للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أسئلة من القليوبية
(س ١-٧) مِن صاحب الإمضاء بأبي زعبل (من القليوبية) .
أستاذي الفاضل، الشيخ محمد رشيد رضا:
السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو،
وقد علمنا وعلم الناس أنكم - حفظكم الله - خليفة الأستاذ الإمام في القيام بأمر الدِّين
الخالص، ودحض الباطل عنه، فإن العِلم الدليل، وليس العِلم بالكُمِّ الطويل، وقد
طوحتني المقادير إلى بلدة ألعن بلاد الله تربة، يسكنها قوم أحلامهم دِقاق، ودينهم
نِفاق، يأخذون من العِلم القشور، ومن الأخبار الموضوعة، ومن العقائد الخُرافية،
فهم أشباه الرجال ولا رجال، يُكَفِّرون مَن قال بالمعراج بالروح، ومن أنكر وجود
الجنة والنار، ومن نفى رؤية الإله في الآخرة، ومن منع رجوع الشمس بعد مغيبها
عند إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوم العير، وعدم مجيء بيت المقدس
بين يديه - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجود الزُّناة وأكلة الربا بين مكة وبيت
المقدس، ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ليلة الإسراء كل ذلك لحُجج
عنده من أن هذه عقائد لا تثبت إلا بالقطع، وبعض هذه الأشياء لم يجد (كذا) فيه
دليل أصلاً، وبعضها قام عليه دليل غير يقينيّ مع قيام دليل العقل على خلافه،
ولما كنتم - بارك الله فيكم - أوقفتم أنفسكم على تحقيق مثل هذه المسائل نفعًا للأمة
وخدمة للدين، وقد شاهدنا غزارة علمكم وسعة فِكركم وكثرة اطلاعكم ورسوخ
ملكتكم العلمية التي قلَّ أن توجد لأحد من مُعاصريكم رجوت أن تكشف لي بَقِيت
أبدًا (؟) عن غطاء هذه المسائل وتُرجعها إلى أصولها، وتبرزها في صورتها
الحقيقية غير مشُوبة بخرافات المخرِّفين، بأدلتها من العقل أو الكتاب أو السنة
المتواترة أو المشهورة، كما هو شأنكم في جميع المسائل، لا زلت ينتفع بك الإسلام
والمسلمون.
... ... ... تحريرًا في يوم الثلاثاء ٥ شعبان سنة ١٣٣٤ هـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ولدكم: محمد عليوه
(المنار)
يؤخذ من هذا الكتاب بضع مسائل، ينبغي بيان الحق فيها، وها
نحن نتكلم عليها واضعين لكل واحدة منها عنوانًا.
(١)
تكفير المسلم بما لم يصح عنده
من مسائل الدين
قد اعتاد الناس الجرأة على التكفير بغير علم حتى إن بعض المؤلفين في الفقه
توسعوا في المكفِّرات، فزادوا الناس جُرأة على تكفير من يخالف مذاهبهم وتقاليدهم،
وإن لم تكن من الدين في شيء. وقد بيَّنَّا من قبل أن الأصل في ارتداد المسلم عن
دينه هو جَحْده أو تكذيبه شيئًا في حقية شيء يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
جاء به من أمر الدين؛ إذ يكون بذلك غير مؤمن بما جاء به الرسول - صلى الله
عليه وسلم - ولما كان الجهل في دار الإسلام غير عُذر جعل العلماء أمور الدين
قسمين:
(أحدهما) ما لا يُعذر أحد في دار الإسلام بجهله، وإن كان عاميًّا وهو
المُجْمَع عليه، المعلوم من أمر الدين بالضرورة، كفريضة الصلاة والزكاة والحج،
وكتحريم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، كالقتل والزِّنا وشرب الخمر والسرقة
والكذب والخيانة، فمن جَحَد من هذا القسم شيئًا كفر وعُدَّ مرتدًّا عن دين الإسلام.
وإنما يُعذر بجهل بعض هذه المسائل من كان قريب عهد بالإسلام لم يمرَّ عليه من
الزمن بعد إسلامه ما يكفي لوقوفه على ذلك، ومن نشأ بعيدًا عن دار الإسلام
كشاهق جبل - كما يقولون -.
