(الاحتفال بتذكار محمد علي باشا) في يوم الأربعاء الماضي تم لتأسيس محمد علي باشا هذه الإمارة في مصر مائة عام هجري فاحتفل ديوان الأوقاف بذلك في جامع القلعة وكذلك احتفلت به مشيخة الأزهر في الجامع الأزهر، ومن بدع الزمان وغرائب الأيام أن يحتفل في بيوت الله تعالى بذكر الأمراء والسلاطين والظلمة من الحاكمين، وهي البيوت التي أذن الله أن ترفع عن الحظوظ الدنيوية ويذكر فيها اسمه وحده تقربًا إليه وابتغاء مرضاته لا لذكر أمير ميت ولا لمرضاة أمير حي. فلماذا تنفق أوقاف المسلمين على إحياء البدعة ومخالفة السنة؟ ولماذا لا تكون أمثال هذه الاحتفالات في قصور المنعمين كعابدين ورأس التين؟ فمحمد علي لم يؤسس دينًا ولم يكن إمام مذهب في دين وإنما أسس ملكًا عضوضًا بسفك الدماء والقوة والجبروت، هذا هو محمد علي في نظر الدين، والحكمة في الاحتفال بذكره والإشادة بحمده في بيوت الله تعالى دون بيوت الحكومة يعرفها جميع الناس. أما محمد علي في نظر التاريخ فهو من الرجال العاملين الذين يحفظ التاريخ فضلهم؛ لأن التاريخ سياسي أكثر مما هو ديني أو علمي، وقد جرت العادة أن يتملق الناس للأمراء بمدحهم ومدح سلفهم وجعل سيئاتهم حسنات، فإنك ترى العالم الديني الذي يحكم بكفر من يحكم بالقانون وظلمه وفسقه يقدس من وضع القانون باسمه ويحكم فيه بأمره فمدح الأمراء والسلاطين وأصحاب الجاه أكثره كذب، والمادح محل التهمة، والمنتقد لهؤلاء أقرب إلى العدل والإنصاف وإن احتمل أن يكون له هوى في بعض الأحوال، وإننا نقول في تاريخ محمد علي كلمة عادلة نرجو أن يتلقاها كل عاقل بالقبول وهي: إذا ذكر الرجل بأعماله فلمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة وهي: (١) تأسيس حكومة في بلاد مصر كانت مقدمة لدخول الأجانب فيها واحتلالهم إياها. و (٢) محاربة الدولة العثمانية وإظهار ضعفها للبرية. و (٣) محاربة الوهابية وخضد شوكتهم وإبطال امتداد دعوتهم. وكل عمل من هذه الأعمال محل نظر الناس من بعده له، ومنهم من يعده عليه وهم الأكثرون أو المحققون. أما الأول فالمكبرون لأعماله يتوسعون فيه ما شاءوا؛ لأن المجال واسع أمامهم فيذكرون إزالة دولة المماليك الظالمة الغاشمة وهو عمل جليل، ولكنهم يستدلون بذلك على أن دولته كانت عادلة وهذا غير صحيح، فإن حكومته كانت ظالمة منذ أسست إلى أن تولى الأوربيون السيطرة عليها فكان الظلم يقل كلما كثروا والبغي يضعف كلما قوي نفوذهم ولكن الحسن في إزالة دولة المماليك من وجهين: أحدهما: أن الظلم كان مشوشًا وحكومة محمد علي وأبنائه نظمته وكان متفرقًا فوحدته وكان غير محصور فحصرته. وثانيهما: أن نتيجة هذا النظام وهذه الوحدة هي تمهيد السبيل لدخول مدنية أوروبا في مصر والأعمال إنما تمدح وتذم بنتائجها وغاياتها والعاملون إنما يمدحون بحسن القصد والنية وبإتقان العمل، فأما محمد علي فقد أتقن عمله ولكن قصده لا يحمد في نظر الدين ولا في نظر الفضيلة وإنما يحمد في نظر متاع الحياة وزينتها؛ لأن سيرته الملطخة بالدماء المحترمة تدل على أنه لم يكن يقصد غير الملك وعظمته له ولذريته من بعده. وأما نتيجة عمله - فهي كما قلنا - دخول الأوربيين هذه البلاد ونشر مدنيتهم فيها وإلقاء سيطرتهم عليها بالاحتلال الإنكليزي، فمن يرى أن هذا خير وسيلة لنجاح البلاد وسعادتها فعليه أن يحمد عمل محمد علي وآل بيته مهما ظلموا في الأموال والأعراض؛ لأن الإصلاح الكبير لا يأتي إلا ببذل الثمن الكثير، ومن يقول: إن مدنية أوروبا شر على البلاد وأن الإصلاح الإنكليزي بلاء عليها ووبال، فليحكم على عمل محمد علي وذريته بالإفساد وليحفظ له سوء الذكر إلى يوم التناد. وأما العمل الثاني وهو الخروج على الدولة العثمانية ومحاربتها وقهرها وإظهار ضعفها، فلو سألت عنه أي مسلم في أي قطر لأجابك بأنه كان أضر عمل عمله إنسان على الإسلام والمسلمين؛ لأنه في ذاته خروج والٍ على موليه وسلطانه وتلك أكبر الخيانات، وأقبح الجنايات في الشرائع الإلهية، وفي القوانين البشرية. وفي نتيجته إضعاف وقهر لأقوى دولة إسلامية، في عصر قويت فيه الدول الأجنبية، فضعف بذلك الإسلام، ولم تقم لأهله قائمة بعد ذلك إلى الآن، ولكنك لا تعدم ثلاثة