تعريف المنطق وعدم اطِّراد ما ذكروه من غايته بسم الله الرحمن الرحيم (س١٩) من صاحب الإمضاء في لنجة (الخليج الفارسي) حضرة المصلح الوحيد الإمام، والأستاذ العلامة الهمام، السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الأعظم لا زال كهفًا للأنام ومؤيدًا للإسلام وبعد: فقد اطَّلعنا على جوابكم عن إشكال بيت جرير، وكان الجواب كجواب حضرة الوالد حرفًا بحرفٍ، فحصل به اطمئنان الخاطر، ثم إنه عرض لي إشكالٌ، ولم أَرَ مَن تنبه له، ولا مَن أجاب عنه، فعرضناه على خليصكم، وشاكر إحسانكم الوالد، فأمرني باستجداء الجواب عن حضرتكم، فالمرجوّ كشف الغمة، لا زلتم كما أملتم. الإشكال هو أن مؤلفي فن المنطق اتفقوا في تعريفه بأنه (آله قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) واتفقوا - فيما أعلم - أن واضع هذا الفن الحكماء اليونانيون، وكوْنهم قائلين بقدم العالم على قدم، فلا يخلو من أمورٍ، إما عدم صحة التعريف، وإما ادَّعاء أن الواضعين لم يراعوها، وإما كونهم محقين في ذلك. على كلٍّ أزيلوا الإشكال، كما جعلكم الله تعالى كهفًا ومنارًا. (ج) إننا نجزم بأن ما ذكروه في تعريف المنطق لا يصح باطرادٍ، وأن حكماء اليونان وغيرهم ممن كانوا يحاولون إثبات العلوم العقلية بأنواعها حتى الإلهيات بتطبيقها على قواعد المنطق - لم يستطيعوا مراعاة أحكامه لا في التصورات، ولا في التصديقات، فتحديد الكليات التي يؤلَّف منها الحد، والرسم في التصورات، ومقدمات القياس، ولا سيما البرهان الذي عليه مدار صحة النتيجة في التصديقات - كلاهما من أعسر الأمور وأبعدها عن المنال، وليس خطؤهم محصورًا في قولهم بقدم العالم، بل هو غير محصور، على أنهم لم يكونوا يدَّعون أن كل مسألة من مسائل فلسفتهم، وقضية من قضايا علومهم من اليقينيات الثابتة بالبرهان، وأكثر ما كان يفيدهم المنطق في المناظرات، التي تقوم فيها المسلَّمات مقام اليقينيات. وبيان هذا بالتفصيل وتوضيحه بالأمثلة لا يتم إلا في مقالٍ طويلٍ، وحسبك أن تتأمل اليقينيات الست لتعلم ما يقع فيها من الغلط والتلبيس. ومثل علم المنطق في هذا علم الشرع، فإنك ترى الخطأ في تطبيق الأحكام الشرعية على الوقائع العملية كثيرًا جدًّا، وترى فهم الناس للأحكام يختلف باختلاف معارفهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، والعرف العام عندهم، حتى إنهم لَيستدلون بالحكم على ضد ما يدل عليه أحيانًا، كما هو شأنهم في البدع، فما من بدعة فشت إلا وأهلها يستدلون عليها بأدلة تشبه الشرعية، وما هي بشرعيةٍ، هذا شأنهم في نصوص الشرع الواضحة، ولم تصرفهم عنها قواعد أئمة العلماء الذين يدَّعون تقليدهم، كما بيناه في الفتوى الثانية من فتاوى المجلد الثاني والعشرين. *** إطلاق أسماء الله تعالى على بعض خلقه (س ٢٠) من صاحب الإمضاء في بيروت حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى سلام الله عليكم وتحياته وبركاته وبعد: أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه وهو: ألفاظ تستعملها الناس عند مخاطبة العلماء والرؤساء، وأصحاب الرتب العالية كالسلاطين، والوزراء وغيرهم مثل: العليم. الحكيم. الرحيم. مولانا صاحب العظمة. صاحب السعادة. صاحب العزة. ولي النعم. رب الفضل وغير ذلك، فهل يجوز مخاطبة العبيد، ومدحهم بهذه الصفات، مع أنها من صفات الله سبحانه وتعالى أم لا. ... ... ... ... ... ... ... ... م. ط. ل
