للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مؤتمر لوزان
للصلح في الشرق

انعقد مؤتمر الصلح في لوزان، وبرز في ميدانه قائده العام لورد كيرزون
وزير الخارجية البريطاني يقاتل الوفد التركي بسيفين: سيف الاتحاد الأوربي في
يمينه، وسيف الاتحاد البلقاني في شماله، ومن ورائهما العالم المسيحي في أوربة،
وأميريكة، يظاهره على تأليف أوطانٍ خاصةٍ للأقليات المسيحية في الوطن التركي
الصغير - الأرمن، والروم، والآشوريون، والكلدانيون - كلهم مسيحيون يجب
أن يكون لهم أوطانٌ في قلب البلاد الإسلامية، ولا سيما الدولة التركية، يمتازون
فيها بلغاتهم وتقاليدهم الدينية والمدنية، التي كانوا بها حربًا لدولتهم العثمانية، وسببًا
من أسباب سقوطها، كما ظَاهَرَ دولته هذا العالم كله على تأسيس وطنٍ لليهود في
قلب البلاد العربية (فلسطين، أو سورية الجنوبية) .
إذا قال الترك: إننا نريد أن نعيش أحرارًا مستقلين في عقر دارنا، وهو
جزء صغير من سلطنتنا (إمبراطوريتنا) الواسعة التي سلبتموها منا، فالعدل
والحق أن نكون فيها مثلكم في بلادكم، وديننا وقوانينا توجب علينا أن يكون
للمخالفين لنا في الدين من المشمولين بسيادتنا مثل ما لنا من الحقوق، وعليهم ما
علينا، وماضينا يشهد لنا بتسامحنا - قالت الدول الأوربية القوية: كلا، إنكم قوم
متعصبون تريدون ظلم المسيحيين! ، فإذا قال الترك لهم: إذا كان ما تتهمونا به
من الظلم قبيحًا ومحرمًا، فلماذا تظلمون المسلمين؟ ! ، وقد بحَّت أصواتهم،
وحفيت أقدامهم، وأقلامهم من تكرار التظلُّم، والاستغاثة، ولا منصف، ولا مغيث-
قالوا: إن المسلمين متعصبون يستغيثون من العدل والرحمة المسيحية التي
نعاملهم بها، فلا يقبلونها! ، وأما المسيحيون عندكم فهم يشكون من ظلم حقيقي
إسلامي! ، مثال ذلك - وهو قليل من كثير - أننا رحمنا عرب فلسطين المسلمين
فأعطينا وطنهم لليهود، وجعلنا حكومتهم يهودية في ظل عدالة الدولة البريطانية؛
لأجل أن يعمروا هذا الوطن، ويرقوا فيه الحضارة، وينمُّوا الثروة، فيعيش العرب
في ظلنا وظلهم ناعمين متمتعين بالحضارة واللذات! ، فحملهم التعصب والجهل
على الشكوى من هذه الرحمة بدلاً من الشكر على هذه النعمة، وهكذا نريد أن نرحم
الأرمن في الأناضول، والآشوريين في العراق! ! !
قد حذقت دول الاستعمار الأوربية هذه السياسة، ومَرَدت عليها، وكادت
تقضي على الشرق كله بها، ولولا الاختلاف بينهم على تقسيم بلاده لما بقي لهذا
الذماء من الاستقلال الضعيف المهدد فيه عين ولا أثر، والفضل الأكبر للنهضة
التركية الجديدة أن قادتها قاؤوا ما أوجرتهم سياسة أوربة من سم اليأس، وكشفوا ما
وضعته على أبصارهم من غشاوة الوهم، واحتقروا الموت في سبيل حريتهم، فهم
قد أجمعوا أمرهم على سد منافذ السيطرة الأوربية السابقة عليهم وشرها ما تمتعوا به
من الامتيازات، وما استغلوه من حماية المسيحيين، وحقوق الأقليات، ودسائس
المدارس والجمعيات، وتصرف المصارف والشركات.