(الثاني) ما شأنه أن لا يعرفه إلا المشتغلون بعلم الدِّين من فروع المسائل
وأصول الأحكام وأدلتها، فهؤلاء العلماء يؤاخذون بحسَب عِلمهم، فمن جحد منهم
شيئًا من الدِّين يعلم أنه ثَبَت في كتاب الله أو سنة رسوله أو أجمع عليه الصحابة،
ولم يكن متأولاً في جحده كان بذلك مرتدًّا كما هو ظاهر.
وأما من جحد أو أنكر شيئًا مختلَفًا في أصله أو دليله أو في دلالة ذلك الدليل
عليه؛ لأنه لم يصحَّ عنده أو لمعارض رآه أرجح منه بضرب من التأويل فلا يُعدُّ
مرتدًّا بذلك، ولكنه إذا انتهى به التأويل إلى مخالفة جماعة السلف الصالح من أهل
الصدر الأول عُدَّ مبتدعًا، وإن كان موحِّدًا مقيمًا لأركان الإسلام.
ولم يُكفِّر أهل السنة من أنكر خبر المِعراج، ولا من قال: إنه كان بالروح
فقط، بل قال بذلك بعض أهل السنة، ولا من قال إن الجنة والنار لم يُخلقا بعدُ
وإنما يُخلقان يوم القيامة، ولا من قال: إن المؤمنين لا يرون ربهم في الجنة، فقد
قال بذلك جمهور من الجهمية والمعتزلة ولم يكفرهم علماء السلف به، كما ترونه في
أشهر كتب العقائد التي تُدرَّس في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية في
جميع الأقطار.
وإذا كانوا لا يُكفِّرون من يُنكر أصل المعراج إلا إذا أنكر الإسراء المنصوص
في القرآن، ولا يكفرون من ينكر رؤية الباري - تعالى - في الآخرة المصرَّح بها
في الأحاديث المتفق عليها، فكيف يكفرون من ينكر رجوع الشمس للنبي - صلى
الله عليه وسلم - بعد غروبها، والحديث فيه غير صحيح، أو ينكر مجيء بيت
المقدس إلى الحجاز وكون المذنبين الذين رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم -
يعذَّبون كانوا موجودين بأجسادهم بين مكة وبيت المقدس، ولا نُصَّ على هذا في
كتاب ولا سنة، وما عهدنا أحدًا من علماء المسلمين يجعله من عقائد الدين،
وسترى معنى ذلك في المسائل الآتية:
***
(٢)
المعراج روحي أم جسدي
قد فصَّلنا القول في مسألة المعراج في المجلد الرابع عشر من المنار فلْيُراجع
في ص ٦٤٤ و ٧٣٢ منه، وفيه أن عُمدة من قال إن المعراج كان في المنام،
حديث شريك عند البخاري.
***
(٣)
رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- بيت المقدس
إن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيت لمقدس، ووصفه إياه
للمشركين وهو بمكة ليس معناه أن بيت المقدس انتقل إلى مكة، وإنما معناه أنه مَثَل
له كما مَثَلت له الجنة في عُرض الحائط، ولفظ الحديث في ذلك كما ورد في حديث
جابر في الصحيحين أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لما
كذبتني قريش قمت في الحِجْر فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن
آياته وأنا أنظر إليه) هذا نص حديث الشيخين، ومعنى جلاه أظهره.
وقال بعض العلماء: معناه كشف الحُجُب بيني وبينه حتى رأيته. قال
الحافظ في الفتح: ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد (فخُيِّل إليَّ البيت
المقدس) [١] فطفقت أخبرهم عن آياته فإن لم يكن مغيَّرًا من قوله: (فجلَّى) وكان
ثابتًا، احتمل أن يكون المراد أنه مَثَل قريبًا منه كما قدّم نظيره في حديث: أُرِيت
الجنة والنار وتأول قوله: (جيء بالمسجد) [٢] أي: جيء بمثاله - والله أعلم.
ووقع في حديث شدَّاد بن أوس ما يؤيد الاحتمال الأول، ففيه ثم مررت بِعِير
لقريش - فذكر القصة - ثم أتيت أصحابي قبل الصبح، فأتاني أبو بكر فقال: أين
كنت الليلة؟ فقال: (إني أتيت بيت المقدس) فقال: إنه مسيرة شهر فصِفْه لي،
قال: (ففُتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه)
اهـ المراد من عبارة الفتح.
