العرب أقدم الأمم لغة وحضارة وعمرانًا فلهم العرق الواشج في حضارة قدماء المصريين والكلدانيين والفينيقيين، ووثبتهم الإسلامية قضت على ملك الفرس وإمبراطورية الروم في الشرق في ثلث قرن، ثم امتد سلطانها قبل انقضاء القرن من المحيط الغربي إلى الصين، وطفق يناوش شعوب أوربة في الشمال، ثم لم يكن سبب تمزيق هذا الملك العظيم إلا الشقاق والتنازع على الرياسة من أكبر مجتمعاته، وهو الخلافة فالملك إلى أصغرها وهي المناصب الدولية والعلمية والدينية فرياسة القبيلة والقرية، فرياسة العشيرة والأسرة، وقد آل بهم هذا الشقاق إلى زوال سلطانهم عن الشعوب الأعجمية وضعف لغتهم فيها والجامعة الإسلامية التي تربطهم بها، ثم إلى زوال استقلالهم في شعوبهم المحافظة على جامعتها العربية الممتدة من سلطنة مراكش في المغرب إلى سلطنة مسقط، وعمان في المشرق، وقعت كل هذه الكوارث كلها والعرب كلهم غافلون عن أسبابها وعللها، ومقدماتها ونتائجها، وكلها ترجع إلى الشقاق والتنازع في الرياسة. وقد بدءوا يستيقظون رويدًا رويدًا لما حل بهم فرأوا بعين بصيرتهم، ثم بأبصارهم أن أكبر الكوارث الطارئة وأشدها خطرًا كارثة تواطؤ أكبر دول الأرض قوة وسلطانًا، وهي الدولة البريطانية وأقوى شعوب الأرض عصبية وثروة وكيدًا ومكرًا وهو الشعب اليهودي - وتوجيه قواهما إلى انتزاع وطن عربي كامل من أهله وطردهم منه وإعطائه لليهود ليؤسسوا فيه ملكًا جديدًا بالرغم من ملتي عيسى، ومحمد عليهما الصلاة والسلام يكون فاصلاً بين الشطر الأفريقي والشطر الأسيوي من الأمة العربية قبل أن ينجح دعاة وحدتها العامة في سعيهم، فيحول دون اتحاد مصر أو اتصالها بفلسطين وما وراءها - إلى غير ذلك من المقاصد التي لا محل لشرحها وأهمها مسألة الحجاز وجزيرة العرب. الواجب على الشعوب العربية كلها تجاه هذا الخطر الذي يهددها في فلسطين أن تهب كلها لدرئه ودفعه، بل يجب على الشعوب الإسلامية غير العربية أن تساعدها على ذلك أيضًا لمكانة المسجد الأقصى الذي لُقب بحق (أولى القبلتين وثالث الحرمين) فيه، ولما في وجود دولة يهودية تكفلها الدولة البريطانية من الخطر على الحجاز ونجد أو وقوة المملكة العربية السعودية الحامية للحجاز، وحافظة الأمن فيه، وكان المعقول أن تسمع الدعوة إلى هذا من فلسطين. ونحمد الله أن وُجد في فلسطين عقل مفكر، ورأي مدبر سعى له سعيه، ولم يقدر عليه غيره، ألا وهو السيد محمد أمين الحسيني المفتي الأكبر للبلاد، ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى فيها، سعى إلى تأسيس مؤتمر إسلامي عام يُعقد في المسجد الأقصى في ليلة ذكرى الإسراء والمعراج ففاز، وجعل المسألة الفلسطينية ركنًا من أركان المسألة العربية الإسلامية العامة، فصار زعيمًا إسلاميًّا عامًّا بعد ما كان زعيمًا فلسطينيًّا خاصًّا. اضطرب لدعوة هذا المؤتمر دول الاستعمار وخاطبوا زعيمتهم إنكلترة بوجوب منعه، أو تضييق الحرية على أعضائه، واضطربت له دولة الترك اللادينية لما قيل من أنه سيقرر إحياء منصب الخلافة الإسلامية التي ألغت صورتها الرسمية، وكل ما له صلة شرعية بها من بلادها، وتكره أن يتجدد لها ذكر في أي قطر من العالم الإسلامي، واضطربت له الحكومة المصرية السابقة لما لا يعقل له سبب إلا مثل الوهم الشيطاني، فكانت فئتها فيه هي التي تولت الكيد له، والسعي لخيبة مؤسسه والداعي إليه الزعيم الحسيني بإغراء بعض أعضائها بما ظهر أثره منذ الليلة الأولى لعقده، ثم في الجلسة التي اختاره فيه المؤتمر رئيسًا له، ثم في جلسات