للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: رفيق بك العظم


قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام [١]
أيها السادة:
كلمتي اليوم في قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام، وحيثما قلت قضاء
الجماعة فإنما أريد مدلوله العام أي القضاء والإفتاء والتشريع أو التفريع.
تعلمون أن كفالة العدل الذي هو مناط الراحة والسعادة في كل مجتمع إنما هو
القانون أو الشريعة التي تُصَان بها الحقوق، وتُرَد المظالم، ويعاقب المجرمون
المجترءون على انتهاك حرمة الراحة والأمن في الهيئة الاجتماعية، وهذه القوانين
إما أن تكون وضعية أو شرعية، وقد عرَّفها ابن خلدون بقوله:
(اذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت
سياسية عقلية؛ وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسية
دينية) ، وتعلمون أن الفقه الإسلامي، وأريد به قسم المعاملات لا العبادات هو قانون
المسلمين الشرعي مناط الأحكام التي يفصل بها في المنازعات والخصومات التي
تقع بين الناس.
أقول القانون الشرعي تجوزًا؛ إذ أن أحكام الشريعة الإسلامية وقانونها
الجامع إنما هو الكتاب والسنة وهما الأصل، أما الفقه فإنما يسمونه شرعًا باعتبار أن
مأخذه من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والإجماع والقياس فإذا انطبق عليه تعريف
ابن خلدون فإنما ينطبق عليه من هذه الجهة؛ أي أن تلك القوانين لها أصل في
الشرع؛ لأ انها هي بعينها المفروضة من الله.
وبما أن أساس التفريع أو التشريع عند الفقهاء هذه الأصول الخمسة فقد سموا
الأحكام الفقهية شرعًا، وخالفهم في ذلك كثير من أئمة العلم والمحدثين، فقالوا: كل
حكم لا يستند إلى دليل أو لا يعرف دليله من الكتاب أو السنة فليس بشرع.
وليس من غرضي في هذا البحث الحكم بين الفريقين، وإنما الغرض منه
تقديم مقدمة تساعدنا على الانتقال إلى النظر نظرًا صحيحًا في سير القضاء وتأريخه
وكيف كان القضاء والإفتاء في الإسلام؟ وما هو ضمان العدالة فيهما؟ وما منزلة
قضاء الفرد وقضاء الجماعة من الصواب والخطأ؟ ونستطرد من ثَمَّ إلى ما تخلل
التشريع والقضاء من الشؤون التي لا يخلو بيانها من فائدة وإن كنت لا أستطيع من
البيان غير جهد المقل.
علمنا أن أساس الشرع وأصله في الإسلام هما الكتاب والسنة؛ بمعنى أن
الأحكام الدينية أي العبادات والقوانين الدنيوية أو السياسية كما يسميها ابن خلدون
وهي أحكام المعاملات والعقوبات التي وردت في الأصلين المذكورين قد قرّرها
الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم فصارت شرعًا، وهذا الشرع لا يدخل تحت
مدلول قضاء الجماعة المراد به جعل قوة التشريع لا في يد واحد، بل جماعة إلا
من حيث لزوم فهمه على وجوهه التى أرادها الشارع اى إنّ تفهم الحكم من هذا
الأصل، وتقريره هو الذي يلزم أن يناط بالجماعة دون الفرد تفاديًا من الخطا
والإثم٠
وتعلمون بالضرورة أن الأحكام التي شرعها لنا الشارع كانت تشرع تدريجًا
فكلما عرضت له حادثة، أو سئل عن حكم شرع له شرعًا حتى كان من ذلك في
الكتاب والسنة نحو ست مائة وخمسين حكمًا أو تزيد اعتبرها أئمة الفقه بعد ذلك
أساسًا للتشريع فوضعوا لنا كتب الفقه التي كانت في الممالك الإسلامية، ولم تزل
في بعضها مدار الأحكام الشرعية في المعاملات والعقوبات، وما يتبعها من قضاء المظالم والحسبة وسياسة الرعية وغير ذلك إلى اليوم.
ويبدأ تدوين الأحكام الفقهية من أواخر العصر الأول وأوائل الثاني فالتشريع إذًا
له في الإسلام تأريخان: تأريخ تقرير أصول الشريعة والعمل بهذه الأصول،
وتأريخ التفريع أو الفقه والعمل به. يتخلل ذلك أيضًا تأريخان: تأريخ حفظ
الشريعة في الصدور، وتأريخ قيدها في الدفاتر والسطور.
ولبيان ذلك وبيان كيف كان يقضي الصحابة والتابعون أقول: علمنا أن أساس
الأحكام ومدارها ومعوَّل القضاء في الصدر الأول كان على الكتاب والسنة، أما الكتاب
الكريم فقد كتب متفرقًا في عهد النبوة في خلافة أبي بكر كما هو معروف مشهور،
وأما السنة السنية فقد بقيت محفوظة في الصدور إلى أواخر عهد التابعين أو كتب
منها في غضون هذه المدة شيء يسير.
فكان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين ملازمًا للإفتاء بالضرورة؛ لأن القضاء
كان إلى الخليفة وهو لا يحفظ الأحكام التي وردت عن الشارع كلها؛ بل كان كثير
من الصحابة يحفظ كل واحد منهم شيئًا منها فاستفتاؤهم في معرفة الحكم ضروري
وإليكم ما روي عن قضاء أبي بكر وعمر.
أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم
نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب
وعَلِمَ من رسول الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب
وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين،
وقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع
عليه النفر كلهم يذكر من رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فيقول أبو بكر:
الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ من نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن
رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإن أجمع رأيهم على أمر قضى
به وكان عمر يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي
بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس المسلمين
فإذا اجتمعوا على أمر قضى به) .
هذه رواية البغوي عن قضاء أبي بكر وعمر، ومنها يتضح أن القضاء في
عهدهما قضاء الجماعة، وعليه يقاس قضاء من بعدهما من الخلفاء الراشدين في
الدور الأول لتأريخ القضاء في الإسلام أي إلى العهد الذي بدأ فيه التدوين والعمل
بالفروع؛ بدليل أنه كان في كل مِصْرٍ من الأمصار الإسلامية نفر من الصحابة ثم
التابعين يسمون الفقهاء لحفظهم الأحكام، وتفقههم في الدين، وكان يُسْتشارون في
النوازل عند القضاء فيها؛ لأنهم حُفَّاظ الشريعة والراوون للأخبار الصحيحة، فلا
مندوحة عن الرجوع إليهم في القضاء.
ومن الفقهاء الكبار في الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس
وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن
ثابت وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل ومن في طبقتهم ممن
يحفظ عن رسول الله قليلاً أو كثيرًا.
وقال ابن القيم: إن عدد من حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مئة ونيف
وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة، وكان أكثر هؤلاء موزعين في الأمصار
بالضرورة، وهم شورى القضاء حيثما وجد منهم جماعة يستشارون كما أثبت ذلك
التأريخ، وتلى هؤلاء طبقة أخرى من أصحابهم وهم التابعون صارت إليهم الفتوى
في الأمصار فكان في المدينة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد
وخارجة بن زيد إلى غير هؤلاء , وتليهم طبقة أخرى منهم محمد بن شهاب
الزهري المشهور وأضرابه وطبقة أخرى فيهم الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب
في المدينة، وكان من المفتين في مكة عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان
ومجاهد بن جبر وغيرهم وتليهم طبقة ثم طبقة إلى قيام الإمام محمد بن إدريس
الشافعي صاحب المذهب في مكة.
وكان من المفتين في البصرة عمرو بن سلمة الجرمي وأبو مريم الحنفي
والحسن البصري وغيرهم وتليهم طبقة فطبقة، وعلى هذا تقاس بقية الأمصار
كالكوفة ومصر والشام وغيرها، وكلها كان فيها العدد الجم من التابعين يستشارون
في الأحكام ويتناقلون الشريعة حفظًا في الصدور إلى أن دونت في السطور.
إذا أضفنا إلى هذا أن رسول الله شرع لهم الاجتهاد عند عدم وجود النص،
وأن أبا بكر وعمر كانا لا يجتهدان في مسألة إلا إذا جمعا رؤوس الناس وخيارهم
لاستشارتهم، وحكمنا أن بقية الخلفاء الراشدين كانوا كذلك وقسنا على ورعهم ورع
من بعدهم من التابعين وتابعيهم واتباعهم سنن من قبلهم خوفًا من تبعة التفرد بالرأي
واعتصامهم بالشورى مع أهل العلم والحديث بدليل ما رواه عن قضاة الجماعة في
عصرهم ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن المسيب بن أبي رافع الأسدي المتوفى
سنة ١٠٥هـ قال: كان إذا جاء شيء من القضاء ليس في الكتاب ولا السنة سمي
(صوا) في الأمراء فيرفع إليهم فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق
إذا أضفنا هذا كله إلى ما سبق بيانه نتج لنا منه أن القضاء في العصر الأول كان
قائمًا بالشورى أو هو قضاء الجماعة الذي فيه كفالة الحقوق وتحري العدل والحق
وهو خير من قضاء الفرد وأبقى لسعادة الأمة وأضمن لبقاء الدول بلا ريب.
ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما
قد يتبادر إلى الذهن؛ بل هي بالمعنى المشترك أيضًا جعل قوة التشريع القضائي
مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتًا من الحكم
واطمئنانًا للدليل واعتمادًا على ما هو الأصلح عند الجماعة؛ إذا تعذر وجود النص.
إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد الشرع الإسلامي التي يُدفع بها الحرج
وتُدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند
الضرورة مع وجود النص كما يأتي بيانه بعد، ويتنازعون على المسألة الواحدة
يجيء بها النص من عدة روايات، أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتًا من الحكم
ورغبة بمحض الخير للأمة، والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة
للمستفتين، وقد قال ابن القيم: (تنازع الصحابة في كثير من الأحكام، ولكن لم
يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، أي المسائل التي
تتعلق بالإيمان) .
قلنا: إن المراد بقضاء الجماعة قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد؛
لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ، وأضمن للعدل، وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها
إلى الرأي والاجتهاد والقياس عند تعذُّر وجود النصر أو عند لزوم ترجيح رواية من
الروايات تحتاج إلى شروط قلَّما تتوفر في الفرد الواحد، وإن توافرت له فربما لا
يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من وجهه بحيث لا يخالفه فيه غيره
ممن هو في طبقته من أهل العلم.
اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في
تقرير فروع المذهب وأصوله متنهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار،
وتتبع أصول الشريعة، فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف أتباعهم بعد
ذلك اختلافهم أيضًا فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي على نفسه حتى وجد في
بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مِصْرٍ واحد من الأمصار الإسلامية
هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضًا في المسألة الواحدة، حتى أصيب
الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطراب أمر العدالة أيما
اضطراب، مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين.
لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم
أن يحيل بعضهم إلى بعض في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف
الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم، ولا سيما فيما يحتاج إلى الاجتهاد ما
يستشير خاصة المسلمين.
قلت - فيما سبق -: إن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم شرع لنا مراعاة
المصلحة، ولو مع وجود النص واقتدى به الصحابة الكرام في العمل بهذه القاعدة
وبيانًا لهذا أقول:
لما كانت الشرائع مبنية على درء المفاسد وجلب المصالح، والشريعة
الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقط سن الشارع إيقاف العمل
بالنص مراعاة للمصلحة، ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت المصلحة ولزومها
على وجه لا يقبل الشك في أن المصلحة التي تترتب على العدول عن النص أكثر
من المصلحة التي تترتب على العمل به واستن بسنته صحابته والخلفاء الراشدون
من بعده فكان ذلك شرعًا أيضًا فيه تيسير عظيم على المسلمين، وإليكم
الدليل:
في حديث لأبي داود أن رسول الله نهى أن تقطع الأيدي في الغزو، وأنتم
تعلمون أن القطع حد من حدود الله لم يستثن النص القرآني منه الغزاة لكن النبي
نهى عن إقامته في حالٍ مخصوصة خشية أن ينشأ عنه مضرة؛ وهي لحوق صاحبه
بالعدو وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم عدة أخبار أخرى من هذا القبيل لا محل
لذكرها هنا وهي مبسوطة في كتب الحديث.
وقد استن الصحابة بسنته وأوقفوا الحدود في أحوال مخصوصة تدعو إليها
الضرورة.
جاء في كثير من كتب الأخبار أن عمر كتب إلى الناس: ألا لا يجلدن أمير
جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًّا ووهو غاز حتى يقطع الدرب لئلا تلحقه
حمية الكفار.
وروى ابن القيم في (إعلام الموقعين) : عن ابن حاطب بن أبي بلتعة أن
غِِلمة لأبيه سرقوا ناقة لرجل من مُزينة فأتى بهم عمر فأَقَرُّوا فأرسل إلى عبد
الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: إن غِلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مُزينة
وأقروا على أنفسهم فقال عمر: (يا كُثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى
بهم ردهم عمر؛ ثم قال: أما والله لولا أنى أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى
إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم، وأيم الله إن لم أفعل
لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال يا مُزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال بأربعة مئة قال
عمر أي (لعبد الرحمن) اذهب فأعطه ثمان مئة) .
وغير هذا فقد أسقط عمر الحد في عام المجاعة للضرورة وتجاوز أبو بكر عن
خالد بن الوليد في حادثة مالك بن نويرة إذ قتله دون تثبت من إسلامه كما تجاوز عنه
رسول الله قبل ذلك بما صنعه ببني جذيمة لما أرسله داعيًا لا محاربًا، فذهب
إليهم وحاربهم وقتل وسبى منهم فبرئ رسول الله من عمله إلى الله، ولم يؤاخذه به،
وما ذلك إلا لحسن بلاء خالد في الحروب وخدمته العظيمة في الإسلام.
وكذلك أسقط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن في حرب القادسية في
خبر مشهور طويل لا محل لذكره هنا، وقال: (والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى
للمسلمين ما أبلاهم) .
والشواهد على هذا من أعمال النبي وأصحابه كثيرة لا يتسع لها مقام الخطابة
ولعل هذه القاعدة سوغت بعد لبعض الحكومات الإسلامية التجاوز عن الحدود
والعقوبات البدنية كالسن بالسن والعين بالعين واستبدلت بها العقوبات الأدبية
كالحبس والتغريم مثلاً لضرورة تغير الزمان، أو لفشو المنكرات فشوًا لم ينجع في
تأديب مرتكبها إلا حبس حريتهم في السجون أو غير ذلك من الدواعي والأسباب
الزمانية.
ليس فيما ذكر غض من مقام الشريعة، أو مس لأصولها المقدسة ما دام من
أصولها وقواعدها أيضًا العدول عن النص عند ثبوت المصلحة أو درء المفسدة بأقل
ضررًا منها، والشريعة كما تعلمون مبنية على المصلحة، وقد سبق الله تعالى رسوله
والأئمة من بعده إلى تقرير قاعدة مراعاة الأصلح وهو ما يسمونه النسخ وما هو بنسخ
وإنما هو تقرير حكم اقتضته مصلحة زمان، وحال غير حكم آخر في زمان تقدمه
وأحوال اقتضته كحكم جهاد المشركين من العرب في مبدأ أمر الدعوة لحمايتها
وحماية المسلمين من أعدائهم وأعدائها وفيه الإذن بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم
تقرير حكم آخر بعده أي بعد أن انتشرت الدعوة، وقوي جماعة المسلمين،
وصاروا في مأمن من غائلة الضعف، وهو حكم الدعوة بالتي هي أحسن كما في قوله
تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: ١٢٥) ؛
وقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) ، وقوله:
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: ٩٩) ؛ إلى غير ذلك من الآيات
الكثيرة.
