(٥) ولنعد بك إلى الحملة الصليبية وذكر السبب الذي كان عاملاً في إخفاقها: قيض الله للإسلام في ذلك العهد رجلين نبيلين أو وليين مقربين بل مَلَكين سماويين - هبطا إلى العوالم السفلية وتجلببا بجلباب البشرية وسُميا بنور الدين وصلاح الدين، يقولون: لكل اسم من مسماه نصيب. وما أظهر انطباق قولهم هذا على الرجلين. فلقد كان الأول نورًا انسلخت بأشعته ظلمات الظلم واستبان بوميضه مهيع العدالة والحكم وكان الثاني صلاحًا لأمته وعماد وجودها وملاك راحتها وقوام سعادتها. لم يكُ الرجلان من صميم العرب ولا من سروات عدنان ولا من بيوتات قريش ولا من معادن الخلافة، فإن أحدهما تركي والآخر كردي، لكنهما وصلا في استجماع المزايا الإنسانية واستتمام الكمالات البشرية إلى مرتبة هي أقصى ما يُتاح لغير الأنبياء والمرسلين، وبلغا من التزام حدود الشرع والاستمساك بعروة الدين وانتهاج منهج السلف الصالح مبلغًا لم يبلغه - بعد الخلفاء الراشدين -أحد غيرهما. هذا ما حمل بعض نقاد المؤرخين على إدماجهما في مصاف الخلفاء الراشدين وطي اسمهما في سجل أسمائهم. وحق ما فعل. دين وعلم وعفة ونجدة ونخوة وبسالة وحزم ودهاء وبصارة وحماية وزهادة ورأفة وتواضع، وهل يعوز الخلافة الراشدة غير هذه الخلال؟ أليس نور الدين هو الذي كان يتبحث عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ويتقصى شؤونه كلها؛ ليقتدي بها ويهتدي بهدْيها؟ أليس هو الذي كان يخاطر بنفسه في الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، فقال له بعض عظماء دولته: الله الله في نفسك يا مولاي، ارفق بها ولا تعرض المسلمين بعدها للخطر، فغضب من مقالته وقال: (مَن يكون محمود - يعني نفسه - حتى تتوقف سلامة المسلمين عليه إن للمسلمين ربًّا يتولى حفظهم وكلاءتهم) ، الله أكبر هذا القول من نور الدين جدير بأن يُتَّخذ قانونًا في معاملة الملوك لأممهم، فلا يرون لأنفسهم عليهم فضلاً ولا منة، فضلاً عن استدراجهم في العبودية وامتهانهم بسلب إرادتهم واختيارهم وإماتة نفوسهم وهضم حقوقهم وحرمانهم من واجباتهم بل إنزالهم منزلة البهائم تغدو وتروح في حاجات أصحابها، ولا ينالها من سعيها إلا بعض العلف يلهو به كرشها. أما صلاح الدين فكان آية من آيات الإسلام في القرون الوسطى. كان جامعًا بين شهامة الملوك وعظمة السلاطين وبين دعة الزهاد وسكينة النساك، وشؤونه في إدارة بلاده الداخلية وفي سياستها الخارجية، وأعماله في إبان السلم وأوقات الحرب، ومعاملته للعدو في كلتا الحالتين - كل ذلك لو دوِّن كان خير نظام للدول وأحسن قانون تحذو على مثاله الشعوب والأمم. لو عرضت وقائع هذا البطل وأعماله وأطواره وأقواله على ما اخترعته أوروبا ودعته حقوق الدول - لكانت منطبقة عليه، بل ربما كانت على وضع أقرب إلى طبائع الناس وأضمن لمصالحهم وأوفق لنواميس الاجتماع البشري وأكفل لانتظامه. وقد كان - رحمه الله - كريم الأخلاق طيب النفس واقفًا عند حدود الشرع مع معاهديه وأهل ذمته، يبذل لهم في حالة السلم والهدون من العدل والمساواة بينهم وبين غيرهم والرحمة والرفق بهم وحسن المعاشرة والمجاملة معهم ما لا يطمعون به إبان الحرب وساعة الطعن والضرب، ويريهم بعد انسلاخ الهدنة