أخرى، ثم اختلافهم إلى زعيم الحزب الفلسطيني المناوئ لرئيسه السيد الحسيني، وهو راغب بك النشاشيبي الذي كان رئيس بلدية القدس للتشاور والسعي لتخذيله، ولقد كنت في مقدمة أنصاره لأجل المصلحة على أنه كان مقصر معي هنالك وأنا أستاذه. كان من أعضاء هذا المؤتمر، وكنت أشعر بالدسائس التي كانت تدبر للكيد وتدار من حوله فأتجاهلها، ودعيت إلى حفلة الشاي التي أدبها النشاشيبى لأعضاء المؤتمر فلم أستجب لها؛ ولكنني كلمت بعض عقلاء فلسطين وأحرارها في السعي للصلح بين النشاشيبي والحسيني، فقيل لي: إنه لا سبيل إليه الآن أو مطلقًا، فأمسكت عن الكلام فيه، ثم كلمني بعض المخلصين في مصر بالسعي لذلك، فلم أجد له مجالاً ولا منفذًا، وإن أكره شيء إليّ في العالم النفاق والشقاق للتنازع على الرياسة وحب الأهواء. آل أمر هذا التنازع بين النشاشبية والحسينية - وهو قديم - أن سقط راغب بك في انتخاب رياسة بلدية القدس، وفاز عليه الدكتور حسين بك الخالدي من الأسرة الخالدية بمساعدة الحسينية، فاتفقت هاتان الأسرتان الشريفتان وكانتا متنازعتين، فسر محبو الاتفاق وجمع الكلمة، وانحصرت معارضة الإصلاح في أسرة النشاشيبي والمنكرين على السيد أمين الحسيني والمجلس الإسلامي الأعلى للاختلاف في الرأي أو لأغراض شخصية، وحزب الحسيني أقوى من كل هؤلاء في فلسطين نفسها، ويؤيده أهل الرأي والمكانة في سائر البلاد العربية، وفي الشعوب الإسلامية غير العربية، ولا يعرف النشاشيبي ولا حزبه أحد في هذه البلاد والشعوب إلا أفراد في مصر ممن كانوا شايعوه على إسقاط السيد الحسيني من رياسة المؤتمر الإسلامي لغرض عارض، وكلهم يوافقونه على مقاومة اليهود وعلى جمع كلمة المسلمين على هذا العمل وغيره، وإذًا لا يجد المعارضون له الآن في مصر ولا غيرها وليًا ولا نصيرًا. على أن هذه العاقبة السوءى لم تفل من حد حزبهم، بل زادته مضاء وتهورًا حتى كان من عقابيل هذه الحمى كتاب نُشر في جريدة الجامعة الإسلامية الفلسطينية طُبعت صورته بالزنك، وقيل إنه من خط الأمير شكيب أرسلان بإمضائه إلى السيد أمين الحسيني يدعوه به إلى نشر الدعاية في البلاد لدولة إيطالية، وقد رأينا كل من اطلع على هذا الكتاب في هذه الجريدة ممن يعرفون خط الأمير شكيب، وممن يعرفون إنشاءه وممن يعرفون مذهبه ومشربه السياسي في خدمة الأمة العربية، والملة الإسلامية من سن الصبا إلى سن الشيخوخة، أنه مزوَّر عليه، والظاهر أن المزورين له ظنوا أن القارئين له يصدقون فحواه المراد منه بشبهة ما كتبه الأمير من تنفيس السنيور موسوليني بسعيه عن مسلمي طرابلس وبرقة برد المبعدين منهم عن دورهم إليها، وفتح أبواب الرزق لهم بعد أن دب الفناء إليهم، ومن منع دعاة الكنيسة من الطعن في دينهم ومحاولة تنصيرهم، وغير ذلك مما قد اشتهر ولم يقدر على تكذيبه أحد، إلا أن بعض الناس كرهوا هذا التصريح من الأمير المجاهد في سبيل العرب بعدما كان من شدة جهاده لإيطالية تنكيلها بهؤلاء من قبل، فقال بعضهم: إنه، أي: التصريح يجوز أن يكتبه غيره ولا يجوز أن يكتبه هو، وإن كان يعلم أنه حق وطعن آخرون به عليه عن رأي أو وجدان، أو هوى وشنآن. ونحن لا ندخل في هذا ولا نجادل فيه بما نعلم - ومنه وتودد إيطالية للدولة العربية السعودية، مع بقاء التودد إلى دولة الإمام اليمانية - لأنه ليس من موضوعنا لا مجاراة لمن يرون أنه لا يجوز الاعتراف للمستعمر بحسنة، ولا بالرجوع عن سيئة؛ وإنما نقول عن هذا الكتاب المتفق على أنه مزور قد أريد به هدم زعامة السيد أمين الحسيني