وكحكم النهي عن الصلاة في حال السكر في قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: ٤٣) .
وكان هذا في أحوال اقتضته ثم جاء حكم التحريم بتاتًا في أحوال اقتضته
أيضًا.
وبالجملة فإن ملخص ما تلوته عليكم ينحصر كله في المقدمات الآتية:
(الأولى) إن القضاء في العصر الأول كان مرجعه نصوص الشريعة أي
أصولها التي قررها الشارع واجتهاد الصحابة والتابعين فيما لم يرد به نص.
(الثانية) إن الأحكام التي جاءت عن الشارع لم يكن في استطاعة فرد واحد
حفظها أو يتعذر على الواحد الإحاطة بها فاحتيج في القضاء إلى استشارة
حفاظها.
(الثالثة) إن الصحابة كانوا قد يختلفون في المسألة الواحدة، إما في تطبيق
النصر أو مسوغ الحكم إذا كان اجتهاد تثبتًا من وضع الشيء في محله جهد
الإمكان.
(الرابعة) أنهم كانوا يعدلون عن النص عند الضرورة الداعية، وفي أحوال
مخصوصة تدعوا إليها المصلحة التي بني عليها الشرع اقتداء بالشارع.
(الخامسة) إن ورعهم وتقواهم وخوفهم من الوقوع في الإثم كل هذا كان
يدعوهم إلى عدم الانفراد بالحكم ومشاركة خيار المسلمين وعلمائهم في تطبيق
الأحكام إذا كانت اجتهادية على القياس الصحيح أو الرأي السالم من خطأ الفرد.
هذه المقدمات تنتج نتيجتين مهمتين: احداهما أن القضاء في الإسلام كان
قضاء الجماعة لا قضاء الفرد على نحو ما سبقت الإشارة إليه كثيرًا.
والثانية: أن الشريعة الإسلامية بما تَقرَّر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية
الأصلح كانت من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان، وتجيز لكل ضرورة حكمًا
يوافق مقتضى المصلحة والحال، وإن خالف النص مع اعتبار هذه القاعدة شرعًا
أيضًا خلافًا لما يتقوله عليها المتقولون من أنها شريعة ضعيفة توافق زمانًا غير
زماننا هذا، ومكانًا غير مكان الأمم الراقية لهذا العهد فهي إذا صلحت لأهل ذلك
العصر لا تصلح لعصر تسير شرائعه مع مقتضيات المدنية الحديثة، وحاجتها سيرًا
تدريجيًا في كل ما يقتضيه ترقي المجتمعات.ومنشأ تقولهم هذا الجهل بحقيقة
الشريعة الإسلامية، وعدم الوقوف على أصولها وقواعدها وكلياتها يساعدهم على
ذلك ما يرونه من تعصب بعض علماء الشريعة المقلدين لما جاء في كتب
الفروع دون الأصول، وردهم لكل ما لم يَرِدْ فيها مِن أسباب التيسير، وإن ورد
في أصول الشريعة وكلياتها مع أن في كتب الفروع من الأحكام التي لا تستند إلى
دليل قطعي ما لا يعد، ومبناها الاجتهاد أو الرأي والقياس، ومع هذا فإنهم يفضلون
العمل بهذه الأحكام على الرجوع إلى أصل الشريعة مهما كان فيها من التقليد
والتضييق على أنفسهم والأمة، ومهما ترتب على ذلك من التهم الباطلة التي يرمينا
بها الباحثون في طبائع الاجتماع.
وحجة هؤلاء العلماء في هذا سد الذريعة أو خوف انتشار دعوى الاجتهاد، إذا
فُتِحَ بابُه وتطرق الفساد إلى الشريعة، وهي حجة معقولة ومسلمة لا يخالفهم فيها
عاقل، لكن فيما لو صارت قوة التشريع أو الاجتهاد إلى الأفراد وأطلق العنان لكل
قائل أن يقول هذا حكم الله ورسوله ولكل حاكم أن يحكم بما يرى ويقول.