ولكن الترك قد عرفوا من أوربة ما لم يعرف عرب الحجاز وسورية،
والعراق، الذين يبيعوهم زعماؤهم للأجانب، ويمُنُّون عليهم معهم بالتحرير من
الاسترقاق؛ زاعيمن أن المشتري الجديد خير من الشريك التليد! ، وأنهم سيقنعونه
بالكلام على جعْلهم شركاء له في الأحكام وجعْل الرق وسيلة للحرية، والانتداب
ذريعة للاستقلال التام.
عرف الترك أن هذه الدول لا تعرف حقًّا إلا للحسام، ولا مستحقًّا للحرية إلا
المحتقِر للموت الزؤام، وسيرى اتحاد دول الحلفاء الكبرى ودول البلقان الأخرى
أنهم لا يرهبون اتحادهم، ولا يرجعهم التهديد والوعيد عن إصرارهم على تحرير
بلادهم، فإما أن يضطر الاتحادان العظيمان إلى احترام ميثاقهم، والاعتراف لهم
بمساواة أعظم دولهم، وإلا أعادوها إليهم - أي الحرب - جذعة، وذلك ما تأباه
أُمَمهم، فإنها ملَّت القتال، وبذل الأموال، وسيكون الفوز للترك أعداء الحلفاء،
والخسار والعار على مَن محضوهم الود والولاء.
يعلم الحلفاء علم اليقين أن الترك في أشد الحاجة، بل الاضطرار إلى الصلح؛
لأن شعوب أوربة حاربت أربع سنين؛ فأنهكتهم الحرب، وأفنت ثرواتهم العظيمة،
والترك حاربوا عشر سنين - على قلتهم وفقرهم - فهم أحوج إلى الراحة،
وسلامة مَن بقي من رجالهم، والانصراف إلى عمارة ما خربت الحرب من بلادهم.
ويعلم الترك علم اليقين أن شعوب أوربة كلها سئمت الحرب وخسارتها، فلا
يسمح شعب منهم لدولته بتجديدها لأجل الإجهاز على الترك، بل لا ترغب دولة من
دولهم بالقضاء الأبدي على دولة الترك إلا إنكلترة، وليس من مصلحتها الانفراد
بحربهم لمكانتهم من العالم الإسلامي المضطرب، ومن الروسية البولشفية، وما
يستطيعان من التأثير في الشرق الأدنى كله، حيث حياة إنكلترة وعظمتها، ولكنها
لو علمت أن الترك غير مستعدين للحرب لاستطاعت أن تحرمهم من ثمرة النصر،
وتراوغهم إلى أن تُخضعهم الحاجة والفقر، فلا مندوحة لهم إذًا عن التهديد بالحرب
إذا تعذر أن ينالوا حريتهم المطلقة بالسِّلم.
فإن قيل - بل قيل - كيف يحاربون في عدة ميادين للحلفاء والبلقانيين؟ -
فنقول: إن فرنسة وإيطالية لا تحاربان الترك وروسية تساعدهم على البلقانيين
والإنكليز، وهم قادرون على أخْذ العراق بفرقة واحدة من جيشهم؛ لأن أهلها لا
يحاربونهم لأجل الدولة البريطانية، وهم يعلمون أن معاهدتها مع الملك فيصل
خديعة استعمارية، ومن أدلتها أنها لم تسمح لهم بجيش عربي عراقي؛ ليظلوا عالة
عليها، وقد خلقت لهم أقليات مسيحية، جعلت لها جندًا خاصًّا؛ لأجل منْع الوحدة
الوطنية، فهل يسمح مجلس العموم الإنكليزي للورد كرزون المتعصب عدو الإسلام
بمئات الملايين من الذهب، ومئات الألوف من الجند؛ ليقاتل به الترك في الموصل،
ويحتفظ بالعراق؟ ، المعقول: لا، وعلم الغيب لله تعالى.