جواب شبهة رب قائل يقول: كيف لا يفسق هؤلاء وقد خالفوا بتأويلهم النصوص من الكتاب والسنة؟ فنقول: قدمنا ما يمنع تسميتهم فسقة شرعًا ولغة، ولذا جاء في مُسَلَّم الثبوت من كتب الأصول، ما مثاله: لك أن تمنع كون المتدين من أهل القبلة فاسقًا بالعرف المتقدم الذي عليه القرآن الكريم، وهو شموله للكافر والمؤمن المرتكب الكبيرة اهـ. وقال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: مهما اعترضت على القدري في قوله: الشر من الله، وكذلك في قولك: إن الله يُرى، وفي سائر المسائل، إذ المبتدع محق عند نفسه، والمحق مبتدع عند المبتدع، وكل يدعي أنه محق وينكر كونه مبتدعًا اهـ. وبالجملة فهم مخالفون بنظر غيرهم، وأما عند أنفسهم فغيرهم هو المخالف وهم الموافقون، وحاشا لمؤمن عالم أن يخالف كتابًا أو سنة عامدًا متعمدًا، فهم مجتهدون مثابون؛ إذ لم يألوا جهدًا فيما ذهبوا إليه، وإن كنت لا تقول به وترى الحجة فيما أنت عليه، على أن ما تسميه أنت نصًّا هم يرونه ظاهرًا، إذ دعوى نصية الشيء ليست بالأمر اليسير، لأن النص هو القاطع في معناه، المفيد لليقين في فحواه، وهذا إنما يكون في محكمات الدين، وأصوله التي لم يختلف فيها الفرق كلها، وأما ما عداه فكلها ظواهر، وقد يراها البعض باجتهاده نصًّا، وليس اجتهاد مجتهد بقاضٍ على اجتهاد آخر. وعلى من يريد تحقيق هذا أن يراجع مطولات الخلاف، ويطالع مآخذ المجتهدين، ومن أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فإنه جدير لو كان في الصين أن يرحل إليه، وأن يعض بالنواجذ عليه، فرحم الله من أقام المعاذير للأئمة، وعلم أن سعيهم إنما هو إلى الحق والهدى، كما أسلفنا وبالله التوفيق. *** جواب شبهة أخرى يزعم بعضهم بأنه يحتمل أن يكون الراوي تحمل عن المبدّع قبل تمذهبه بذلك المذهب، وهذا جهل بمذاهب الرواة، ومشارب الرجال، فإن كل من ألَّف في نقد الرجال لم يذكر في المشاهير منهم أنه كان على مذهب كذا، أو أن الحافظ الفلاني تحمل عن فلان قبل تمذهبه بمذهب كذا، ومثل هذا إنما يؤخذ عن النقلة الأثبات كالمصنفين في أحوال الرجال، ولا يمكن الاجتهاد فيه بحال من الأحوال، ولذا تراهم يقولون في ترجمة الراوي: كان خارجيًّا. ونحو ذلك قولاً واحدًا. وحبذا أن يكون ما ذكره مأثورًا عن إمام مؤرخ مشهور، وأما القول بالاحتمال، فإذا فُتح أَوْرَثَ الاضمحلال، لكل ما يعوّل عليه في الاستدلال، ومثل ذلك ما يقال: يحتمل أن يكون روى عنه وهو غير عالم بما هو عليه من فساد العقيدة، فهذا يزيد عما قدمنا من الجهل بمذاهب الرواة تجهيل أئمة الحديث، ووصمهم بما هم برآء من الغباوة والبلاهة، وأنهم يتحملون عمن لا يعرفون مذهبه ولا مشربه، وأنهم كحاطب ليلٍ، نعوذ بالله من ذلك، وأي عاقل يجرؤ على مثل ذلك في البخاري صاحب التاريخ في الرجال؟ بل من دونه من أرباب السنن وغيرهم ممن تكلم في الجرح والتعديل، وميز بين صحيح الحديث وضعيفه، لثقة رجاله أو ضعفهم , وهل يعقل في صحاح، وسنن ومسانيد، وموطآت عليها مدار أدلة الأحكام، وحجج الفروع، صنفت على الأسانيد المنوعة والمكررة بالأسماء والكُنى والألقاب أن يكون جامعوها لا يدرون مشرب رجالها ولا ما يتحملونه مع أن العامي والأمي نراه إذا خدم عالمًا لا يخفى عليه مشربه ومذهبه ورأيه وفكره، فكيف بعالم مؤلف، لا بل بإمام مجتهد يستنبط الأحكام من الأحاديث ويترجم عليها، ويزاحم من تقدمه من الأئمة في التخريج والرد والاستدراك والتفريع والتأصيل؟ ألا يدري مذهب رجال إسناده ونحلتهم، وهم عمدته في الاستدلال، وركنه في الاحتجاج، بلى ثم بلى، وهو أجلى من أن يبرهن عليه، أو يرد على من كابر فيه، ولقد كان علم الجرح والتعديل، ومعرفة طبقات الرجال وتراجمهم من أوئل ما يدريه طلاب الحديث ومريدو التحمل عن الحفاظ، ولكن من أين يدري أبناء هذا الجيل، ما كان عليه السلف من فنون التحصيل، وقد اندرست تلك العلوم، ولم يبق منها ولا الرسوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما قول بعضهم: فكيف يستدل بإخراج الشيخين على عدم جواز المعاداة مع قيام هذه الاحتمالات؟ وكيف يسوغ للإنسان أن يتمسك بالمحتمل الذي لا تقوم به حجة؟ فقد علمت سقوط هذه الاحتمالات وأنها أشبه بالأوهام والخيالات، والتلاعب في الحقائق الواضحات والمحتمل الذي تقوم به حجة هو الذي يتطرق إليه احتمال معقول، أو تأويل مقبول، جارٍ على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في نظائره. وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة وأمر واضح فلا يقال له احتمال، وإنما هو تلاعب وهوس خيال، يقول أئمة الجرح والتعديل في كتبهم عن راوٍ ممن خرَّج له الشيخان أو أحدهما: إنه شيعي، أو خارجي، أو قدَري، أو مرجئ، ثم يأتي من يريد أن ينقض هذا بالاحتمال، وهو لم يضرب في هذا الفن بسهم، ولا يمكن أن يرجع إليه في رأي ولا علم، كيف لا وقد اجتمعوا على الرجوع إلى أئمة الفن في هذا الباب، لأنه أمر لم يبق فيه مجال ولا نظر ولا احتمال، وهذا من البديهيات الغنية عن الحجة والبرهان. *** رفع وهم في عبارة للبخاري وأما زعم أن قول البخاري في جزء رفع اليدين: كان زائدة لا يحدّث إلا أهل السنة اقتداء بالسلف - يخالف ما استنبطناه، فعجيب جدًّا؛ لأنه لا شاهد فيه، ولا يناسب بحثنا حتى يخالفه، لأن زائدة رحمه الله كان يمتنع عن تحديث غير أهل السنة، أي إسماعهم الحديث وإقرائهم إياه، وذلك في التلاميذ منهم والمبتدئين في طلب الحديث الذين يبغون التلقي والسماع، وقد انتموا إلى غير مذهب أهل السنة، فكان زائدة يتجافى تحديثهم اقتداء بمن رآه من سلفه كذلك، ولا منازعة في الوجدانيات ولا يكلف المرء ما لا يطيقه، فمن كانت نفسه لا تحب إسماع من كان كذلك، فله الخيرة ولا جناح عليه في ترك الإسماع، لا سيما لتلاميذ لم يتأهلوا بعد للنظر والوقوف على التحقيق، فمثلهم إنما يكون مقلدًا لا مجتهدًا، وأما حفاظ شيوخ، ذوو علم ورسوخ، أوتوا من العلم والفضل ما أهَّلهم للتحمل عنهم، والاستفادة من علمهم، بحيث طارت شهرتهم، وتفوقوا على غيرهم، فلا دخل لكلام زائدة فيهم، ولا يشملهم مشربه، وهكذا نحن نقول: لا ينبغي لأستاذ أن يشرح صدره لتلاميذ أغرار، انتحلوا غير ما يراه الحق بدون نظر أو فكر، بل تقليدًا أو اتباعًا لكل ناعق. وأما من بلغ مرتبة الرسوخ والإفادة، وكان على جانب عظيم من العلم، وانتحل ما انتحل عن اجتهاد ونظر، فلا يرتاب أحد في العناية بالأخذ عنه، والتلقي منه، كما فعل الأئمة أمثال البخاري، وأشياخه، فكلام زائدة من وادٍ، وما نقوله من وادٍ آخر. وهكذا يقال فيمن حكى عنهم من المرجئة من أهل بلخ، وأما قوله: ولقد رأينا غير واحد من أهل العلم يستتيبون أهل الخلاف، وإلا أخرجوهم من مجالسهم، فهو يعني به من ذكرناه من التلاميذ لقوله: وإلا أخرجوهم، وهل يخرج إلا المتعلم الضعيف في العلم والفهم، المتطفل على ما ليس له بأهل؟ وشتان بين من يخرج من مجلس الحديث من أهل الخلاف وبين من يرحل إليه ويتحمل عنه منهم، كرجال الشيخين وغيرهما من هؤلاء، ولو اطرد الابتعاد عن هؤلاء أو إبعادهم لما تلقى عنهم أمثال الشيخين، وخلد أسماءهم ومرويهم في أصح الكتب بعد التنزيل الكريم، وقد يكون مراد البخاري بأهل الخلاف أهل الرأي جمودًا وتقليدًا المؤثرين آراء الفقهاء على صحيح السنة، لأن كتابه المذكور وهو جزء رفع اليدين في مناقشة أهل الرأي وحجهم بصحيح السنة على رأيهم. وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي [١] ، فلا تكاد تجد اسمًا لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن، وإنْ كنت أعدّ ذلك في البعض تعصبًا، إذ يرى المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمل عنه، ويستفاد من عقله وعلمه، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية، تسعى في القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في جميع مآتيها، وتستعمل في سبيل ذلك كل ما قدر لها من مستطاعها كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم، ومظاهر ما أوتيته من سلطان وقوة، ولقد وجد لبعض المحدثين تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم التخالف، ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفًا على فئة معينة دون غيرها، والمنصف من دقق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بعد. ومما نعده تعصبًا ما حكام الإمام البخاري في جزء رفع اليدين المذكور من إخراج أهل الخلاف من مجالس الحديث حتى يُستتابوا، وحمل قاضي مكة سليمان بن حرب على الحجر على بعض علماء