للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: مهاتما غاندي


الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتماغاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

الباب الرابع
الماء
الماء يلي الهواء في المكانة والمنفعة. فالإنسان يستطيع أن يعيش بدونه
بضعة أيام. ولا بد له منه على كل حال. ويمكنه أن يعيش بدون غذاء مدة أكثر من
المدة التي يستطيع أن يعيشها بدون الماء. إن نسبة الماء إلى غيره في أغذيتنا أكثر
من ٧٠ في المائة، وهو يوجد بمثل هذا المقدار في الجسم الإنساني، وإذا حرم منه
ينقص ثقله كثيرًا.
ولكنا مع شدة حاجتنا إلى الماء قلما نبالي بالمحافظة على نقائه ونظافته، إن
الطاعون والهيضة وغيرهما من الأوبئة الجارفة تنشأ من فساد الهواء والماء، وكذلك
يتولد مرض الحصاة (النواة) في المثانة من شرب الماء القذر.
يفسد الماء بسببين: فهو إما أن يكون في مكان مفسد له، وإما أن نفسده نحن
بأنفسنا. فأما الماء المجتمع في المكان القذر فيجب الحذر من شربه، ونحن نحترز
منه فعلاً، ولكننا لا نشمئز من شرب الماء الذي أفسدناه نحن بأيدينا.
فماء الأنهار الذي يعد أصلح المياه للشرب نفسده بإلقاء أنواع الأقذار فيه،
وكذلك نغتسل ونغسل الأثواب الوسخة فيه. يجب أن نحذر كل الحذر من شرب
الماء الذي يغتسل فيه الناس. ويجب أن نخصص الجهة العليا من النهر للشرب
وحده، ونترك الجهة السفلى للاغتسال وغسل الأشياء الوسخة. أما البلاد التي لا
يتبع فيها هذا النظام فقد تعود كثير من الناس هناك عادة حسنة وهي أنهم يحفرون
حفرة في الرمل على طرف النهر ويأخذون منها الماء لشربهم، وهذا الماء يكون
نظيفًا جدًّا، لأنه يصفو وينظف برشحه من غربال (مصفاة) الرمل.
إن شرب ماء الآبار يحدث ضررًا كبيرًا إذا لم تكن البئر مبنية بناءً محكمًا.
فتقاطر الماء الوسخ من فوقه، وسقوط الطيور والهوام وتعفنها فيه، واتخاذ الطيور
أوكارها في داخله، كل ذلك يفسد ماءه. وكذلك قد تتسرب إليه الوساخات
والرطوبات من باطن الأرض فتفسده وتجعله غير صالح للشرب، يجب علينا أن
نحترس كثيراً في شرب ماء الآبار.
وكذلك خزن الماء في الأحواض الوسخة المكشوفة تفسده، فللمحافظة على
نقائه يجب تنظيف الأحواض حيناً بعد حين وتغطيتها، ويجب أن نراعي ونلاحظ
الأحواض والآبار، هل هي في حالة حسنة أم لا؟ ومن المؤسفات أن قليلاً من الناس
يراعي طهارة الماء مراعاة تامة.
وأحسن طريقة لإزالة كل ما يطرأ على الماء من الفساد هي أن يُغلى جيدًا
ويصفى بعد برده في قماش سميك نظيف إلى إناء آخر بكل احتياط. لا تنتهي
وظيفتنا عند هذا الحد، بل علينا واجب آخر أكبر من هذا الواجب وهو أن نراعي
صحة أبناء جنسنا أيضًا، فتتجنب كل ما من شأنه إفساد الماء الذي يشربه الناس
بنحو الاغتسال أو غسل الملابس في موارد العامة للشرب خاصة، أو قضاء الحاجة
والبول على شواطئ الأنهار، وكذلك إحراق الموتى هنالك وإلقاء رمادها في
الماء [١] .
مهما يفعل من العناية والاحتياط فإن المحافظة التامة على طهارة الماء في
غاية العسر لأنه قد يذوب فيه الملح أو يسقط الحشيش وغيره من الأشياء التي إذا
بقيت في الماء تعفنت وأفسدته. إن ماء المطر أطهر المياه وأنظفها بلا ريب.
ولكنه أيضاً يفسد في أكثر الأحيان قبل وصوله إلينا لاختلاطه بالذرات الموجودة في
الفضاء. إن الماء النقي له تأثير حسن جدًا في الجسم، ولذلك يهيىء الأطباء الماء
المقطر لمرضاهم. فالذين يشكون الإمساك أكثرهم يشفون بشرب الماء المقطر. لقد
جاء في كتاب حديث في (الماء المقطر وطرق استعماله) أن جميع الأمراض يمكن
معالجتها بشرب الماء المقطر بطريقة مخصوصة. نعم، إن هذا القول لا يخلو من
المبالغة، ولكن مما لا ريب فيه أن الماء الطاهر من جميع المفسدات يؤثر تأثيراً
عظيماً جدًّا في الجسم.