وأما لفظ حديث أم سلمة عند مسلم (فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه)
فيتفق مع ما تقدم بمعنى أنه رفع إليه مثاله، وقد غفل من زعم أن بيت المقدس نُقل
من مكانه إلى مكة عما يترتب على ذلك من استحالة وجوده عند دار عقيل كما ورد
في رواية ابن عباس؛ لأن وضع الجسم الكبير في المكان الصغير الذي لا يبلغ عُشره
مُحال، ومن كون وجوده بمكة يستلزم أن يراه جميع الناس، ولو وقع ذلك لَتواتر،
ومن كون نقله يستلزم عِلم جميع أهله ومَن حولهم به، ولو وقع ذلك لَتواتر نقله
عنهم.
وقد غفل من مال إلى ترجيح ذلك اللفظ على ما هو أصح منه وأقرب إلى
المعقول عن كل ذلك، واكتفي بأن هذا أبلغ في المعجزة، وأن الله قادر عليه، وهو
لم يكن مما وقع به من التحدي، ولا ترتب عليه إيمان أحد. فهل يُبطل الله -
تعالى - سنته في الكون عبثًا؟
وهذا التوجيه يحتاج إليه في رؤية بيت المقدس من اعتمد قول الجمهور: إن
الإسراء فقط أو الإسراء والمعراج معًا كانا في حال اليقظة بالروح والجسد كمن قال:
إن ذلك رؤيا منامية، أو مشاهدة روحية وقعت حال اليقظة؛ لأن سؤال قريش
النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصف لهم بيت المقدس إنما كان في اليقظة قطعًا
بغير خلاف.
***
(٤)
رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - المذنبين يعذبون
إذا كانت رؤية النبي لبيت المقدس من قَبِيل الكشف الذي يحصل بإدراك
النفس للشيء بغير واسطة العينين، أو بجعل الله - تعالى - مثال ذلك أمام العينين
فالظاهر أن رؤية من رآهم يعذّبون بذنوبهم من قبيل رؤية المثال بالأولى؛ لأن
بيت المقدس من عالم الشهادة، وعذاب المذنبين بما رُوي في الحديث من عالم
الغيب ليس له مكان في الدنيا يشاهد بين مكة وبيت المقدس. وكل ذلك من آيات الله
التي أراه إياها في ليلة الإسراء.
ومن هذا القبيل رؤيته الجنة والنار، وهو يخطب كما رُوي في الصحيحين.
وتعبيره عن ذلك في بعض الروايات بأنهما مثلَتا له في الجدار. وقد وصفت الجنة
في القرآن بقوله - تعالى - {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الحديد: ٢١) فهل
تجتمع هي والنار في جدار المسجد؟ وورد أن من أولئك المعذَّبين من تتثاقل
رءوسهم عن أداء الصلوات - والصلاة لم تكن شرعت - فقد تمثل له - صلى الله
عليه وسلم - عذابهم قبل وقوعه بالنسبة إلى أمته.
إن رؤية البشر الروحية لبعض الموجودات الغائبة عن أبصارهم قد تثبت
بالتجارب الكثيرة في جميع الأقطار، ومنها ما ثبت للدكتور شبلي شميل من علماء
العصر الماديين، وقد ذكرنا في بعض مجلدات المنار خبره مع المريض الذي كان
يعالجه، ويسمع منه الأخبار الكثيرة عما يدركه بنفسه غائبًا عن حسه كإخباره عن
قريب له في الإسكندرية بأنه سافر منها إلى القاهرة في القطار الذي يتحرك من
الإسكندرية في ساعة كذا، ثم إخباره بوصوله إلى محطة القاهرة، وركوبه العربة
منها قاصدًا دار المريض، ثم بوصوله إلى باب الدار، وكان الأمر كما قال.
وأذكر مما وقع لي من ذلك في الصغر أنني هربت مرة من الكُتَّاب واختبأت
في بستان لجدتي، أم والدتي، وكنا نحن مصطافين في بستان لنا يبعد عن هذا
البستان مسافة زُهاء ربع ساعة، وكانت جدتي في بستاننا فتمثلت لي خارجة منه
حتى كأني أنظر إليها متتبعًا خطواتها من أول الطريق إلى آخره حتى أنني ناديتها
عندما وصلت إلى مدخل بستانها وقبل أن تدخله ويقع بصري عليها فأجابتني،
وكنت أعتقد أنها تحمل إليّ ما يطيب لي أكله فكان كذلك. ومثل هذا كثير.