ومعاذ الله أن يريد هذه الفوضى للشريعة الإسلامية عاقل قط، وإنما المراد أن
ينظر في المسائل التي يقتضيها تغير الزمان وتجدد المصالح والحاجات على شرط
عدم الوقوع في ذلك المحذور الذي يخشاه العلماء، وذلك بأن تناط قوة التشريع أو
الاجتهاد على المسائل الطارئة في كل عصر بجماعة من أهل العلم الواقفين على
دقائق الكتاب والسنة، والعارفين بحاجات الأمة ليقرروا لها الأحكام الموافقة
لمقتضى الحال، ثم تنال هذه الأحكام تصديق أهل الحل والعقد فتصبح قانونًا
رسميًا يتحتم العمل به في الحكومة الإسلامية التي هي في حاجة إليه لا يعدل عنه
إلى غيره من أقوال الفقهاء والعلماء، وإن مجتهدين؛ فتُضْبَطُ بهذا قوانين الشريعة
ويُؤْمَنُ عليها من تطرق الفساد ثم يكون من ذلك أن تحدد هذه القوانين تحديدًا يغني
عن الرجوع إلى كتب الفقه التي تختلف في المسألة الواحدة اختلافًا كثيرًا يؤدي في
كثير من الأحيان إلى التهويش على القضاء ويكفي أن تكون تلك الكتب شروحًا
لقوانين الشريعة المعمول بها يومئذ يرجع اليها عند الضرورة والحاجة
إلى تفسير نصوص ذلك القانون كما هو الشأن في مجلة الأحكام العدلية
المعول عليها في محاكم الدولة العثمانية دون غيرها ولهذا البحث تتمة سآتي عليها في
الكلام على القضاء في دوره الثاني وها أنا ذا متكلم فيه:
قلت - فيما سبق -: إن القضاء في الإسلام له دوران دور العمل بالأصول
ودور العمل بالفروع، وإنما اخترت هذا التقسيم لاختصار الطريق أو اختصار
البحث خوفًا من تعب القارئ والسامع من أن أدواره بعد دور التشريع الأول كثيرة
جدًّا؛ إذا اعتبرنا تقسيمه إلى طبقات المفتين والمحدثين من الصحابة والتابعين ثم
الأئمة المجتهدين ومَن بعدهم مِن طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر
ذلك بما قسموا إليه طبقات الحنفية مثلاً، فقد قالوا: إنهم ينقسمون إلى ست طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة المجتهدين في المذهب كأبي يوسف ومحمد وغيرهما
من أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام من القواعد التي قررها
الإمام.
والثانية: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب
كالخصاف والطحاوي والسرخسي والحلواني والبزدوي وغيرهم وهم لا يقدرون
على مخالفة إمامهم في الفروع والأصول؛ لكنهم يستنبطون الأحكام التى لا رواية فيها
على حسب الأصول.
والثالثة: طبقة أصحاب التخريج القادرين على تفصيل قول مجمل وتكميل
قول محتمل من دون قدرة على الاجتهاد.
والرابعة: طبقة أصحاب الترجيح كالقدوري وصاحب الهداية القادرين على
تفضيل بعض الروايات على بعض بحسن الدراية.
والخامسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين القوي والضعيف
والمرجح والسخيف كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة.
والسادسة: من دونهم الذين لا يفرقون بين الغَثِّ والسمين والشمال واليمين ,
فلو تتبعنا الكلام على هذه الطبقات والأدوار التي مرت على الشريعة بالتفصيل
لاحتاج ذلك إلى كتاب مطوّل ورجل أعظم رسوخًا مني في العلم ووقوفًا على تأريخ
القضاء، لذا حصرت الكلام على القضاء من الوجهة الإجمالية في دورين؛ وإذ قد
مضى الكلام على الدور الأول فها أنا ذا أتكلم على الدور الثاني على قدر ما يمكنني
مِن الاختصار.
لما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حُفّاظ
الشريعة ورواتُها في الأنحاء مع اتساع دائرة القضاء بازدياد وسائل الحضارة
واستبحار العمران، وتجدد الحوادث التي يقتضيها تشعب المعاملات وحال الأمم
الداخلة في الإسلام من غير العرب؛ وخيف لهذا من تشتت أحكام الشريعة ودخول
الفوضى في القضاء والإفتاء؛ احتيج بالضرورة إلى أمرين مهمين: الأول تدوين
الشريعة في الكتب، والثاني وضع قواعد للتفريع عن أصول الشريعة لتطبيق
الحوادث التي تحدث في أحكام المعاملات على قوانين الشرع، وأول من تنبه
للحاجة إلى هذين الأمرين على ما أظن عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الأموي
وسدًّا للحاجة الأولى أَمَرَ الزهري من جِلة التابعين وحُفّاظِهم بتدوين الحديث في
دفاتر وتوزيعها على الأمصار في أواخر القرن الأول ففعل كما هو مشهور
معروف.
أما الحاجة الثانية: فقد شعر بها ولكن سَدَّها بعده الأئمة المجتهدون بدليل ما
رُوي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس من
الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.
أدرك هذا عمر بن عبد العزيز وأدركه الأئمة المجتهدون من بعده مالك
والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المذاهب التي لم يبق لها
أتباع لهذا العهد كداود الظاهري وغيره كأئمة الشيعة الذين يعمل بمذاهبهم إلى اليوم
زيد بن على وجعفر الصادق وغيرهم فلم يكتفوا بتدوين السنة في الدفاتر والكتب؛ بل
رأوا
الحاجة تدعوا إلى البيان والتفصيل والتفريع والترتيب فعمدوا إلى النظر في أصول
الشريعة من الكتاب والسنة فاستخرجوا منها الأحكام ووسعوها ورتبوها ودونوها كل
على أصول مذهبه وقواعده وأصول الاجتهاد المعروفة في كتب الأصول مما لا
يسعني بسطه الآن وكلكم أعرف مني به، فضبطوا بذلك قوانين الشرع بما بلغه
اجتهادهم وأدى إليها جهدهم فكانت كتب كل مذهب شرعًا يَعْمَلُ به أتباعه إلى اليوم.
