ظل هذه الجامعة بنا، وأخص غير المسلمين من العثمانيين بتأييد هذه الجامعة، واغتنام هذه الفرصة السانحة، فإنهم بذاك يوثقون عُرى الاتحاد بينهم وبين إخوانهم في الوطن والعثمانية توثيقًا لا تجهل فائدته. أين العقلاء الأذكياء من نصارى السوريين والقبط ومن اليهود؟ أين الذين يقولون منهم: إننا نود أن نجعل الرابطة الوطنية أو السياسية أقوى في أمور الدنيا من الرابطة الدينية، ألا يعلمون أن إيجاد هذه الرابطة وتوثيقها وتقويتها من نتائج الأعمال، لا من نتائج الأقوال، إن كُتاب المقطم والأهرام في مصر وبعض كُتاب اليهود في جريدتهم (جون ترك) قد أظهروا ميلهم إلى الدولة وضلعهم على إيطالية فشكرنا لهم ذلك، ولكن لماذا نطق بعض أرباب الأقلام، وسكت أرباب الأموال، فلم يسمع لهم صوت بكلمة التبرع لإعانة الحرب يذكر، ولا لمساعدة جمعية الهلال الأحمر. قال بعض غلاة التعصب الديني من السوريين: إن النصارى لا يدفعون إعانة في حرب سماها بعض كتاب المصريين جهادًا دينيًّا مع دولة مسيحية، ولست أرى هذا عذرًا صحيحًا لمن لم يصل إلى درجة الشيخ يوسف الخازن صاحب جريدة الأخبار في بغض المسلمين والتعصب عليهم، وإغراء الإفرنج بهم، فإن دفاع أهل طرابلس الغرب عن أنفسهم يسمى في اللغة العربية وفي اصطلاح الشرع جهادًا يوجبه الدين. فإذا كنتم لا تساعدون أهل طرابلس في مصابهم إلا إذا غيرنا وضع اللغة وعرف الشرع فما أنتم بمساعدين؛ لأن هذا التغيير ليس في استطاعة أحد من العالمين، على أن إعانة جمعية الهلال الأحمر ليست إعانة لمسلمي طرابلس على مدافعة نصارى إيطالية، بل هي إنقاذ كل من يمكن إنقاذه من الجرحى والمصابين بنكبات هذه الحرب ولو كان إيطاليا باغيًا، ولكنها باسم العثمانية وتحت هلال علمها فما بالكم تقبضون أيديكم عنها. إن نصارى السوريين المقيمين بمصر وأمريكة هم أرقى السوريين علمًا وأدبًا وأكثرهم فضة وذهبًا، وأوسعهم مروءة وكرمًا، وأشدهم نجدة وشممًا، وإني لأنتظر منهم البرهان الناصع على تأييد الجامعة العثمانية، وتوثيق الرابطة الوطنية، بل سمعت هنا حسيس همساتهم، وخفي مناجاتهم، يأتمرون بينهم، ويتحفزون للمكرمة اللائقة بهم، وكأني بها وقد ظهرت في مصر، وإن ظهورها في أمريكة لأدل على الفضل والنبل. جامعة اللغة العربية الإنسان حيوان ناطق، فالنطق أظهر مقوماته التي بها امتاز على سائر أنواع الحيوان، وارتقى في مدارج العلم والعرفان، وإن صُحبتك لمن لا تعرف لغته لا تبعد عن صحبة الحيوان الأعجم، فأنس الإنسانية والاستفادة من مزاياها بالتعاون لا يتم إلا بالكلام فلهذا كانت اللغة أقوى الروابط بين البشر في المصالح والمنافع والترقي الصوري والمعنوي. رابطة اللغة تشبه نعمة الهواء والماء في كونها لا يشعر المرء بقيمتها ومنفعتها في حال التمتع بها، ولا أقول لك تصور فضلها، بتخيل فقدها، بل أقول لك: تخيل أنك هبطت بلدًا لا تعرف لغة أهله، وأحاطت بك الحيرة من كل جانب في كل معاملة تعاملهم بها، ثم ظفرت فيه بمن يعرف لغتك، ماذا يكون قدر سرورك واغتباطك به وحنينك إليه، واستفادتك منه، ولاسيما إذا كان من أهلها غير دعيٍّ فيها؟ إن أهل طرابلس الغرب، لهم على أهل البلاد التي تحيط بهم من الشرق والغرب حق جامعة اللغة التي يبذل الأوربيون الملايين لنشرها في جميع بقاع الأرض، وما هي هذه اللغة التي يشاركنا فيها أهل طرابلس؟ ومن هم أهلها؟ وما أشهر صفاتهم؟ تلك اللغة هي اللغة العربية الشريفة، وأهلها هم العرب الكرام الذين اشتهروا في العالم كله بالسخاء والكرم، حتى صار السخاء العربي والكرم العربي مما يضرب به المثل، وقد كان من سخاء بعض أجوادنا أن أعطى سيفه لخصمه في الحرب إذ طلبه منه، واختار تعريض نفسه للقتل، على الإمساك والبخل، ومنا من قيل فيه بحق: فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتقِ الله سائله
فهل يليق بأمة هذا شأنها في الجود والسخاء، أن يرى أغنياؤها المدافع تحصد إخوانهم، وتهدم بنيانهم، والجوع يغتال أطفالهم ونسوانهم، ولا يواسونهم ببعض ما أنعم الله عليهم من الرزق الواسع، والمال الكثير؟ الجامعة الخامسة جامعة الجوار للجوار حقوق كحقوق القرابة قضت بها الفطرة البشرية، وأيدتها الشريعة الإلهية، فمن شأن الجار أن يشعر بكل ما يشعر به جاره ويشاركه فيما يسر منه وما يسوء، فإذا فرح أطربه صوت غنائه، وإذا حزن أحزنه نشيج بكائه، وإن وقع الحريق في داره، أصابه شواظ من ناره، وقد أوصى الله بالجار في كتابه، وفي حديث الصحيحين والسنن (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) . ألا وإن جوار الشعوب والبلاد، كجوار البيوت والأفراد، وإننا نرى الدول الطامعة قد تواطأت على إعطاء الجار القوي حق سلب جاره الضعيف، فكانت إنكلترة والروسية، هما السالبتين لاستقلال الدولة الإيرانية، وفرنسة وأسبانية هما السالبتين لاستقلال الحكومة المراكشية. ألا وإن لطرابلس الغرب حق الجوار على مصر وتونس، ومصر أقدر على إعانتها من تونس؛ لأنها أوسع ثروة وحرية، ومن مصلحتها السياسية أن لا تستقر قدم إيطالية الغادرة في أرض جارتها وأختها طرابلس؛ لأن الإيطاليين جيران سوء، وأصحاب بغي وغدر، فإذا قُدِّر لمصر أن تخرج من سيطرة الإنكليز لا تأمن على نفسها والإيطاليون في طرابلس من اعتدائهم عليها بمحض البغي والعدوان، ودعوى أنها أحق بها لمصلحة الجوار. الجامعة السادسة الجامعة الدينية الدين هو صاحب السلطان الأعلى على الأرواح، والحاكم المتصرف في العزائم والإرادات، ورابطته أقوى الروابط وجامعته أعم الجامعات، فالمسلم الهندي الذي لا تجمعه بالمسلم العثماني جامعة نسب، ولا لغة ولا وطن، ولا منفعة مادية أو سياسية، يغار عليه ويألم لألمه ويحزن لمصابه، ما لا يغار ويألم المشارك له فيما عدا الدين من الجامعات، فلا عتب إذًا على المسلم إذا فضَّل أخاه البعيد في الإسلام على أخيه القريب في الوطن أو اللغة أو الجنسية السياسية، وهو يراه أشد حبًّا له وحدبًا وعطفًا وحنانًا عليه من هذا الأخ القريب ولكن تفضيل ذاك لا يقتضي التقصير في حق هذا. روى أحمد ومسلم في صحيحه عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وفي حديث الصحيحين عن أبي موسى الأشعري (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وهذان الحديثان وأمثالهما تفسير لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:١٠) وقوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: ٢٩) . غلب على المسلمين الجهل بدينهم وترك جماهيرهم هدايته، ومزق