ولكن ما يقع للأنبياء من ذلك فوق ما يقع لبعض البشر، كذلك المريض
وبعض الصوفية، وأكمل منه؛ لأنه يشمل عالم الغيب وما لا يصل إليه غيرهم من
عالم الشهادة.
***
(٥)
رجوع الشمس بعد غروبها
أو وقوفها للنبي -صلى الله عليه وسلم-
يرى السائل تفصيل القول في هذه المسألة في ص ٧٠ من مجلد المنار التاسع
وحسبُك منه قولنا هنالك: (إن مسألة رد الشمس له - صلى الله عليه وسلم - قد
ورد في رواية ضعيفة من أحاديث المعراج، وورد في رواية أقوى منها في مناقب
علي - كرم الله وجهه -. وهذه الرواية وثَّقها الطحاوي في (مشكل الآثار) وتبعه
القاضي عياض في الشفاء، وقد تكلم فيها بعض الحُفَّاظ، بل أوردها ابن الجوزي
في الموضوعات، وتعقبه في اللآلئ (فإن شئت الزيادة وما قيل في الطعن في
الرواية فارجع إلى المجلد التاسع أو إلى الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة
للإمام الشوكاني.
***
(٦)
وجود الجنة والنار
ظواهر نصوص الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة المتفق عليها، تدل على
أن الجنة والنار داري الجزاء للأبرار والفُجَّار هما عالَمان مخلوقان، ولا نرى ما
يعارض هذه الظواهر من الدلائل العقلية ولا النقلية، فإن كان لدى السائل ما
يعارض ذلك فليذكره لنا لنبين رأينا فيه.
***
(٧)
رؤية الباري -سبحانه وتعالى-
في الآخرة
إن من أصول العقائد القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن نعيم الآخرة
قسمان، رُوحاني وجسماني؛ لأن البشر لا تنقلب حقيقتهم في الآخرة بل يبقون
بشرًا أُولي أرواح وأجساد، ولكن الرُّوحانية تكون هي الغالبة على أهل الجنة،
فيكون النعيم الروحاني عندهم أعلى من النعيم الجسماني. ومن الثابت بالاختبار
والتجارب أن العلماء الراسخين والحكماء الربانيين، والفلاسفة الماديون [٣]
والرؤساء السياسيين، كلهم يفضلون اللذات العقلية الروحية والحياة المعنوية، على
اللذات المادية الجسَدية، فترى أحدهم يزهد في أطايب الطعام، وكئوس المُدام،
ويتجافى جنبه عن مضجعه، ذاهلاً عن حقوق حَليلته، تلذُّذًا بحَل مشكلات المسائل،
واكتشاف أسرار الكون، أو بالنفث في عُقَد السياسة، وما تقتضيه أعباء الرياسة؛
ألا وإن أعلى العلوم العقلية والمعارف الرُّوحية في هذه الدنيا هو معرفة الله -
سبحانه وتعالى - والعلم بمظاهر أسمائه وصفاته في خلقه، والوقوف على سُننه
وأسراره فيها، وكشْف الحُجُب عما أُودع فيها من الجمال والجلال، وفي النظام
الذي قامت به من آيات الكمال، التي هي مُجلَّى صفات بارئها، منتهى الجمال
والجلال والكمال {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} (الرعد: ٩) .
وما زال أصحاب الهمم العالية من العلماء والحكماء، يستدلون بما ظهر لهم من
تلك السنن والآيات على كمال مبدعها ومبدئها ومصرِّفها، وتتطلع عيون عقولهم إلى
كيفية صدور الوجود الممكن الحادث، (وهو مجموع هذه العوالم العلوية والسفلية)
عن الوجود الأزلي الواجب، ويهتمون بارتقاء الأسباب بعد ذلك، بتّحوُّل البسائط
وتولُّد بعضها من بعض، قبل وجود هذه المركَّبات المعروفة من السماء والأرض،
طمعًا في معرفة حقيقة ذلك الوجود الأعلى، على عجزهم عن إدراك كُنْه أدنى هذه
الموجودات السُّفلى، وقد اختلف الحكماء في إمكان وصول العِلم البشري إلى حقيقة
الوجود الأول الأزلي، وكيفية صدور الموجودات الممكنة عنه - فقال بعضهم
بإمكان ذلك وتوقع حصوله في يوم من الأيام، وقال آخرون بأنه فوق استعداد الأنام.