(ج) أسماء الله تعالى منها ما هو خاص به عز وجل كاسم الجلالة (الله) و (الرحمن) ، و (الرب) بالتعريف وغيرها، فلا يجوز وصف غيره بها، ومنها ما هو غير خاص به كالرحيم، والعليم، والحليم، والحكيم، وقد وصف الله تعالى رسوله بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: ١٢٨) ، وإبراهيم بالحليم، وكذا ولده إسماعيل إذ قال فيه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: ١٠١) ، وولده إسحق بقوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: ٢٨) ، وآتى داود الحكمة، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} (البقرة: ٢٦٩) ، ومن أوتيها كان حكيمًا، ومن هذه الألفاظ المشتركة في الاستعمال (المولى) قال تعالى - في رسوله صلى الله عليه وسلم -: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (التحريم: ٤) ، وأما صاحب العظمة وصاحب السعادة وصاحب العزة وولي النعم ورب الفضل، فلم يرد في الكتاب، ولا في السنة إطلاقها على الله تعالى، ولكن ورد {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠) ، وورد {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر: ١٠) ، وثم آيتان أخريان كهذه، وفي إسناده لله ولغيره قوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) ، ووصف عرش بلقيس بأنه {عَرْشٌ عَظِيمٌ} (النمل: ٢٣) . وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل، فوصفه بقوله: (عظيم الروم) ، وإلى المقوقس (عظيم القبط) ، وإلى غيرهما من الملوك والرؤساء بمثل ذلك، ويظهر أنه لا يجوز وصف غيره تعالى بعدة صفات من الصفات المشتركة إذا كان باجتماعها يعلم مَن سمعها أنها لا تجتمع لمخلوق، بحيث يظن إذا لم يعرف الموصوف بها أنها لله تعالى. *** لبس العمامة سنة أم لا؟ (س ٢١) ومنه: هل لبس العمامة سُنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك أحاديث صحيحة معتمدة أم لا؟ وهل مَن يلبَس العمامة يثاب على لُبسها؟ وهل العمامة البيضاء، والخضراء، والسوداء، والحمراء كلها سواء، أم أيها أفضل؟ (ج) ثبت في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس العمامة تارة فوق القلنسوة، وهو الأكثر، وتارة بغير قلنسوة، وأنه كان يلبس القلنسوة تارة بغير عمامة، وأنه دخل مكة، وعليه عمامة سوداء. وورد أنه كان يرخي طرفها، وهو الذؤابة بين كتفيه، وأنه كان يلتحي بها تحت الحنك كما يفعل المغاربة، ولم يرد الأمر بلبسها على سبيل التدين والتشريع، فمَن اعتمَّ كما كان يعتم بنية التشبه به - صلى الله عليه وسلم - في لباسه حبًّا فيه عليه صلوات الله وسلامه كانت هذه النية مما يثاب عليه، وهكذا التشبه به - صلى الله عليه وسلم - في سائر عاداته، التي لم يقم الدليل على شرعها دينًا لنا، بشرط أن لا يتخذه دينًا؛ لأنه يكون حينئذٍ تشريعًا، وكل مباح يُفعل بنيةٍ صالحةٍ يثاب عليه المؤمن، وقد سبق هذا البحث في المنار من قبل فلا نطيل به. *** مؤلفات ابن تيمية وابن القَيِّم (س ٢٢) ومنه: وهل مؤلَّفات الشيخ أحمد بن تيمية الحراني الحنبلي، والشيخ محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قَيِّم الجوزية صحيحة معتمدة يجوز العمل بها، أم لا؟ أفتونا مأجورين. (ج) : إننا لم نطلع على جميع مؤلفات ابن تيمية، وابن القيم، ونشهد على ما اطلعنا عليه منها أنها من أفضل ما كتب علماء الإسلام هدايةً، وتحقيقًا وانطباقًا على الكتاب والسنة، بل لا نظير لها فيما نعرفه من كتب المسلمين في مجموع مزاياها؛ فإنها أُلفت بعد فشوّ البدع في الأمة، وتعدد العلوم، وكثرة التآليف في المعقول والمنقول، وكان أكثر علماء المعقول مقصرين في علم السنة، وآثار السلف الصالح، وأكثر الحفاظ، وعلماء الرواية مقصرين في العلوم العقلية، فبعُدت الهوة بين الفريقين، وكثر الخلط والخبط في علوم الشرع، حتى جاء أول هذين الشيخين، فكان ممن جمع الله لهم بين سعة العلم والتحقيق