ومُضي مدة العهد من الصلابة والحمس الديني والشدة والغلظة ما لا يتخيلونه فيه وقت السلم ولا يستشعرونه منه في سُويعات الأُنس والمباسطة. بينما هو نور بسيط يبهج النفس ويلذ المشاعر في وقت السلم إذا هو في الحرب شرارة كهربائية وصاعقة جوية تقتنص الآجال. وتدك راسيات الجبال. نسيم لطيف ينعش الحواس ويفرح القلب، فما أسرع ما يتحول إلى إعصار فيه نار ينسف الأبراج والحصون وينزل بمن لحقه ريب المنون ماء زُلال سائغ للشاربين، حتى إذا استصرخته الحرب عاد سيلاً أتيًّا (غريبًا) يقتلع ما يمر عليه ويجرف ما اعترض في سبيله. هكذا فليكن الرجل المسلم، هكذا أُمرنا أن نكون. هكذا كان شأن الأمة في الصدر الأول. محاسنة ملائكية في وقت السلم، مخاشنة غضنفرية في وقت الحرب. بهذا امتد رواق الدين على رؤوس الأمم. بهذا خضعت الرقاب لتعاليم الإسلام. بهذا تقبَّلت الناس دين الله ودخلوا فيه أفواجًا أفواجًا. وكان صلاح الدين نور الله مرقده غيورًا على مصالح أمته ولوعًا برفع شأنها مقبلاً بشراشره (بكُليته) على حمايتها والذود عنها، ألا تعيرني إصغاءك وتسمع من نجدة هذا الرجل وبُعد همته وكبر نفسه ما يُحدث لك عجبًا وتهتز نفسك له طربًا؟ لما كانت تضع الحرب العَوان أوزارها بين المسلمين والصليبيين ويتهادن الطائفتان ويتحاجز العسكران - كان صلاح الدين يأذن لجنوده وأبطاله أن ينقلبوا إلى منازلهم ويقضوا لباناتهم من لقيا أهليهم ومناغاة أطفالهم، وما تظنه فاعلاً هو؟ ! ما كان يناغي ويباغم [١] ويلهو وينادم، بل كان يعمد إلى هضبة مشرفة على حدود العدو فينصب عليها خيمته ويرتبط بجانبها فرسه ويركز على بابها رمحه ويعلق فيها شكته [٢] ويرفع فوقها رايته، ويلبث هناك في نفر من مماليكه وبطانته طول مدة الهدون والمتاركة، تتلاعب بخيمته الرياح المتناوحة. وتهطل عليه السحب الغادية الرائحة. كل ذلك ليكون متبوَّؤه بمثابة مسلحة [٣] للمسلمين تدرأ عنهم الطوارئ. وهو فيها كربيئة [٤] وعين تحرسهم من العدو المفاجئ. يا سبحان الله! ما أشد كلف هذا الرجل ببذل ما وجب عليه. وما أنشطه للقيام بحماية ما أُسند من أمر الأمة إليه. أما والله لو كان في الإسلام منقبة فوق الخلافة الراشدة لوجبت لهذا البطل وكان أحق بها وأهلها. لِمَ نضنّ على الرجل بهذه المفخرة الجليلة وهو قد سعى إليها سعيها؟ لِمَ لا نشيد بذكره وننوه باسمه على تعاقب الأيام والسنين؟ لم لا يحفظ لنا تاريخنا شأنه ويوفيه حقه من الإطراء والثناء والشكر؟ وحق الإنصاف لو كان هذا البطل في أمة اليونان القديمة لجذبوا بضبعه إلى مصاف الآلهة وبوّءوا تمثاله أرفع مكان في (بانتيون) [٥] . أستغفر الله، إن هذا الإغراق في القول والتنطع في الوصف والتفنن في الألقاب إنما بعثه في نفوسنا وهاجه في خواطرنا وحرك به ألسنتنا وأقلامنا ما نراه لهذا العهد في أمراء المسلمين وملوكهم من التفريط في شؤون أممهم والتواكل في العمل للمّ شعثهم، وإلا فالرجل لم يأتِ ببدع ولم يعمل عجبًا ولم يفعل ما فعل عن تبرع وتطوع، ولم يلزم نفسه بمزاولة ما وراء المطلوب منه، ولم يكلفها بغير ما تتقاضاه الذمة إياه، فهو إنما أتى بالواجب عليه لأمته وقضى حقًّا لها وقام بما تستوجبه بيعتها؛ فإن للأمة على خليفتها حقوقًا وواجبات كما له عليها طاقة وإتاوات. وهذا لم يكن بالشيء المجهول بين أهل الإسلام حتى عند عجائزهم. ألم يبلغك قصة تلك العجوز مع الخليفة الثاني؟ حكي أن عمر رضي الله عنه كان يعسّ حول المدينة فمر في تطوافه على خباء سمع فيه دندنة فتسمّع فإذا بعجوز في صبية يتضاغَوْن (يتصايحون) من الجوع وهي تلهيهم وتعللهم بقدر وضعتها على النار وجعلت فيها ماءً وألقت فيه حصيات، فجعل الأولاد كلما سمعوا أزيز القدر هدءوا وهوَّموا فلامها عمر وقال: لِمَ لَمْ تأتِ الخليفة وتأخذي من بيت مال المسلمين ما به كفايتك وكفاية أطفالك؟ فرفعت إليه بصرها وقالت له - كالمتعجبة-: على أي شيء بايعناه إذا لم يتفقد حاجتنا ويتعهد ذوي الفاقة منا، بما يسد عوزهم، ثم ذهب عمر إلى بيت المال واحتمل لهم بنفسه طعامًا وطلب من العجوز أن تجعله في حل من هذه التبعة وكتب بذلك (قطًّا) أوصاهم أن يدسوه في مَطاوي أكفانه. كل ذلك منه خشية أن يلقى الله وفي الأمة التي بايعته عجوز تدعي أنه لم يفِ بحقوق البيعة. هذه هي الخلافة في الإسلام. هذه هي واجبات الخلافة المقدسة. هذا هو الخليفة الذي يخشى أن تلحقه تبعة ولو من إحدى عجائز رعيته. هذه هي الأمة التي تطالب بحقوقها. هذه هي الأمة التي خالط حب الحرية لحمها ودمها. هذه هي الأمة التي يعرف كل فرد من أفرادها حتى العجائز، ما هو له وعليه. بهذه المبادئ الشريفة سادت تلك الأمة على مَن ناوأها. بهذه المبادئ الشريفة غمرت آداب تلك الأمة وتعاليمها سائر الآداب والتعاليم. لا ريب أن الذكي الألمعي قد فهم مما ذكرناه عن نور الدين وصلاح الدين أن البلاد الشامية لعهدهما كان فيها روح يمكنها به صد غارات الحملة الصليبية وفلّ غربها، لكن بقي من شؤون تلك البلاد حينئذ شأن هو منها بمنزلة الأعصاب من الجسم الحيواني، أو نسبة الشؤون إلى ذلك الشأن نسبة العين إلى بؤبئها الذي تجتمع فيه الأشعة ويتوحد متعددها فتبصر العين المرئيات. ذلك الشأن هو الوفاق والوحدة ليس ذلك بين الملكين المذكورين فقط، بل بين لفيف الأمراء والقواد والأبطال ومساعر هاتيك الحروب. ومما يسر السامع ويزيد من ثلجه واستبشاره أنه لم يكن تجاه الحملة الصليبية خليفتان كخليفتي غرناطة المشؤومة بل كانت الزعامة الكبرى والسلطة العظمى في يد نور الدين والكل خاضعون له عارفون حقه واقفون أنفسَهم على شد أزره وموازرته حتى إذا استأثر الله به وزفت الملائكة روحه المباركة إلى حيث تسرح أرواح المقربين، قام بعده بالأمر صلاح الدين خير قيام وساور وحده جميع ملوك الإفرنج ومارس أقيالهم وعلوجهم ودافع عن الوطن دفاعًا قانونيًّا عرفه له الغربيون قبل الشرقيين، ولم تزل تلهج به ألسنة الإفرنج على اختلاف اللغة والدين. اتفاق أمراء الشرق حينئذ والتئام أهوائهم هو الذي سدد سهامهم في نحر العدو ومكن عواليهم من مقاتله. نظروا - رحمهم الله - في سَوْرة تلك الحملة وشدة بأسها وطغيان مدها وحدة تذمرها (تغيظها) ، فقابلوها من بأسهم بأشد، ومن طغيان هممهم وحدتها بأطغى وأحدّ. علموا أن مغبة التفريط في صدها وخيمة، وعاقبة التخاذل عن تلافيها مشؤومة فتآمروا وتذامروا [٦] وأرهفوا أشفار العزائم ووطنوا النفوس على استعذاب الموت الكريم أو تسترد عليهم