والحق في ذلك ما هدانا إليه دين الله الحق، وهو أن إدراك أبصار الخلق
له - سبحانه وتعالى - وإحاطة علمهم به من المُحال الذي لا مَطمع فيه {لاَ تُدْرِكُهُ
الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الأنعام: ١٠٣) , {يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: ١١٠) ولكن العَجْز عن
الإدراك والإحاطة، لا يستلزم العجز عما دون ذلك من العلم والمعرفة، التي ترتقي
إلى الدرجة التي عُبِّر عنها بالتَّجلي والرؤية، فإن كانت ظواهر الآيات في ذلك
متعارضة، فالأحاديث والآثار الصحيحة المبينة له جلية واضحة.
إنما وقع المِراء بين المتكلمين والمتفلسفين، وبين علماء الآثار في كلمة
(الرؤية) فأثبتها أهل الأثر؛ لدلالة ظواهر القرآن ونصوص الأحاديث عليها،
ومنعوا قياس رؤية الباري - تعالى - على رؤية المخلوقات، بدعوى استلزامها
التحيز والحدود، وغير ذلك من صفات الأجسام، وقالوا: إننا لا نبحث في كيفيتها
كما أننا لا نبحث في كيفية ذاته ولا صفاته - تعالى -، فإننا نجزم بأن له علمًا
وقدوة وسمعًا وبصرًا، ولكن علمه ليس كعلمنا ناشئًا عن انطباع صورة المعلومات
في النفس، ومكتَسَبًا لها بالحواس أو الفكر، وكذلك قدرته وسائر صفاته.
فنحن نجمع بين الإيمان بالنصوص في أسماء الله وصفاته وأفعاله وسائر
شئونه، وبين تنزيهه عما لا يليق به من مشابهة خلقه الممنوعة بدلائل النقل
والعقل، كما قال - عز وجل -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: ١١) .
ونفاها أهل الكلام والفلسفة بناءً على قياس الخالق - سبحانه وتعالى - على
المخلوق، ودعوى منافاة الرؤية للتنزيه، الذي هو أصل العقيدة وركنها الرَّكين.
ولكنهم لا يستطيعون إنكار الحقيقة التي أثبتها أهل السنة والجماعة إذا عبر عنها
بغير لفظ الرؤية كأن يقال: إن أعلى نعيم أهل الجنة لقاء الله - تعالى - بتجليه
عليهم، تجليًا يحصل لهم به أعلى ما استعدت له أنفسهم وأرواحهم من المعرفة،
وإن أعظم عقاب لأهل النار حَجْبهم عن ربهم، وحرمانهم من هذا التجلي والعِرفان
الخاص بدار الكرامة والرِّضوان، فإنهم لا يعتنون بتأويل مثل قوله - تعالى -
في المتقين: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} (الأحزاب: ٤٤) وقوله في الكافرين:
{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: ١٥) كما يعتنون بتأويل
قوله: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: ٢٢-٢٣) بأن النظر
معناه الانتظار والرجاء، وما ردَّ به بعضهم على بعض في الآية يُطلب من الكشَّاف
والبيضاوي وحواشيهما، وسائر كتب التفسير، ومن كتب الكلام، وشروح
الأحاديث.
وكم بين حُذَّاق الجِدال تَنَازُع ... وما بين عُشَّاق الجمال تَنَازُع
ومن غرائب جدالهم أن كلاً منهم يستدل على مذهبه بطلب موسى - عليه
السلام - رؤية ربه، وقوله - تعالى -: {لَن تَرَانِي} (الأعراف: ١٤٣) الآيةَ
فأهل السُّنة يستدلون على جواز الرُّؤية بسؤال الكليم إياها، وعدم إنكار الباري -
تعالى - عليه هذا السؤال كما أنكر على نوح - عليه السلام - سؤاله نجاة ولده الكافر
بناءً على أنه من أهله الذين وعده بنجاتهم - وبتعليق الرؤية على جائز وهو
استقرار الجبل، والمعتزلة يستدِلون بالآية على عدم الرؤية بعدم إجابة الكليم إليها،
وتعليقها على ما عَلِمَ الله أنه لا يكون.