في جميع العلوم النقلية والعقلية، من شرعية وروحية ولغوية، وعقلية مع جودة الحفظ وقوة الاستحضار، وملكة الاستنباط، ولا نعرف له نظيرًا في هذا الجمع، وقد خرَّج علماء كثيرين، كان الوارث الكامل له منهم ابن القيم، ولا سيما في العلوم الشرعية فكانت كتبهما كتب إصلاح، وجمع بين المعقول والمنقول وأقوى رد على جميع ما خالف السنة وسيرة السلف الصالح، لا نعرف لها نظيرًا في ذلك، فلو اهتدى بها المسلمون علمًا وعملاً لأماتوا البدع، وأحيوا السنن، وحسنت حالهم في دينهم ودنياهم، ولدخل الناس في دين الله أفواجًا. ولكنهما غير معصومين من الخطأ؛ فقد أنكرنا في تفسير هذا الجزء عبارة للأول تابع فيها غيره من غير أن يتنبه إلى حاجته إلى الاستقلال في الاستدلال عليها، وخالفنا الثاني في مسألةٍ إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى في آخر تفسير سورة الأنعام. ولم يؤلف أحد كتابًا وافقه كل الناس على كل ما فيه، وخير الكتب ما قلَّ فيه الخطأ، على أن كثيرًا من المخطِّئين لغيرهم يكونون هم المخطئين، وغيرهم المُصيب، وما كل مَن أصاب بتخطئة غيره في مسألة أو أكثر - يكون أعلم منه مطلقًا ولا مثله، وإنما العصمة لمَن عصم الله فيما عصم. ولو شئنا أن نؤلف كتابًا حافلاً في فضل مؤلفات الشيخين وشدة حاجة الأمة إليها في هذا العصر لفعلنا. *** أكل الحرام كالربا والقِمَار وإرثه والعقاب عليه (س ٢٣ و ٢٤) - ومنه: رجل جمع مالاً من طرقٍ غير مشروعة كربا وقمار، ولعب بالبورصة (ما يسمونها بالكونتراتات) وغير ذلك، هل يجوز الأكل عنده، وإذا مات وترك أولادًا - يعلمون بحال أشغاله - فهل يكون المال حلالاً للأولاد بالميراث أم لا؟ ، وإذا مات رجل، وعليه ديون، ومظالم لأناسٍ، ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا فما حكمه يوم القيامة؟ وهل يعذَّب في قبره بسبب ذلك، أم عذابه في الآخرة؟ وإذا سامحه أرباب الديون والمظالم في الدنيا فهل يُرفع عنه العذاب؟ وهل يجوز مسامحته في ذلك يوم القيامة أم لا؟ تفضلوا بالجواب، ولكم من الله عظيم الأجر والثواب. (ج) : مَن علم أن مال زيد مِن الناس حرام كله لم يجُز له أن يأكل من طعامه، ولا أن يعامله بهذا المال، ولكن قلما يوجد أحد جميع ماله حرام، ومن ترك لأولاده مالاً يعلمون أنه مغصوب أو مسروق مثلاً، ويعرفون أصحابه فالواجب عليهم رده إليهم. وأما ما لا يُعرف له مالك، والمأخوذ بالعقود الفاسدة شرعًا - كالربا والمضاربات - فيملكونه، وإن كان في الفقهاء مَن يقول بأنها لا تفيد الملك للمتعاقدين بها، فهذا لا يسري إلى مَن تنتقل إليه منهم بسبب شرعي صحيح كالإرث، ولا سيما إذا كان مختلطًًا بغيره غير متميز، فعلى هذا لا يأثم ورثة هذا الميت بأخذ ما تركه لهم إذا لم يقتدوا به في أكل الحرام. والله تعالى يأخذ من حسنات مَن مات وعليه حقوق للناس أو يحمّله من سيئاتهم يوم القيامة، إلا أن يحلّوه منها، وتقدم في تفسير هذا الجزء حديث صحيح في ذلك، وإذا عفا أصحاب الحقوق عنه فعفو الله تعالى عن حقه بمخالفة شرعه أرجى؛ فهو مرجوٌّ غير مقطوع به، ويجوز أن يعذبه عليها في الآخرة، ولم ير أنها سبب لعذاب القبر. هذا جواب إجمالي بالمشهور عند العلماء في المسألتين، والأولى تحتمل بحثًا طويلا في مسألة المال الحرام المختلط بالحلال، نذكر منه على سبيل المثال ما تشتد الحاجة إلى معرفته، فنقول إن مَن علم أن بعض مال زيدٍ حلال، وبعضه حرام، وتميز عنده أحدهما من الآخر وجب عليه اجتناب ما علم أنه حرام كمَن علم أن زيدًا سرق شاة أو ديكًا روميًّا، ودعاه إلى العشاء معه منه، فلا يجوز له أن يجيبه، كما لا يجوز له أن يشتري منه ذلك ويأكله، وأما إذا تعذر تمييز الحلال من الحرام - كالذي يقرض ماله الحلال في الأصل بالربا - فهل يغلب الحرام فيجتنب جميع ماله، أو الحلال فيعد الحرام كأنه غير موجود؟ . لهذه المسألة صور كثيرة مختلفة الأحكام: فالحرام أنواع منه: الظلم المحض كالغصب والسرقة، ومنه المأخوذ بعقود فاسدة مع التراضي كالربا والقمار كما تقدم، والاختلاط إما يكون فيه كل من الحلال، والحرام محصورًا، أو غير محصور، وتجد أحكام هذه الأقسام مفصلة في كتاب الحلال والحرام من الجزء الثاني من كتاب (إحياء علوم) الدين لحجة الإسلام الغزالي، وتجد أيضًا في رسالة الحلال والحرام لشيخ الإسلام ابن تيمية أصولاً وقواعد تفيدك علمًا تفصيليًّا في المسألة، وإننا ننقل هنا بعض ما قاله أبو حامد الغَزَالي في اختلاط الحرام بالحلال غير المحصورين، بعد أن قسَّمه إلى عدة أقسام، وهو: (القسم الثالث) أن يختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر، كحكم الأموال في زماننا هذا، فالذي يأخذ الأحكام من الصور قد يظن أن نسبة غير المحصور إلى غير المحصور كنسبة المحصور إلى المحصور، وقد حكمنا ثَمَّ بالتحريم، فلنحكم هنا به، والذي نختاره خلاف ذلك، وهو أنه لا يحرم بهذا الاختلاط أن يتناول شيء بعينه احتمل أنه حرام، وأنه حلال، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام، فإن لم يكن في العين علامة تدل على أنه من الحرام فتركه ورع، وأخذه حلال، لا يفسق به آكله، ومن العلامات أن يأخذه من يد سلطان ظالم، إلى غير ذلك من العلامات التي سيأتي ذكرها، ويدل عليه الأثر والقياس، فأما الأثر فما عُلم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين بعده؛ إذ كانت أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدي أهل الذمة مختلطة بالأموال، وكذا غلول الأموال، وكذا غلول الغنيمة [١] ، ومن الوقت الذي نهي - صلى الله عليه وسلم - عن الربا، إذ قال: (أول ربا أضعه ربا العباس) ، ما ترك الناس الربا بأجمعهم، كما لم يتركوا شرب الخمور، وسائر المعاصي، حتى رُوي أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باع الخمر، فقال عمر - رضي الله عنه-: (لعن الله فلانًا هو أول مَن سنَّ بيع الخمر؛ إذ لم يكن قد فهم أن تحريم الخمر تحريم لثمنها) - وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن فلانًا يجر في النار عباءة قد غلَّها) ، وقُتل رجل، ففتشوا متاعه، فوجدوا فيه خرزات من خرز اليهود لا تساوي درهمين قد غلها، وكذلك أدرك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمراء الظَّلَمَة، ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع في السوق بسبب نهب المدينة، وقد نهبها أصحاب يزيد ثلاثة أيام، وكان مَن يمتنع من تلك الأموال مشارًا إليه في الورع، والأكثرون لم يمتنعوا مع الاختلاط، وكثرة الأموال المنهوبة في أيام الظلمة، ومَن أوجب ما لم يوجبه السلف الصالح، وزعم أنه تفطن من الشرع ما لم يتفطنوا له -فهو موسوس مختل العقل، ولو جاز أن يزاد عليهم في أمثال هذا لجاز مخالفتهم في مسائل لا مستند فيها سوى اتفاقهم، كقولهم إن الجدة كالأم في التحريم، وابن الابن كالابن، وشعر الخنزير [٢] وشحمه كاللحم المذكور تحريمه في القرآن، والربا جارٍ فيما عدا الأشياء الستة، وذلك مُحال؛ فإنهم أوْلى بفهم الشرع من غيرهم. وأما القياس فهو أنه لو فُتح هذا الباب لانسد باب جميع التصرفات، وخرب العالم؛ إذ الفسق يغلب على الناس، ويتساهلون بسببها في شروط الشرع في العقود، ويؤدي ذلك - لا محالة - إلى الاختلاط. (فإن قيل) فقد نقلتم أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الضبّ، وقال: (أخشى أن يكون مما