لا يعرف كثير من الناس أن الماء على نوعين: خفيف وثقيل. فالماء الثقيل
هو الذي قد امتزجت فيه بعض الأملاح! ولذلك لا يرغو فيه الصابون كثيرًا، ولا
ينضج معه الطعام بسهولة، ويكون طعمه مالحًا، وطعم الماء الخفيف حلو عذب،
أو على الأقل بدون طعم. ويرى بعض الناس أن شرب الماء الثقيل أولى من شرب
الماء الخفيف. ولكن التجارب أثبتت أن الماء الثقيل يضعف قوة الهضم. ولذلك
يبدو لنا أن شرب الماء الخفيف بالجملة أحسن وأسلم. إن ماء المطر أصلح أنواع
المياه الخفيفة للشرب إذا سلم من الفساد. إن الماء الثقيل إذا أغلي جيداً وترك على
النار نحو نصف ساعة من الزمن يعود خفيفًا، ويصح شربه بعد تقطيره.
كثيرًا ما سئلت الأطباء هذا السؤال: متى ينبغي شرب الماء؟ وما مقدار ما
يشرب منه؟ والجواب الوحيد هو أنه لا ينبغي لإنسان أن يشرب الماء إلا إذا
عطش، ولا يشرب إلا المقدار الذي يزيل عطشه، ولا بأس من شربه أثناء الأكل
وبعده مباشرة. ولكن لا ينبغي إساغة اللقم به. إن بشاعة اللقمة واستعصاءها على
البلع، معناه أنها لم تمضغ جيدًا أو أن المعدة ليست في حاجة إليها.
لا ضرورة بل لا حاجة إلى شرب الماء في كل وقت، فإن في مواد غذائنا
مقدارًا كبيرًا من الماء كما تقدم، ونحن نزيده في أثناء الطبخ، فإذن لماذا نحن
نعطش؟ إن الذين لا يستعملون في أطعمتهم البهارات والتوابل والبصل وغيرها من
الأشياء التي توجب العطش الصناعي، قلَّما يحتاجون إلى شرب الماء، والذين
يعطشون كثيرًا لا بد أن يكونوا مصابين ببعض الأمراض.
قد نرغب في شرب الماء من أي نوع كان. وما ذلك إلا لأننا نرى بعض
الناس يفعلون ذلك بلا مبالاة فنقلدهم نحن أيضاً. لقد فصلنا جواب هذه المسألة في
باب الهواء.
إن في الدم نفسه قوة تقتل كثيرًا من الجراثيم السامة التي تدخل فيه، ولكن
يجب تنظيفه وإصلاحه مثل ما يصلح حد السيف بالشحذ كلما تثلم بالاستعمال، إذا
كنا نشرب الماء الفاسد فلا ينبغي أن نتعجب إن وجدنا دمنا قد تسمم على مر الأيام.
***
الباب الخامس
الغذاء
إن الماء والهواء والحبوب كل هذه الثلاثة داخله في غذائنا، ولكننا نعد
الحبوب وحدها هو الغذاء، مع أن الهواء هو أول غذاء لنا؛ لأننا لا يمكننا أن
نعيش بدونه، ثم يليه الماء الذي هو أهم من الحبوب. وقد أوجدته الطبيعة بكمية
كبيرة فنجده بسهولة خلافًا للحبوب التي هي في الدرجة الثالثة من غذائنا.
لا يمكن وضع القوانين المنضبطة بكل دقة في مسألة الغذاء. وأي نوع من
الغذاء ينبغي استعماله؟ كم يكون مقداره؟ وفي أي الأوقات؟ هذه المسألة قد اختلف
فيها الأطباء اختلافًا كبيرًا. إن عوائد الناس في البلاد المختلفة متباينة جدًّا، حتى
إن الغذاء الواحد قد يحدث تأثيرات مختلفة في فردين مختلفين. فعلى ذلك لا يمكن
تحديد الغذاء والبتّ في الأسئلة السابقة. فإنه يوجد على الكرة الأرضية قوم يأكلون
لحوم البشر، فلحم البشر غذاء لهم. وآخرون يقتاتون بالقاذورات فهي غذاء لهم.
ويعيش أقوام على اللبن فهو غذاء لهم، ويعيش غيرهم على الثمار فهي غذاء لهم.