وإذا كانت الآيات التي استدل بها كل فريق ليست نصًّا قاطعًا في مذهبه، ففي
الأحاديث المتَّفَق عليها ما هو نصّ قاطع، لا يحتمل التأويل في الرؤية وتشبيهها
برؤية البدر والشمس في الجَلاء والظهور، وكونها لا مضارَّة فيها ولا تضامّ ولا
ازدحام.
وفي كتاب التوحيد من صحيح البخاري أحد عشر حديثًا في ذلك، وجمع ابن
القيم في (حادي الأرواح) ما ورد في ذلك من الأحاديث، فكان ثلاثين حديثًا. قال
الحافظ ابن حجر عند إشارته إلى ذلك: وأكثرها جِياد. وزاد ابن القيم ما ورد عن
الصحابة والتابعين وأئمة علماء الأمصار في ذلك، وحملهم إياه على ظاهره مع
تنزيه الله - تعالى - فكان بعض ما قالوه تأويلاً أبعد من تأويل المنكرين.
قال الحافظ في الكلام على تفسير {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: ٢٢-٢٣) من شرح كتاب التوحيد من البخاري ما نصه: واختلَف مَنْ
أثبت الرؤية في معناها، فقال قوم يحصل للرائي العلم بالله - تعالى - برؤية العين
كما في غيره من المرئيات، وهو على وَفْق قوله في حديث الباب: (كما ترون
القمر) إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية، وذلك أمر زائد على العلم.
وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية العلم، وعبَّر عنها بعضهم بأنها حصول
حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة، نسبة الإبصار إلى المرئيات. وقال
بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم، وهذا
أقرب إلى الصواب من الأول اهـ.
ثم ذكر ما تعقب به من قال: إن المراد بالرؤية العلم. وإنما قال في القول
الأخير: إنه أقرب إلى الصواب، لما فيه من التفويض وعدم التحديد، وهذا المعنى
هو الذي قال به الغزالي وأوضحه في كتاب المحبة من (الإحياء) بما يَعْهد من قرأ
الإحياء من بيانه وفصاحته.
هذا وإن إحصاء ما ورد في هذا الباب مما استدل به على الرؤية إثباتًا ونفيًا
من الآيات والأحاديث، وسرد كلام المثبتين والنُّفاة، وبيان الراجح منه والمرجوح
يستغرق عِدَّة أجزاء من المنار، ولن يُرضي ذلك منا أكثر القراء، وجملة القول
في المسألة أن الآيات القرآنية فيها ليس فيها نص قاطع لا يحتمل التأويل، ولكن
الأحاديث الصحيحة والحسنة صريحة في ذلك لا تحتمل التأويل، والمرفوع منها
مروي عن أكثر من عشرين صحابيًّا دَعْ الموقوف والآثار.
ولم يرد في معارضتها شيء أصرح من حديث عائشة المتفَق عليه عن
مسروق قال: قلت لعائشة: - رضي الله عنها - يا أمتاه هل رأى محمد - صلى
الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قفَّ شَعري مما قلت! أين أنت مِن
(ثلاث مَن حدثكهن فقد كذب) مَن حدثك أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى
ربه فقد كذب، - وفي رواية (فقد أعظم على الله الفِرية) - ثم قرأت:
{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الأنعام: ١٠٣) ,
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى: ٥١)
ومَن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ
غَداً} (لقمان: ٣٤) ومن حدثك أنه كتم - أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كتم شيئًا من الدين - فقد كذب، ثم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ} (المائدة: ٦٧) - الآية- ولكن رأى جبريل في صورته مرتين اهـ.
وقد ذكر النووي في شرح مسلم أن عائشة لم تنفِ وقوع الرؤية بحديث
مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر
الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة ... إلخ.
وذكر الحافظ في الفتح أنه قال ذلك تبعًا لابن خُزَيمة ذاهلاً عما ورد في
صحيح مسلم الذي شرحه، وذكر أن في حديث مسروق عنده زيادة عما ذكرناه من
لفظ البخاري، وهي: قال مسروق: وكنت متكئًا فجلست وقلت: ألم يقل الله:
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (النجم: ١٣) فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: إنما هو جبريل ... إلخ.
