أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية يعد في مقدمة الذين نبغوا بمصر في هذا العصر، وهو من مريدي الأستاذ الإمام في الفلسفة والأدب والاجتماع وعلو الهمة، ومن مزاياه التي فاق بها أهل طبقته الذين تعلموا على الطريقة الأوربية وأتموا علومهم في أوربة أن اشتغاله في خدمة الحكومة بالجد وترقيه في مناصبها لم يصرفه عن الاشتغال بالعلم مطالعةً وترجمةً وتصنيفًا فله عدة آثار علمية مطبوعة ما بين مصنَّف ومترجَم، وهو حسن الاختيار لما يترجمه، وناهيك بترجمته لكتاب روح الشرائع تأليف بنتام الشهير، ولكتاب سر تقدم الإنكليز السكسونيين لأدمون ديمولان في التربية والتعليم، ولكتابي روح الاجتماع وسر تطور الأمم، كلاهما لجوستاف لوبون، اللذين هما من خير ما كتب الإفرنج في علم الاجتماع الإنساني، وكان آخر ما ألفه شَرْحه للقانون المدني المصري الذي أعجبت به الحكومة وجمهور رجال القانون من القضاة والمحامين. وقد أسمعني مقدمته قبل إتمام طبعه فرأيته يجول في علم القوانين جولان الأئمة المجتهدين في علم الفقه فتذكرت له مثل هذه الجولة الاجتهادية إذ حضرت منذ خمس عشرة سنة محاكمته للأمير سيف الدين بمحكمة مصر الأهلية وكان رئيسًا لها. ولما طبع هذا الشرح وانتشر اجتمع بعض رجال القانون والعلم من قضاة ومحامين وغيرهم تحت رياسة الشيخ محمد بخيت مفتي نظارة الحقانية ودعوا إلى الاحتفال به في دار الجامعة المصرية فأجاب الدعوة جمهور عظيم من قضاة الشرع وعلماء الأزهر وقضاة المحاكم الأهلية والمحامين والأدباء والوجهاء، وخطب شكري باشا وعبد العزيز بك فهمي والدكتور صروف ومحمود بك أبوالنصر فأثنوا على المحتَفَل به وعلى كتبه عامة وكتابه الجديد خاصة، وختمت الحفلة بخطبة له كانت أشد الخطب تأثيرًا كما كانت أحسنها إلقاء وهذا نصها: خطبة فتحي باشا سادتي! رجعت إلى المعاجم ألتمس منها كلمات تسمو معانيها إلى سماء فضلكم، أو صيغة حمد تفي بقليل من واجب شكركم، فما راقني لفظ ولا شاقني معنى، ورغبت عن التنقيب والاستفادة، إلى الإقرار والشهادة. أنا عاجز، نعم أنا عاجز عن إيفائكم حق الثناء لقاء صنيعكم، لكني لن أعجز عن الاحتفاظ بعهدكم، والبقاء على الدوام متأثرًا بجميلكم. شرفتم هذا المكان لتكريم خادم ظننتم به خيرًا، وما خيره إلا منكم، وأردتم أن توفوا له فضلاً والفضل أنتم مواليه، ولا أرى في اجتماعكم هذا إلا حركة نفسية من حركات الأمة تقطع دور السكون، وتعلن يقظتها وشخوصها نحو الرقي، بعد أن اختمرت الأفكار وتمكن اليقين بأن لا حياة إلا بالحضارة، ولا حضارة إلا بالعلم، وما أنا إلا ذريعة اتخذتموها للقيام بهذه الحركة المباركة. هذا مظهر خلق جديد كمُنَ حتى اكتمل، وسكن حتى نما وتم، خلق لا تقوم أمة بدونه وهو عماد كل رقي، هو محبةُ الكلِ خيرَ الكل في كل فرد من الأفراد، وظهور هذا الخلق دليل على ما للأمة من الصفات الكريمة الأولية، ومن الأخلاق الفطرية الاجتماعية، مما إذا عولج صفا، وأعلى مكانتها، ووصل بها إلى الدرجة التي تستحقها في هذا الوجود. من يَخْبُر هذه الأمة ويقف على كنه خلقها، ويعرف جيدا حقيقة خصالها، ويدرك الصحيح من آمالها، وينعم النظر في أعمالها، يقتنع بأن التربة زكية لا يفسد زرعها إلا شيء من البذور الرديئة، وبأن الخلق كريم يغشاه ستار من عدم العلم التام بالواقع، وبأن الآمال كبيرة شريفة لكنها مشوبة بشكوك وأوهام تطوح بنا يوما ذات اليمين ويوما ذات الشمال، أما أعمالنا فثمرة هذا وذاك، نهتاج والسكون واجب، ونلهو وكل النجح في العمل، وما كان شيء من كل هذا يكون لولا خطأ في تقدير حقيقة حالنا، وعدم التفات إلى حركة البيئة التي نحن فيها، ونسيان لشيء كثير من الماضي، ولهو عن الحاضر، وعدم اهتمام بما هو آتٍ، ومحال أن تدوم هذه الحال، فلا بد لنا من إعداد العدة اللازمة لذلك التحول وما هي إلا العلم. العلم هو سلم الأمم إلى حضارتها، فهو كاشف ظلمات الجهل، ومسدد الآراء، ومنجح كل مجهود، هو الذي اخترق الأرض فأخرج مكنوناتها، وحكم في المادة فاستلب منها