مسخه الله) [٣] ، وهو في اختلاط غير المحصور، (قلنا) يُحمل ذلك على الشدة والورع، أو نقول: الضب شكل غريب ربما يدل على أنه من المسخ، فهي دلالة في عين المتناول. (فإن قيل) هذا معلوم في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان الصحابة بسبب الربا، والسرقة، والنهب، وغلول الغنيمة، وغيرها، ولكن كانت هي الأقل بالإضافة إلى الحلال، فماذا تقول في زماننا، وقد صار الحرام أكثر ما في أيدي الناس لفساد المعاملات، وإهمال شروطها، وكثرة الربا، وأموال السلاطين الظلمة، فمَن أخذ مالاً لم يشهد عليه علامة معينة في عينه للتحريم فهو حرام أم لا. (فأقول) ليس ذلك حرامًا، وإنما الورع تركه، وهذا الورع أهم من الورع إذا كان قليلاً، ولكن الجواب عن هذا أن قول القائل أكثر الأموال حرام في زماننا غلط محض، منشؤُه الغفلة عن الفرق بين الكثير والأكثر، فأكثر الناس بل أكثر الفقهاء يظنون أن ما ليس بنادر فهو الأكثر، ويتوهمون أنهما قسمان متقابلان ليس بينهما ثالث، وليس كذلك، بل الأقسام ثلاثة قليل وهو النادر، وكثير وأكثر (مثاله) ، إن الخُنثى - فيما بين الخلق - نادر، وإذا أُضيف إليه المريض وجد كثيرًا وكذا السفر حتى يقال المرض والسفر من الأعذار العامة، والاستحاضة من الأعذار النادرة، ومعلوم أن المرض ليس بنادر، وليس بالأكثر أيضًا، بل هو كثير، والفقيه إذا تساهل، وقال المرض، والسفر غالب، وهو عذر عام أراد به أنه ليس بنادر، فإن لم يرد هذا فهو غلط، والصحيح والمقيم هو الأكثر، والمسافر، والمريض كثير، والمستحاضة والخنثى نادر، فإذا فهم هذا فنقول قول القائل: الحرام أكثر باطل؛ لأن مستند هذا القائل إما أن يكون كثرة الظلمة، والجندية، أو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة أو كثرة الأيدي التي تكررت من أول الإسلام إلى زماننا هذا على أصول الأموال الموجودة اليوم. أما المستند الأول فباطل فإن الظلم [٤] كثير، وليس هو بالأكثر؛ فإنهم الجندية؛ إذ لا يظلم إلا ذو غَلَبَة وشوكة، وهم إذا أضيفوا إلى كل العالم لم يبلغوا عُشر عشيرهم، فكل سلطان يجتمع عليه من الجنود مائة ألفٍ مثلاً، فيملك إقليمًا يجمع ألف ألف وزيادة، ولعل بلدة واحدة من بلاد مملكته يزيد عددهم على جميع عسكره، ولو كان عدد السلاطين أكثر من عدد الرعايا لهلك الكل؛ إذ كان يجب على كل واحد من الرعية أن يقوم بعشرة منهم مثلاً مع تنعُّمهم بالمعيشة، ولا يُتصوَّر ذلك، بل كفاية الواحد منهم تجمع من ألف من الرعية وزيادة، وكذا القول في السُّرَّاق؛ فإن البلدة الكبيرة تشتمل منهم على قدرٍ قليلٍ. وأما المستند الثاني: وهو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة، فهي أيضا كثيرة، وليست بالأكثر؛ إذ أكثر المسلمين يتعاملون بشروط الشرع، فعدد هؤلاء أكثر، والذي يعامل بالربا أو غيره، فلو عددت معاملاته وحده لكان عدد الصحيح منها يزيد على الفاسد، إلا أن يطلب الإنسان بوهمه في البلد مخصوصًا بالمجانة والخبث، وقلة الدين، حتى يتصور أن يقال معاملاته الفاسدة أكثر، ومثل ذلك المخصوص نادر، وإن كان كثيرًا فليس بالأكثر لو كان كل معاملاته فاسدة، كيف، ولا يخلو هو أيضًا عن معاملةٍ صحيحةٍ تساوي الفاسدة، أو تزيد عليها، وهذا مقطوع به لمَن تأمله، وإنما غلب هذا على النفوس لاستكثار النفوس الفساد، واستبعادها إياه، واستعظامها له، وإن كان نادرًا، حتى ربما يظن أن الزنا وشرب الخمر قد شاع كما شاع الحرام، فيتخيل أنهم الأكثرون، وهو خطأ؛ فإنهم الأقلون، وإن كان فيهم كثرة. (المنار) لكلام الغزالي هذا بقية نفيسة، فيها مباحث في الحكومة، والمصلحة العامة، وعمران الكون ونظريات الاشتراكية وأهل الورع والزهد.