فعلم من هذا أن عائشة تنفي دلالة سورة النجم على رؤية النبي - صلى الله
عليه وسلم - لربه بالحديث المرفوع، وتنفي جواز الرؤية مطلقًا أو في هذه الحياة
الدنيا بالاستدلال بقوله - تعالى -: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام: ١٠٣) ،
وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى: ٥١) ويعارض هذا الاستدلال أنه ليس نصًّا في النفي حتى يُرَجَّح
على الأحاديث الصريحة في الرؤية، وقد قال بها بعض علماء الصحابة.
وقال بعض العلماء: إن عائشة ليست أعلم عندنا من ابن عباس الذي أثبت
الرؤية للنبي ليلة المعراج، وفي هذا القول بحث، فإن ابن عباس استنبط إثبات
الرؤية في الدنيا من الآيات، وقد انفرد بذلك دون سائر الصحابة، وأما من رُوي
عنهم إثبات الرؤية في الآخرة، فليس فيهم أحد يقال: إنه أعلم من عائشة إلا والدها
الصدِّيق وعليُّ المرتضى وزيد بن ثابت وقد يذكر في طبقتها منهم العبادلة. ولكن
الحديث عن أبي بكر وزيد بن ثابت في هذا الباب ضعيف، وعن علي موضوع
حتى إن ما رُوي عنها نفسها فيه أقوى سندًا.
ويقول النفاة: لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج لما
خفي نبأ ذلك عن عائشة مع ما علم من حرصها على العلم، وسؤالها إياه عن آية
النجم؟ وقد يقول النفاة أيضًا: لو كانت الرؤية في الآخرة عقيدة يطالب المسلمون
بالإيمان بها لما جهلتها عائشة. ولكن هذا القول لا ينهض لمعارضة إثبات المثبتين
لها بالأحاديث الصريحة، وإنما قصاراه أن يعد دليلاً على أن المسألة من أمور
الآخرة التي كان يذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا لبعض الخواص؛ إذ
لا يضر العامة جهلها، فلم يقصد أن تكون عقيدة يدعى إليها مع التوحيد.
وأحسن ما يجاب به عن استنباط عائشة وأقواه عند المثبتين أن يقال: إنها
تريد به نفي الرؤية في الدنيا كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شئون البشر في
الآخرة على شئونهم في الدنيا؛ لأن لذلك العالم سُننًا ونواميس تخالف سنن هذا العالم
ونواميسه حتى في الأمور المادية كالأكل والشرب والمأكول والمشروب. فماء الجنة
غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره في مَقره أو جوّه، وخمرها
ليس فيها غَوْل يغتال العقل ولا يُصَدَّعون عنها ولا يُنْزِفون، ولبنها لا يعتريه فساد
ولا تخالطه (ميكروبات) أمراض، وكذلك فاكهتها وثمراتها هي على كونها أعلى
وأشهى مما في الدنيا لا تفسد. قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة
إلا الأسماء.
وكذلك أمزجة أهلها، هي أصح وأسلم من أمزجة أهل الدنيا حتى إنهم يأكلون
ويشربون فيكون هضمهم بالتبخر ورشح العرق، ففي الحديث الصحيح أنه جشاء
ورشح، لها ريح المسك ولا عجب في ذلك، فإن علماء العصر الذين يظنون أن في
كوكب المريخ أحياء عقلاء كالبشر يجزمون بأنهم لا بد أن يكونوا أكبر منا أجسامًا
وأسرع من الخيل العادِيَة في حركتهم العاديّة، هذا وعالم المريخ لا يُعرف فيه من
الحياة الرُّوحانية العالية مثل ما ورد في حياة الجنة، ولكن ما ذكره علماء العصر
في شأنه يقرِّب تصوُّر ما ورد في صفة الآخرة من الأذهان المقيدة بالمألوفات، فإن
بعض الناس إنما ينكرون أخبار الآخرة؛ لأنها مخالفة لما جمدوا عليه من المألوفات،
ولو أنهم أخبروا بما اكتشف من أسرار الكون في هذا العصر كخواص الكهربا
والراديو قبل أن يصير مشهودًا مقطوعًا به لَمَا صدقوه.