كنوزها، وتسلط على البحار فسادها، ورقى إلى الجو فخلق في القبة الزرقاء طالبًا للناس علوًّا وكمالاً، وقرب الأبعاد فأضاف إلى الوقت أوقاتًا، وضم إلى حياة الإنسان حياة وحياة، بهذا أنار البصائر وشد العزائم، وقوى الهمم، فأنهض الأمم، وأعلى كلمة التي كان حظها منه وفيرًا. أرجو أن يكون في مظهركم هذا دليل على أننا قطعنا دور التنافر والتفرق، وعرفنا الصواب بعد أن حجبته عنا الأوهام زمنًا طويلاً، ودخلنا من باب العمل الصحيح النافع، واقتنعنا بأن الضعف - وما الضعف إلا الجهل - يطمس على القلوب، ويجعل القوم يرون حسنًا ما ليس بالحسن، يظنون أن التأخر آتٍ من عارض خارجي وأنهم إذا قعدوا عن التماس وسائل التقدم فالمقصد يجذبهم إلى الوراء، ولكنهم متى علموا عرفوا أن العلة ذاتية، وأن الدواء في اليد، وأن قتل الوقت في الظنة والاتهام مضيعة لما يفيد، وداع جديد من دواعي الضعف والتأخر. أرجو أن يكون في اجتماعكم هذا دليل على السآمة من هذه الحال، بل على الفزع من أخطارها الاجتماعية الكبرى، وعلى أن العلم الذي ينبث فينا أخذ ينقي الضمائر ويجمع شمل المتفرقين، ويطهر السرائر ويوحد كلمة المتنافرين، وينير البصائر فيهدينا إلى أن التآزر شرط النجاح، وأن يد الله مع الجماعة، وأن التباغض مجلبة للشر، والتنابذ يمهد سبيل الذل، وأن في التضاغن تهلكة للناس. لعل رجائي محقق بإقبالكم على هذا المكان ملتفين حول راية واحدة مع اختلاف العناصر والمعتقدات، ومنبعثين من روح واحد ألف بين قلوبكم جميعًا فتعارفتم وجئتم إخوانًا فرحين بوجهٍ باسمٍ يحيي موجد هذا الروح وباعث ذاك الشعور، العلم. سادتي! ما خيم الجهل في أمة إلا أذلها، وما انبلج ضوء العلم بين قوم إلا عزوا. أيها العلماء أيها العظماء أيها الشعراء والأدباء، قادة الأفكار، دعاة الأمة، اربأوا بها، فالسبيل واضح، علِّموا الأمة علِّموا الأمة. (المنار) أشار الخطيب المحتَفَل به إلى ما امتاز به هذا الاحتفال على غيره حتى كان هو الأول في بابه، وهو اجتماع أصناف من الناس لم يتفق اجتماعهم في أمثاله، فقد كانت لجنة الاحتفال مؤلفةً من بعض علماء الأزهر وعلماء القانون وغير القانون من العلوم العصرية، بعضهم من المسلمين وبعضهم من النصارى، وبعض النصارى من قبط مصر وبعضهم من السوريين، وكذلك الذين أجابوا الدعوة وحضروا الاحتفال. ومن أكبر ضروب العبرة في هذا الاجتماع حضور طائفة من علماء الأزهر وكون رئيسه من أشهر فقهائهم وهو الشيخ محمد بخيت، وقد كانوا من قبل يشددون النكير على القوانين ومتعلميها، ومن يحكم بها، ولا نقول أكثر من ذلك في هذا المقام. ثم صار بعضهم يدخلون أبناءهم مدارس الحقوق ليتعلموا هذه العلوم ويحكموا بهذه القوانين. على أن القانون المدني أقرب من سائر القوانين إلى فقه المسلمين. ومن ضروب العبرة فيه: اختلاف ذوق المسلمين وشعورهم الديني والأدبي في مسألة تدل على مبلغ تأثير التفرنج في البلاد، وهي أن بعض المسلمين الحاضرين كان أنكر على جماعة العلماء تأخير صلاة المغرب إلى قرب وقت العشاء فلما صلوها سروا بذلك وأثنوا خيرا، وأنكر آخرون عليهم أنهم قاموا من مكان الاحتفال قبل انتهائه إلى مكان آخر صلوا فيه وعدوا ذلك من قلة الذوق، ورأوا أنه كان ينبغي لهم تأخير المغرب عن وقتها، ولعل بعض هؤلاء لا ينكر عليهم ترك صلاتها ألبتة لأجل الاحتفال، فأين الشعور الإسلامي عند هؤلاء من شعور مسلمي نجد واليمن الذين لم يبق لهم ثقة بأحد من علماء الأمصار التي دخلها التفرنج وفشا فيها. يقول أولئك المسلمون: إن هذه المنكرات هي التي أضعفت الإسلام وأضاعته، ويقول هؤلاء المتفرنجون: إن جمود أولئك المسلمين وجهلهم بحضارة العصر هي التي أضاعت ملك الإسلام وذهبت بقوته، وأكبر المصائب على الإسلام وأهله وملكه في هذا العصر هو الاختلاف البعيد بين أهله في مقومات الأمة ومشخصاتها، وانحلال الروابط القديمة بالتفرنج الذي لم يستطع أهله أن يستبدلوا بما حلوه وقطعوه منها ما هو منها ولا مثلها. أما أسباب الضعف والقول الفصل فيها فقد بيناه في المنار غير مرة.