نسيج اتحادهم ما كان من اختلافهم في المذاهب: هذا شيعي يعادي سُنيًّا، وهذا أشعري يعيب حنبليًّا، وهذا جَهمي يكفر وَهَابيًّا، (واحكم على العكس بحكم الطرد) ثم مزقته أهواء السياسة ونزغات التفرنج، بما أحدثت بينهم في هذه الأزمان، من التفرق في الأجناس والأوطان، ومع هذا كله نرى بصيصًا من ذلك النور الإلهي لا يزال يلوح بين أفئدتهم مُشرقًا من أفق الكتاب العزيز والسنة النبوية، عندما تُصَبّ عليهم المصائب، وتنتابهم النوائب، فبنوره يبصرون، وبحرارته يتعاطفون، فبينا ترى التركي يحتقر العربي ويحاربه، والآخر تارة يعاتبه وأخرى يواثبه، إذا بهما بعد هُنيهة متحدان يفدي أحدهما شرف الآخر وحقه بدمه وماله. بالأمس كانت الدماء تتفجر من سيوف الترك والعرب في اليمن، واليوم نسمع عرب اليمن ونجد ينادي زيديهم وشافعيهم ووهابيهم الأستانة: إننا مستعدون لبذل أنفسنا في سبيل حفظ سيادتك على إخواننا عرب طرابلس الغرب. إن جميع الأمم والملل لتعجب من قوة هذه الرابطة الإسلامية على ما وصل إليه المسلمون من التقاطع والجهل، وإن أعداء الإسلام دائبون في اتخاذ الوسائل لنكث فتلها، ونقض غزلها، ولهم من ملاحدة المسلمين أعوان على ذلك ربّوهم على كراهة هذه الرابطة الشريفة، وأقنعوهم بوجوب استبدال الرابطة الجنسية أو الوطنية بها، فهم يعملون لأعدائهم ولا يشعرون. بهذه الرابطة المقدسة نرى المسلمين يبسطون أيديهم لمساعدة إخوانهم في طرابلس على الدفاع عن أنفسهم، لا يمتنع منهم عن المساعدة إلا العاجز منها لفقره أو جهله بطريقها، أو منع حكومته له منها، وبهذه الرابطة نعلم الجاهل، وننبه الغافل، بل لا ينبهنا إلا المصائب، ولا يعلمنا إلا النوائب، فهي التي ستعيد إلى الجامعة الدينية قوتها، حتى تصدر عنها آثارها اللائقة بها، وما هي إلا العدل والفضل، والمدنية المطهرة من أدران البغي والغدر، واستباحة الفجور والفسق. كل جامعة من تلك الجامعات الست كافية لبسط اليد في إعانة أولئك المنكوبين المظلومين، فكيف إذا اجتمعت كلها وتحققت في مثل مسلمي مصر؟ أفلا يكون الذي يبخل منهم جانيًاعلى تلك الجامعات كلها: الإنسانية والشرقية والعثمانية والجوارية واللغوية والإسلامية؟ بلى. فيا أيها المسلمون -وأخص مسلمي مصر بالذكر- أنتم أهل النجدة، وأجدر الناس بتفريج هذه الشدة، اعلموا أن لله عليكم فيما أوجبه من زكاة أموالكم سهمًا للمجاهدين في سبيل الله وهي سبيل الحق والعدل. وأفضل الجهاد الدفاع عن النفس والوطن، ومقاومة البغي والعدوان، وهو ما وجب على إخوانكم وجيرانكم من أهل طرابلس. فأعينوهم يعنكم الله ويغفر لكم ذنوبكم. أيها المسلمون إن دينكم يوجب عليكم إغاثة المضطر، ولو كان كافرًا غير محارب لكم، بل يوجب عليكم إغاثة الحيوانات المضطرة إلى القوت، وكل ما يقيها الهلاك، وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم: (في كل ذات كبد حرى أجر) رواه أحمد وابن ماجة بسند صحيح، فما بالكم إذا كان المضطر من إخوانكم وجيرانكم كأهالي طرابلس الغرب، الذين قطعت إيطالية عنهم جميع موارد الرزق، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: ٧) , {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (التغابن: ١٦) . ((يتبع بمقال تالٍ))