ولكن مع تعذر تحديد الغذاء تحديدًا تامًّا يجب أن نتدبر في المسألة بكل اهتمام
لا حاجة إلى التذكير بأن الجسم لا بقاء له بدون الغذاء، ولذلك نركب الصعاب
ونتحمل المصائب في تحصيله. ثم إنه مما لا ريب فيه أن ٩٩ في المائة من
الرجال والنساء يأكلون للذة البطن واللسان فقط، فهم لا يتوقفون أثناء الأكل للتأمل
في النتائج التي تتبعه بعد تناوله، ويشرب كثير من الناس المسهلات ويتعاطون
الحبوب الهاضمة ليتمكنوا من الإكثار من الأكل ثانية وكذلك يوجد أناس يشحنون
بطونهم فوق طاقتها ثم يستفرغون ما أكلوا ليتمكنوا من الأكل مثل المقدار الأول.
ومن الناس من يكثر من الأكل حتى لا يجوع أيامًا عديدة، وقد وجد أناس
ماتوا لأنهم أكلوا فوق طاقتهم، أقول: كل هذا على تجربتي الشخصية. وإني كلما
أتفكر في حياتي الماضية أضحك على كثير من أعمالي ولا أتمالك من الاستحياء من
بعضها. فقد كنت في تلك الأيام المظلمة أشرب الشاي صباحاً، ثم أتناول الفطور
بعده بساعتين أو ثلاث، ثم أتغذى الساعة الواحدة، ثم أشرب الشاي ثانية، ثم
أجلس للعشاء بين السادسة والسابعة، ولا تسأل عن تعاستي وسوء حالتي في تلك
الأيام فقد كانت تستدعي العطف والرحمة، فكان حشو جسمي الكثير من الشحم
وقوارير الأدوية لا تبرح يدي. وكنت أكثر من شرب المسهلات وأستعمل الأدوية
المقوية لأتمكن من الأكل الكثير، وأما قواي العقلية والجسدية فكانت في حالة يرثى
لها. فما كنت أملك ثلث نشاطي ومقدرتي على العمل التي أجدها الآن، مع أني
كنت إذ ذاك في عنفوان شبابي. لا ريب أن مثل هذه الحالة تعسة حقًّا، وإننا لو
نتدبر في الأمر بجد وتروِّ نجزم بأنها حالة رذلة آثمة مستحقة لكل مقت وتقبيح.
إن الإنسان لم يخلق للأكل ولا ينبغي له أن يعيش للأكل. إن وظيفته الحق
هي أن يعرف خالقه ويعبده حق عبادته وإنما الأكل لتقوية الجسم ليقوم بهذه العبادة
لا غير. حتى إن الملاحدة أيضاً يسلمون أننا لا نأكل إلا لحفظ الصحة وكل ما زاد
على ذلك فلا حاجة إليه مطلقًا.
انظر إلى الطيور والحيوانات تجد أنها لا تأكل لمجرد التمتع باللذة، فهي لا
تملأ بطونها ملأ ولا تقبل الأكل إلا إذا جاعت ولا تأكل إلا القدر الذي يزول به ألم
الجوع وتقتصر عليه، ثم هي لا تجاوز الغذاء الذي هيئته لها الطبيعة بأيديها فلا
تطبخ طعامها، ولا تغير طعمه بطرق صناعية. فهل يمكن يا ترى أن يكون
الإنسان وحده قد خلق ليعبد لذته؟ وهل يمكن أن يكون هو وحده قد قدر عليه الشقاء
بالأمراض دائمًا؟ إن الحيوانات التي تعيش وتحيا حياة حرة طبيعية لا يموت منها
أحد بسبب الجوع، ولا يوجد بينها التمييز بين الفقير والغني - بين الذين يأكلون
مرات عديدة في اليوم، والذين لا يجدون الطعام ولا مرة واحدة في يومهم - إن هذا
التفاوت والتمايز لا يوجد إلا في البشر وحدهم. ومع ذلك نحن نعد أنفسنا أفضل
وأعلى من الحيوانات! لا ريب أن الذين يقضون أعمارهم في عبادة بطونهم لأحطّ
من الطيور والبهائم!
إن التدبر العميق يثبت لنا أن جميع الذنوب مثل الكذب والغش والسرقة إنما
هي نتائج لازمة لعبوديتنا للذة، والذي يستطيع أن يملك زمام لذته يستطيع أن يملك
بسهولة مشاعره الأخرى. إن كنا نكذب أو نسرق أو نزني تسقط منزلتنا من أعين
المجتمع الإنساني. ولكن ما أعجب ما نرى من أن الناس لا يبدون أي اشمئزاز أو
تحقير لأولئك الذين يتدينون للذة بطونهم بلا خجل ولا استحياء كأن هذا الإثم لا
علاقة لها بالأخلاق مطلقًا! وما ذلك إلا لأن أحسن الناس وأكبرهم أيضًا يعبدون
لذاتهم.