بلادهم ويخلص إليهم استقلالهم. لا جرم أنهم لو قصروا حينئذ في مدافعة العدو عن هذه البلاد وتقاعدوا عن تحريرها من استرقاقه وانتياشها من فخ سلطته لما علم أحد غير الله ماذا كانت حالة الشعوب الإسلامية الآن، ليست الشعوب المتوطنة في فينيقية وفلسطين فقط، بل كل الشعوب المنتشرة على سواحل البحر المتوسط وسوريا وبين النهرين وجزيرة العرب؛ فإن ثمانية قرون كفاية لضعضعة دين ومحو تعاليم وتغيير لغات وتبديل عادات. فالذي حفظ علينا ديننا وتعليمنا ولغتنا وعادتنا منذ ثمانية قرون إلى الآن - هو تلك الشرذمة التي كان يقودها البطل صلاح الدين. تلك الشرذمة العربية التي اصطدمت بتلك الزحوف الأعجمية؛ فأركستها وجعلت عاليها سافلها وأبلت في مصابرتها بلاءً حسنًا، تلك الشرذمة التي تقحَّمت ذلك البحر الخضم وعرضت نفسها للهلك فيه أو تنتشل من لججه الإسلام ومَن يَدين به إلى أبد الأبيد؛ خشية امِّحائه من لوح الوجود وتجلجله في أعماق العدم، حيث تختلط نغيته بزمزمة [٧] مادي وآشور وبابل والكلدان والرومان، تلك الشرذمة التي اعترضت ذلك السيل المتحدر بغية وقايتنا - نحن الذين أدركتنا أوائل هذا السيل ولما نتفق بعدُ على كيفية سكره [٨] أو تحويله عن دراجه [٩] . واعجبًا! شرذمة تفعل ما لا تقدر مئات من الملايين أن تفعله لا جرم، أما أن تكون هذه الشرذمة ارتقت من أفق الإنسانية إلى عالم سماوي أعلى، أو تكون الملايين انحطت عن أفقها الإنساني إلى أفق البهائم والعجماوات. ترى ما هو قدر استبشار العالم الإسلامي باتفاق هذه الشرذمة ونجدة أبطالها؟ ماذا كان وقع عملهم الشريف بين العوالم السماوية، وكيف كانت مظاهر التهاني بهم في (ملا) الحظائر القدسية. لو ترى كيف كانت تتناغى حور الجنان بأحاديث أولئك الأبطال، كيف كانت تتغنى بذكر وقائعهم ومجيد غاراتهم. كيف كانت أولئك العذارى تتمسح برشيح عرقهم وتتنافس بطيبه؟ كيف كانت تتخطف رشاش دم شهدائهم وتتضمخ بمسكه وتتزين بخضابه، بل لو تسمَّعت إلى برازخ أرواح أجدادهم لسمعت عجبًا - تسمع لأصوات الابتهاج والبشرى طنينًا وصدًى في جو ذلك العالم المهيب. تسمع ضجيج الفرح يترجرج فوق تلك الجماهير النيرة اللطيفة. ترى أرواح الآباء تستنشق روائح أولئك الأبناء وتنتعش برياها تشوفًا وسرورًا. ترى تلك الأرواح تسرح عصائب عصائب في فضاء ذلك العالم وتتزاور وتباهي بصنيع خلائفها وبرهم بوالديهم. ترى تلك الأرواح ترفرف أسرابًا أسرابًا ولها حفيف حول شجرة طوبى والبيت المعمور تستنزل الرحمة الإلهية لأولئك الأبطال وتناجي الحق برضاها وتسأل رضاه عنهم وتجأر إليه بالدعاء وطلب الغفر لهم إزاء أيامهم المأثورة وجزاء مساعيهم المشكورة، والله لا يضيع أجر المحسنين. واختزال الكلام في هذا المقام أن العامل في خيبة الحملة الصليبية هو اتفاق أمراء ذلك العهد ونجدتهم وعدلهم ومحاكاتهم للسلف في أعمالهم واحتذائهم مثال الصدر الأول في أطوارهم؛ فكل ذلك حببهم إلى قبيلهم وأمَّنهم غائلة ثورته وأذى نائرته ودفع بذلك القبيل إلى الاستماتة مع أمرائه في سبيل حماية الوطن وصيانة الشرف، علمًا بأن التقاعد عن الدفاع مصيره فقد الجنسية واللغة والدين، وفي ذلك الشقاء والذل والخزي أبد الآبدين. ((يتبع بمقال تالٍ))