ولسنا بصدد إطراء هذا العمل الجليل الذي قام به أولئك الأئمة الكبار،
وحسب هذا العمل أو هذه الخدمة التي خدموا بها الأمة والشرع أنها تصون منزلة
الإفتاء والقضاء عن متناول كل مَن ادَّعى أن عنده مُسْكة من العلم بالدين والوقوف
على السنة هذا لو أحسن العلماء بعد العمل بقوانين الفقه.
نعم، قد انتقد كثير من أئمة السلف ما صار إليه الحال بعد وضع كتب
المذاهب من ترك أصول الشريعة والذهاب مع التقليد البحت لكن لم يكن هذا الانتقاد
موجهًا إلى الأئمة المجتهدين إلا فيما أخطأ فيه اجتهادهم، وإنما كان جُلُّ الانتقاد
موجهًا إلى من جاء بعدهم من الفقهاء والمقلدين لتنزيلهم كلام الأئمة منزلة أصول
الشريعة والعمل بأقوالهم ما أصاب منها وما أخطأ بلا بحث في الدليل مع أن الأئمة
أنفسهم نهوا عن العمل بقولٍ مِن أقوالهم دون معرفة دليله من أصول الشريعة كما
تعلمون.
أراد الأئمة المجتهدون أن تكون طريقتهم في التفريع مهيعًا يسير فيه العلماء
في قياس الحوادث بعضها على بعض وردها إلى أصولها عند تجدد الحوادث
بعضها على بعض، وردها إلى أصولها عند تجدد الحوادث سدًا لحاجة
المتقاضين، وأطالوا في الاستقصاء والبيان والتفريع كي لا يَدَعوا وجهًا لتهجم كل
امرئ على أصول الشريعة من الكتاب والسنة ليفتي بعلم وبغير علم فيصير
القضاء إلى الفوضى والتشتت بعد انقراض طبقة حفاظ الشريعة من التابعين
وتابعي التابعين، واتساع دائرة الإسلام اتساعًا يفتقر معه المسلمون إلى قوانين
قريبة التناول من الفهم، لكن أساء من جاء بعدهم من أتباعهم مِن العلماء فَهْمَ
الغاية، فألقوا بأنفسهم في نفس الخطر الذي أراد اتقاءه الأئمة المجتهدون إذ
ساروا في سبيلين متباينين سبيل التضييق على أنفسهم إلى ما لا يبلغ بهم أدنى حد،
وسبيل التوسع إلى ما يتجاوز كل حد.
حرموا في الأول على أنفسهم الاجتهاد، ولو في المسائل التي تدعو إليها
الضرورة والمصلحة العامة التي هي من قواعد ومقاصد الشرع الإسلامي فكان من
ذلك أن أحرجوا الأمة وألجأوا بعض الحكومات الإسلامية لهذا العهد إلى العمل
ببعض القوانين المقررة عند الأمم الأوربية خصوصًا الجنائية والتجارية.
وتوسعوا في الثاني حتى ملأوا بطون الكتب بالحواشي والشروح يؤتى فيها
بعدة أقوال في المسألة الواحدة ولو تافهة أو من قبيل تقدير المستحيل، وكل هذه
الأقوال تعتبر شرعًا أو شريعة وتركوا العمل بالصحيح منها أو الأصح أو المُفتى به
أو المعول عليه إلى رأي القضاة فكان من ذلك أن أطلقوا لقضاء الفرد العنان بلا شرط
ولا قيد فوقعوا وأوقعونا فيما أراد دَفْعُه الأئمة المجتهدون، وحُرِمَ المسلمون من
قضاء الجماعة الذي هو كفيل بالعدل وذلك منذ انقضاء العصر الأول إلى
اليوم.
نعم، إن اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة وكثرة الحواشي والشروح على
القوانين والشرائع موجودة عند كل أمة فالقانون الفرنسي مثلآ له شراح من
المتشرعين وأشهرهم دالوز وكاربانتيه وسيريه وغيرهم كثيرون؛ إلا أن القضاء
عند تلك الأمم لما كان بيد الجماعة وقوة التشريع ليست من حق فرد من الأفراد؛ بل
من حق الأمة ونوابها فدستور العمل عندهم ما أجمعت على وضعه قوة التشريع
وصادقت على قبوله الحكومة فصار قانونًا للقضاء لا يُعدّل عنه إلى تلك الحواشي
والشروح وآراء المتشرعين ويصار إليها إلا لتفسير مبهم أو تطبيق الحوادث بعضها
على بعض.