قال الله - عز وجل- في بيان جزاء المؤمنين القائمين بأعمال الإيمان حق
القيام: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: ١٧) ووضح ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث قدسي رواه
الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال - صلى الله عليه وسلم - (قال الله عز
وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر) وروى أهل الكتاب مِثل هذا عن سيدنا عيسى - صلى الله عليه وسلم -
فإذا ثبت لنا أن كل ما في دار الكرامة أعلى وأسمى مما في الدنيا حتى الأجسام،
وصفات الناس وغرائزهم وأنه لا يشارك ما في الدنيا إلا بالاسم. الذي عبر به
لضرورة تقريب تلك المعاني الغيبية من الفهم، فهل يصح بعد ذلك أن نعمد إلى
أعلى ما هنالك من الشئون الإلهية المعنوية فنشبهه بشئون الدنيا فنجعل تجلي
الرب - سبحانه وتعالى - لأولئك العباد المكرَمين الذين رقاهم وكمَّلهم وأهَّلَهم
لكمال معرفته تحيُّزًا ومشابهة الخلق؟ ونجعل ما يحصل لهم من ذلك التجلي من
العلم الأكمل والمعرفة العُليا التي تستغرق أرواحهم، وجميع مشاعرها الظاهرة
والباطنة إدراكًا لكُنْهه -عز وجل - وإحاطة علم به - تعالى - عن ذلك؟ ثم نعذر
أنفسنا على هذا الجهل بأن ذلك قد سمي رؤية ومعاينة، ولا بد أن تكون الرؤية
هنالك كرؤيتنا التي نعهدها هنا؟
سبحان الله! أيكون كل ما هنالك من أعيان المخلوقات وصفاتها وأحوالها
مخالفًا لما له اسمه منها هنا إلا ما يتعلق بشأن الخالق - عز وجل - فهو الذي يجب
أن يكون مشابهًا لشئون المخلوقين بعضهم مع بعض؟ أهذا هو المذهب الذي يدعي
أصحابه اتِّباع المعقول، ويسخرون من أهل السنة بزعمه أنهم جمدوا على بعض
أحاديث الآحاد من المنقول؟ وهم الذين قد جمدوا على ما دون ذلك من الألفاظ
العربية التي استعملت في صفات الباري - تعالى - وشئونه وأخبار عالم الغيب
فتراهم يصرفونها عن معانيها، ويعطلون مدلولاتها المقصودة لتوهمهم أنها لا تكون
صحيحة إلا إذا كانت مدلولاتها في عالم الغيب كمدلولاتها في هذا العالم من كل وجه
ثم تحكموا فأثبتوا بعض صفات البارئ - تعالى - بدون تأويل، كالعلم والقدرة
والإرادة، وأوَّلوا أكثرها، كالكلام والرحمة والمحبة والغضب والرضا والعُلُوّ،
والوجه واليدين ... إلخ وهذا عين التشبيه، وهذا عين التعطيل - وأهل السنة
يُثبتون له - تعالى - كل ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - ويُنزهونه فيه كله عن مشابهة خلقه، ولا يَرَوْن فارقًا بين العلم
والرحمة والكلام، فكلها من صفات الكمال الثابتة له مع التنزيه.
فعلمه ليس كعلم البشر منتزعًا من صور المعلومات بالحس أو الفكر، وكلامه
ليس كيفية عرَضِيَّة تحصل بتموج الهواء بتأثير الصوت الذي يخرج من الفم،
وكذلك سائر شئونه - تعالى -، فتجلِّيه لخواص خلقه في دار كرامته ليس كظهور
بعضهم لبعض، وإذا قد عرفنا بالمُشاهدة في عالم الحِسّ أن إيقاد مصباح الزيتون أو
زيت البترول لا يشبه إيقاد مصباح الكهرباء بوجه من الوجوه، ولا يشترط في
الثاني ما يُشترط في الأول - ونجزم بأن هذا الفرق لا يمكن أن يتصوره من لم
يعرف الكهرباء ألبتة - فيجب علينا أن لا نستغرب ما هو أبعد من هذا الفرق بين
عالم الغيب والشهادة في اختلاف الكيفية لحقيقة واحدة كالرؤية.
ومَن كان له حظّ من معرفة الله - تعالى - في الدنيا لا يحتاج إلى الأمثال،
وحسب المحروم منها أن ينتفع بالأمثال، {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا
إِلاَّ العَالِمُونَ} (العنكبوت: ٤٣) .
((يتبع بمقال تالٍ))