نفر أو ثلاثين من الثلاثمائة المليون المسلمين يعتذر عن عمله أو يعده فضيلة ومحمدة. فأشد هؤلاء المدافعين أَفَنًا في الرأي وصغارًا في النفس من يقول: إن الدولة العلية لم تكن مرتاحة لاستقلاله، فكانت تدس الدسائس لزلزاله؛ أي: إنه انتقم لنفسه من دولته، وحاربها لتمكين سطلته، ومن الناس من يقول: إن تلك الحرب كانت بمواطأة بين محمد علي ورجال الدولة العلية في الأستانة وأنهم هم الذين مكنوا له في أرض مصر ليخرج على الدولة، وأنه كان غرضهم الأخذ على يد السلطان محمود وتخفيف سلطته الاستبدادية ومنعه من سفك الدماء، وعزل العمال والوزراء بمجرد الهوى. وأما العمل الثالث وهو محاربة الوهابية فأكثر العامة أو كلهم يعتقدون أنه كان خدمة للإسلام، كفرت عن محمد علي جميع الذنوب والآثام، أما الخواص فإنهم يعلمون أن الوهابية كانوا قائمين بإصلاح إسلامي لو تم لعاد للإسلام مجده الأول وأن الذين وسوسوا لمحمد علي بمحاربتهم هم الأوربيون الذين ينظرون إلى غايات الأمور وعواقبها كما هو مصرح به في بعض تواريخهم، وأما ما شاع في بلاد الشام والحجاز من أن الوهابية خارجون عن السنة وملحقون بأهل البدعة فسببه بعض المصنفات التي لفقها العلماء الرسميون المصانعون للحكام وهي مملوءة بالأكاذيب، وإنما مذهب القوم مذهب السلف في العقائد مذهب الإمام أحمد في الفروع ولهم تشديد عظيم على مخالف السنة. هذا هو اعتقاد الخواص، وهم يقولون: إن هذا العمل الثالث هو أكبر سيئات محمد علي وأنه به وبما سبقه كان أكبر بلاء على الإسلام والمسلمين في القرن الماضي. * * * (مكتوب عالم هندي من أركان النهضة الإسلامية) كتب إلينا العلامة العامل، والسري الكامل، محسن الملك بهادر سيد مهدي علي خان ناظم مدرسة العلوم (في على كده) وكان انقطع المنار عنه؛ لأن جزءًا ردّ إلينا مما أرسل إليه لخطأ في عنوانه فتوهمنا أنه هو الذي ردّه فمنعناه فكتب إلينا يقول بعد رسوم المخاطبة ما نصه: (كانت ترد علينا في الأعوام الخالية مجلتكم الغراء وكنا نقرأها بشغف وفرحة لا مزيد عليهما، ونستفيد من مقالاتها الصافية العلمية الدينية الإسلامية في الرد على المنكرات والبدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا عامًّا، ويسرُّنا ما لاح لنا من تآلف الأذواق وتوارد الخواطر بيننا وبينكم فإننا أيضًا قد بذلنا جهدنا منذ عشرين عامًا في إيقاظ المسلمين من نوم الغفلة التي غرقوا فيها حتى أضاعوا كل ما كان في أيديهم من العلوم والفنون والحكم والصنائع واتخذوا دينهم هزؤًا ولعبًا، فأصبحوا كأنهم قوم لا يعقلون. فأخذنا ندعوهم إلى الانتباه من منامهم الذي سبب امتهانهم لأجل تأخرهم عن الأقوام الذين كانوا شركاءهم في الوطنية بالمقالات المشتهرة في الجرائد والمجلات، والخطبات والتصنيفات والتأليفات، لتنبيههم واستنهاض هممهم على الأعمال النافعة، كتحصيل العلم حسب مقتضيات الزمان وتعلم اللغة الإنكليزية (في الأصل اللسان) التي هي لغة حكامنا العادلين مع الإقبال على تحصيل العلوم الجديدة المغربية، والنظر في شئون حياتهم الاجتماعية وأمورهم الدينية والالتفات إلى إصلاحهم من كل الوجوه. ولكننا نقول بأسف زائد: إن جميع مؤلفاتنا ومصنفاتنا ورشحات أقلامنا كلها في لغتنا الأوردية، (وفي الأصل لساننا) التي لا تكاد تفهم في البلاد الأجنبية، وإلا كان بودي أن نرسل إليكم بعض مؤلفاتنا. أما الآن فالمرجو من حضرتكم أن تفضلوا وتراسلوا بإرسال مجلتكم الغراء ولا تقطعوا عنا إرسالها. ونثني ثناء جميلاً على غيرتكم الدينية وشغفكم بالاجتهاد في إصلاح حال المسلمين وإرجاع مجدهم وحثهم على أسباب التقدم الملية والقومية. وقد سرني ما شاهدت في مجلتكم من المقالات البديعة البالغة حد الإعجاز، المطابقة لذوقي تمامًا وكمالاً. فبهذا تعرفون ما يناسب ذوقي من الكتب؛ لأن ما وجدتم أنه تلذكم مطالعته فلا بد من أنه يلذني أيضًا، فالرجاء أن ترسلوا إلينا من أمثال تلك الكتب، منها مصنفات حضرتكم ومصنفات حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده المصري صاحب رسالة التوحيد وغير ذلك من الكتب المفيدة ... إلخ. فنشكر لهذا الأستاذ حسن ظنه ونسأل الله أن يوفقنا جميعًأ لما يرضاه.