لشريعة المسلمين أصول وكليات - كما قلنا في صدر الكلام - تعتبر أساسًا
للتشريع، ومع أن أحكامها مسلمة فقد كان العمل بها في عهد الصحابة
بالشورى بين المتفقهين منهم، هذا فيما نُصَّ منها على ما يرد عليهم من النوازل،
فما بالكم فيما احتاج إلى الاجتهاد والتشريع بالقياس على تلك الأصول أو
الاستنباط منها وقد سمعتم فيما مَرَّ أنهم كانوا لا يحكمون حكمًا إلا بعد استشارة خيار
الأمة وعلمائهم وإقرارهم جميعًا على ذلك الحكم حتى اعتبر بعض الأئمة المجتهدين
بعض أحكام الصحابة لقوتها شرعًا أو أصلاً من الأصول التي يبنى عليها التفريع
سموه عمل الصحابة أو إجماعهم كما سبقت الإشارة إليه وكما ترون ذلك في كتب
الأصول.
إذا كان إجماع الصحابة على مسألة شرط في صحتها واعتبارها شرعًا يلزمنا
العمل به فقد لزم من هذا أمران:
الأول: إن إجماع الجماعة على تقرير حكم في مسألة شرط في صحة ذلك
الحكم واعتباره شرعًا لزمنا العمل به وهو ما تفعله الأمم الأوربية في تقنين قوانينها
لهذا العهد، وقد وجد له أصل في الشرع الإسلامي فتركناه وأصبحنا نغبط الأمم
الأوربية وقوانينها أو قضاء الجماعة عندها لهذا اليوم.
والأمر الثاني: أن كل أقوال الفقهاء واختلافاتهم الواردة في كتب الفروع ليست
بشرع إلا من حيث اشتمالها على أحكام يرد بعضها إلى أصول الشريعة إلا أنه غير
متوفر فيها شرط التشريع الذي مر، وإناطة ترجيح قول دون آخر من حيث قربه
من الأصل بشخص واحد لا يُكْسِبُ هذا القول أو الحكم قوة التشريع ليسمى شرعًا
أو قانونًا وجب العمل به إلا إذا اتفِقَ عليه وقرره جمهورٌ من المتشرعين أو
المرجحين وهذا ما أردته من وجوب بقاء الاجتهاد لكن لا ليتناوله من شاء فيما
شاء، كلا بل ليناط بجماعة من علماء المسلمين تقرير الأحكام التي تدعو إليها
المصلحة وتجدد بتجدد الزمان.
ولذا فإن اجتهاد الجماعة كما أنه لازم في الأصول فهو لازم في الفروع أيضًا
وذلك لجمع أقوال الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ما أصاب من تلك الأقوال محجة
الصواب والمصلحة ووافق أصول الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس
الصحيح في كتاب بعينه يعتبر قانونًا في المعاملات مجمعًا عليه من العلماء ليعرف
منه كل مسلم ما له مِن الحقوق وما عليه لا تتقاذفه أقوال الفقهاء من خلاف لآخر
ومن قول لنقيضه فتصير به إلى أهواء القضاة والمفتين يحكمون بما ترجح لديهم
وبما يشتهون.
وليس اختلاف المذاهب بمانع من أن يحكم للشافعي أو عليه بقول
للحنفية أو للمالكي بقول للشافعية مثلاً إذ كل أتباع المذاهب أبناء دين واحد وكل
أقوال كتب الفقهاء مأخذها واحد وهو الشرع، والواقع يثبت أن أحكام المعاملات
كانت في أكثر الممالك الإسلامية ولم تزل إلى اليوم جارية في القضاء على
مذهب الدولة الحاكمة وربما كان أكثر الرعية من أتباع مذهب غير مذهبها.
ومع هذا فليس ثمة نكير من العلماء على أهل الدولة فلا سبيل لهم إلى النكير
على القائلين بلزوم جمع الأقوال الموافقة لمقتضى المصلحة والعصر من كتب
المذاهب وجعلها قانونًا جامعًا في المعاملات للمسلمين؛ بل هذا خير وسيلة لإصلاح
القضاء ربما اغتفرت للفقهاء ماضي تفريقهم وحدة الأمة باسم التعصب للمذهب
وكانت خاتمة اضطراب نظام القضاء في الإسلام.
ليس اضطرب حبل القضاء في الإسلام بجديد، وليس الظلم والعسف الذي
لاقاه المسلمون من حكامهم الظالمين وحكوماتهم الجائرة إلا نتيجة توكئهم على
ضعف القضاء؛ خصوصًا ما يتعلق منه بولاية المظالم لا لنقص في الدين أو
الشريعة؛ بل لنقص في طرق التقنين والتنفيذ.
إن الدين الذي يُنزِل على الظالمين صواعقَ الإنذار ويقرن الظلم بالشرك بالله
تعالى ويأمر بإقامة ميزان العدل، ويريد سعادة المجتمع الذي يدين به ما كان ظالمًا
ولن يكون؛ وإنما المسلمون أنفسهم يظلمون.
ربما يطالبني كلكم أيها السادة بدليل على قولي إن اضطراب نظام القضاء وما
نشأ عنه من الجور ليس بجديد في الإسلام، وهذا الطلب من حقكم بعد هذا الكلام
وإليكم دليلاً واحدًا أكتفي به عن أدلةٍ لو أحصيت لكانت كتابًا ليس كالكتب مما
تقرؤون.
تعلمون أن أَحْفَل العصور الإسلامية بالعلماء والمفتين والفقهاء والمتشرعين
وأرقاها في سلم المدنية الإسلامية عصر هارون الرشيد العباسي؛ إذ الشريعة في إبان
زهوها والتفريع في مبدأ مجده والأئمة المجتهدون هم القائمون بالتشريع وإلى كتبهم
ترجع الفتوى.