إن جميع المتمدينين يجتنبون مصاحبة الكذابين واللصوص والزناة، ولكنهم
أنفسهم يأكلون فوق كل حد، ولا يعدون ذلك ذنباً أصلاً! إن الخضوع للذة لا يعد
فينا ذنباً لأننا جميعاً نرتكبه، كما أن اللصوصية لا تعد جناية في قرية اللصوص!
وأقبح من كل هذا أننا عوضًا من أن نستحي من هذه العادة نفتخر ونتباهى بها.
فترى عبادة اللذة في الأعراس والأفراح والأعياد كوظيفة مقدسة واجبة علينا،
حتى في المآتم لا نخجل من القيام بهذا العار الفظيع! وإذا جاءنا ضيف بادرنا إلى
شحن بطنه بالحلوى، وإذا لم نُقم لأصحابنا وأقاربنا المآدب أو لم نشترك في
ولائمهم ووضائمهم كل حين نبوء بسخطهم، ونكون عرضة لملامتهم، وإن دعونا
أصحابنا إلى مائدتنا، ثم قصرنا في شحن بطونهم بالأطعمة الثمينة فإننا بلا ريب
نعد من البخلاء! وأما أيام المواسم والأعياد فنرى إعداد الطعام اللذيذ الشهي فيها
واجبًا كبيرًا علينا. لا ريب أن القضية قد انعكست الآن فأصبح الإثم الكبير في
الحقيقة محمدة وحسنة في عرفنا. نحن قد زعمنا في مسألة الأكل مزاعم باطلة
وجعلناها حقائق، فهي التي لا تسمح لنا بأن نفهم عبوديتنا وبهيميتنا. كيف نخلص
أنفسنا من هذه الحالة المحزنة المقلقة؟ إني أخاف إن توغلت في الجواب أن
أخرج من موضوع الصحة، ولذلك أقف عند القول بأنه يجب على الأفراد وعلى
الجماعات سواء أن يقفوا جميعًا أمام هذه المسألة المهمة وقفة المتدبر، ويتأملوا فيها
من الوجهة الصحية فقط.
ولننظر في المسألة من وجهة أخرى: نحن نشاهد بأعيننا أمرًا واقعًا لا مُشَاحَّة
فيه، وهو أن الطبيعة قد هيئت بنفسها لجميع المخلوقات - سواء فيها الإنسان
والحيوان والطير والحشرات - غذاء وافرًا يكفي لحياتها وبقائها، هذه هي سنة
الطبيعة الأبدية، أن في مملكة الطبيعة لا يغفل أحد، ولا ينسى أحد وظيفته، ولا
يأخذه في أدائها كسل ولا ملل، إن الشغل كله يؤدي فيها بغاية الإتقان وفي الوقت
المحدد له بلا تأخير لمحة من البصر، إننا لو نسعى سعياً صحيحًا دائمًا في جعل
حياتنا مطابقة لسنن الطبيعة الأبدية الثابتة لرأينا بلا بشك أنه لا يوجد إنسان في هذه
المعمورة الواسعة يموت جوعًا، وذلك لأن الطبيعة تهيئ دائمًا غذاءً وافرًا يكفي
لتغذية جميع المخلوقات. ومن هنا نعلم أن الذي يأخذ من الغذاء أكثر من نصيبه
الاعتيادي، يحرم الآخر من سهمه الشرعي، أليس هذا الأمر واقعًا، أليست مطابخ
الملوك والأمراء والأغنياء عامة تعد من الأطعمة أضعاف حاجتهم وحاجة أتباعهم؟
هكذا هم يغتصبون غذاءً كثيرًا من نصيب الفقراء فهل يتعجب بعد هذا إن مات
بعض الفقراء جوعًا؟ إن كان هذا صحيحًا (وقد اعترف بهذا الأمر الواقع كثير من
المفكرين) فمعناه أن كل ما نأكله أكثر من حاجتنا الضرورية ليس إلا اختلاسًا من
بطون الفقراء، إن كل ما نأكله لمجرد الاستمتاع والالتذاذ لا بد من أن يهدد صحتنا
بالخطر.
بعد هذه التوطئة يمكننا أن نتدبر في الغذاء الأصلح للإنسان.
((يتبع بمقال تالٍ))