الرأي من الفتوى، وما ذلك إلا من سلطة دولة الأثريين وقتئذ، وقيامهم بالتشديد ضد غيرهم، ونبذ التسامح الذي كان عليه الصحابة والتابعون في أن يفتي كل بما يراه بعد بذل جهده في المسألة دون تعنيف أو اضطهاد، لا جرم أن سنة كل قوم آنسوا من أنفسهم قوة وسلطانًا أن يستعملوا لبث مذهبهم ونشره هيمنة الحاكم وسيطرته، ولا سيما إذا كان منهم وعلى شاكلتهم وهو مستبد في علمه وما يمضيه فحدث هناك ولا حرج. انظر إلى القدرية لما دالت لهم دولة العلم أيام المأمون ماذا جرى منهم مع من لم يقل بمشربهم ولم يستجب لدعوتهم، فقد ضربت أئمة وأهينوا وسجنوا الأعوام وأوذوا مما دونه التاريخ وأحصاه على هؤلاء المتعصبين، وكان نقطة سوداء في تاريخ حياتهم، وإن كانوا يزعمون مقاومة الحشو والجمود، وتنوير الأذهان بعلوم الأوائل مما أخذوا بتعريبه، وجهدوا في نشره، إلا أن الغلو كان رائدهم، والبطش قائدهم، ولكن هي السكرة، التي يذهب معها صحيح الفكرة، أعني سكرة الدولة والغلبة، والسلطة والقوة، فما من دولة إلا ونقم عليها شيء من ذلك، كما يدريه من سبر أخبار الدول وفلسفة حياتهم، ومظهر آرائهم وآمالهم. وكذلك قُل عن الفتنة التي فر من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز حينما دالت دولة الحنفية، وثارت عصبيتهم على الشافعية والأشعرية. قال التاج السبكي في طبقاته [٢] في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي: إنه لما بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخُلَع وظهر له القبول عند الخاص والعام، حسده الأكابر وخاصموه، فكان يخصمهم ويتسلط عليهم. قال: فبدا له خصوم واستظهروا له بالسلطان عليه وعلى أصحابه، قال: وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس، وعزلوا من خطابة الجامع، قال: وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع، فخيلوا إلى أولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عمومًا، وبالأشعرية خصوصًا، قال وهذه هي الفتنة التي طار شررها، وطال ضررها، وعظم خطبها، وقام في سب أهل السنة خطيبها، فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح بلعن أهل السنة في الجُمَع، وتوظيف سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستعلى أولئك في المجامع، فقام أبو سهل في نصر السنة قيامًا مؤزرًا، وتردد إلى المعسكر في ذلك ولم يفد، وجاء الأمر من قِبل السلطان (طغرلبك) بالقبض على الرئيس الفراتي، والأستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين، وأبي سهل بن الموفق، ونفيهم ومنعهم عن المحافل، وكان أبو سهل غائبًا في بعض النواحي، فلما قرأ الكتاب بنفيهم أغرى بهم الغاغة والأوباش، فأخذوا بالأستاذ أبي القاسم القشيري والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما، وحُبسا بالقهندر وأما إمام الحرمين فإنه كان أحس بالأمر فاختفى وخرج على طريق كرمان إلى الحجاز، وبقيا في السجن متفرقين أكثر من شهر. وفي شرح الإقناع [٣] قال ابن عقيل: رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أقول العوام بل العلماء، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة في أيام ابن يونس، فكانوا يستطيلون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع حتى ما يمكنوهم من الجهر بالبسملة والقنوت، وهي مسألة اجتهادية، فلما جاءت أيام النظام، ومات ابن يونس وزالت شوكة الحنابلة، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدوا بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات والفقهاء بالنبذ بالتجسيم، (قال) : فتدبرت أمر الفريقين، فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد يصولون في دولتهم، ويلزمون المساجد في بطالتهم، اهـ. ولدينا من القصص في عجائب ما روى التاريخ من التعصب ما لا يسعنا إلا إمساك القلم عن نشره إبقاء على هذه البقية الباقية، وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكل ذلك من التفرق الذي نهى عنه الدين لما يستتبعه من الإزراء التي تعمل في أساسه المتين، ويكفي ما جنت وتجني الأمة من ويلاته إلى هذا الحين، حتى فشلت وذهب ريحها أمام أعدائها الكافرين، والمستعان بالله. ((يتبع بمقال تالٍ))