في ذلك العصر الزاهر بمجد الإسلام وأمجاده العظام يرى أبو يوسف صاحب
أبي حنيفة من ضعف القضاء وتسلط عمال الجور واضطراب نظام ولاية المظالم ما
يلجئه إلى وضع كتاب الخراج لأمير المؤمنين هارون الرشيد وليس فيه إلا آية أو
حديث أو مثال من قضاء الصحابة p أحصيتأي كله من أصول تلك الشريعة الطاهرة يذكره
فيه بالرجوع إلى قضاء الله ورسوله وأصحابه أو قضاء الجماعة المتين قائلاً:
(ارجع يا أمير المؤمين إلى هذه الأصول في سياسة الرعية وجباية الخراج وتوزيع
الفيء، اقعد يا أمير المؤمنين بنفسك للمظالم وإنصاف المحكوم من الحاكم، أدرك
الزراع فقد كاد يهلكهم الظلم، فقد بلغني عن عمالك أنهم يقيمون أهل الخراج في
الشمس ويضربونهم الضرب الشديد وإنهم يفعلون بهم ويفعلون مما لا يحل لهم بوجه
من الوجوه) .
هكذا كان الحال في عصر الرشيد وأئمة الشريعة أحياء يرزقون فما بالكم بما
جاء بعده من العصور التي صار فيها التشريع إلى عدد لا يحصى من المخرجين
والمرجحين والفقهاء والمفتين، وكلهم يقول قولي أو قول فلان هو شريعة الله المفتى
بها والمعول عليه، وما هو إلا تفكك نظام القضاء وتشتت قوة الجماعة فلا حول ولا
قوة إلا بالله.
والنتيجة أيها السادة أن ضمان العدالة الوحيد إنما هو قضاء الجماعة لا قضاء
الفرد وأعني أن التشريع وحده غير كفيل بالعدل في القضاء إلا إذا أنيط كلاهما
بالجماعة بالوضع والتنفيذ، ولا تظنوا أن هذا (المطربش) الواقف أمامكم يريد
شيئًا جديدًا في الدين أو قلبًا لكيان الأحكام مع أنه ليس من علماء الدين ولا أئمته
المجتهدين.
كلا، فليس قضاء الجماعة بجديد في الإسلام؛ بل هو من عصر الصحابة
وهم واضعو أساسه المتين في الدور الأول للقضاء في الإسلام.
أما الدور الثاني فالذي أذكره أن دولتين من دول الإسلام تنبهتا إليه وعولنا
عليه؛ أولاهما: دولة الأمويين في الأندلس التي جعلت في القرن الثالث دارًا في
قرطبة لشورى القضاء؛ أعضاؤها من جلة العلماء يُرجَع إليهم في تقرير الأحكام.
والحق أقول إني لم أظفر بكثير بيان عن هذه الشورى لكن ما رأيته عنها في
ثنايا الكتب التأريخية يكفي للدلالة عليها، فقد ورد ذكرها في (نفح الطيب) في
ترجمة بعض العلماء كقوله كان فلان مشاورًا وطلب فلان إلى الشورى فأبى ونَقل إليَّ
ثقة عن كتاب من الأسف أنه غير موجود بين يدي؛ بل هو في مكتبة دمشق وهو
كتاب الأحكام للقرطبي ورد فيه ذكر هذه الشورى بقوله: (إن الشورى خالفت الإمام
مالكًا في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي القاسم) .
وفي هذا دليل كاف على أنه كان لديهم سلطة في التشريع، وأن الدولة الأموية
ثمة كانت مسددة الأعمال حتى قبيل وهنها وسقوطها حريصة على إجراء قوانين
العدل بين رعيتها.
أما الدولة الثانية التي تنبهت إلى مثل ما تنبه إليه الأمويون فهي الدولة
العثمانية لهذا العهد فإنها جمعت من علماء الأمة وفقهائها الموثوق بفضلهم وعلمهم
جماعة سمتهم جمعية المجلة، وذلك من بضعٍ وثلاثين سنة انتخبوا من كتب
المذهب الحنفي قانونًا جامعًا للأحكام المدنية وهو المعروف (بمجلة الأحكام العدلية)
وأقر على العمل به أهل الحل والعقد، فصار مرجع القضاء في المحاكم إلى
اليوم وستجتمع هذه الجمعية أيضًا لإدخال بعض الزيادة والتحرير عليه مما مست
إليه الحاجة ولو بأخذه من غير المذهب الحنفي.
هذا مجمل تأريخ القضاء في الإسلام وما تخلله من الشؤون بسطته لديكم مع
رجائي أن تَصْفَحوا عن كل خطأٍ بَدَر مني أو تردوه، ولو سمح الوقت لأتيت على
شيء كثير من كيفية تقسيم ولاية القضاء وترتيبها ومحاسن الفقه الإسلامي وما انتقد
عليه، وإنه لو أحسن العلماء العمل به لكان لنا منه قانون جامع لأحسن قوانين الأمم
المدنية، وربما أعود إلى هذا البحث في فرصة أخرى إن شاء الله.