بالذات، وهدم زعامة الأمير شكيب بالعرض أو الوسيلة، وكل منهما حصن حصين للعرب وللإسلام، أحكمت بناءه سنن الله في الاجتماع بما أوتي كل منهما من استعداد عقلي وخلقي، وعمل سياسي أو قلمي، ومواتاة لحوادث الزمان، وما أتيح له من ثقة الناس به، فبات خصوم البلاد العربية والملة الإسلامية من اليهود ودول الاستعمار يحسبون لهما كل حساب، فهدم كل منهما جناية على الأمة والملة والأوطان العربية، وخدمة للصهيونية والدول الاستعمارية، لا يفكر أحد أن يدعي أن محاولي هدمها يستطيعون إيجاد أحد يغني غناءهما، ويبلي بلاءهما، أو يوجدوا في فلسطين زعيمًا يحل مكان أمين الحسيني في عقله وتدبيره وتأثيره في مجاهدة الصهيونية، دع مكانته في الشعوب الإسلامية، ولا كاتبًا بليغًا سياسيًّا مؤرخًا يقوم مقام الأمير شكيب في بلاغة قلمه، وقوة حجته، وثقة الأمة العربية والشعوب الإسلامية برأيه وإخلاصه، ولا أبرأهما في هذا من الخطأ في بعض الرأي أو القول، وسبحان المنزه عن كل عيب. وإنما الأمر الثابت بادي الرأي أن هذا الطعن فيهما بالباطل، ومحاولة التشكيك في إخلاصهما هو خدمة لليهود وللإنكليز، وعون لهما على طرد العرب من هذا الوطن العربي، وما فيه من الخطر على الشعوب العربية كلها، وعلى مصلحة الدين الإسلامي، وهو أخس مظاهر الشقاق الذي افتتحنا هذا المقال بالتذكير بمضاره، وأنا أعتقد أن الظفر المعنوي فيه سيكون - بل هو كائن - للزعيمين المجاهدين ليس للحزب المالي المناوئ لهما منه شيء، وحسبك من زيادة الشقاق تعديه من الأفراد إلى الجرائد العربية التي يجب اتفاقها في هذا العهد على مصلحة البلاد، وقد بلغني أن خصومها قد افترصوه وشرعوا في تأليف حزب جديد لهدم دعامة الحسيني وأنصاره، إذ علموا أن حزب النشاشيبي سيقتل نفسه بمناوئته، ولا بد لحزب الحسيني من حزب آخر يجهز عليه أو يحاول إسقاطه. فأنا بما فطرت وربيت عليه من مقت الشقاق، ومن كراهة العصبية للأفراد والأحزاب، ومن التدين بالدعوة إلى الإصلاح، أدعو عقلاء الفلسطينيين إلى جمع الكلمة وإصلاح ذات البين، معتقدًا أن أشرف ما يفعله حزب النشاشيبي ورئيسه راغب بك والأستاذ الفاروقي صاحب جريدة الجامعة الإسلامية أن يبدؤوا باستنكار الكتاب المزور والبراءة منه واستهجان مضمونه، وأن يكف الفريقان عن الطعن في أنفسهما هجومًا ودفاعًا، وما طعن الإنسان بأخيه إلا طعن بنفسه، كما قيل في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (النساء: ٢٩) وقد بلغني ممن لا أتهمه أن الأستاذ الفاروقي ما نشر الكتاب المزور إلا بعد أن شهدت له لجنة اعتمد عليها بأنه صحيح، ولو صحت شهادتها لما كان له أن ينشره، وهو صار مفرق للكلمة، وقد بالغ الأمير شكيب في تفنيده دفاعًا عن نفسه بالحق؛ ولكنني كرهت من هذه المبالغة أنها كانت ضرامًا في نار الشقاق وتخريب العرب بيوتهم بأيديهم كما وصف الله اليهود في عصر التنزيل بقوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) ، وقوله بعده: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: ١٤) بل صرنا اليوم وقد اجتمعت كلمتهم علينا شرًّا مما كانوا يومئذ، فعلى الفريقين أن يكفوا عن هذه المطاعن، وأن يفوضوا لأهل الرأي المخلصين وضع أساس للصلح المعقول الذي يحفظ كرامة كل منهم على قاعدة قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (المائدة: ٢) وليسابق كل إلى الجاه والمجد فيما لا يضر الأمة كما شاء، وإلا كان الجميع على الناعي المزور، وكاتب هذا أول من يستجيب لذلك ويسعى إليه سعيه مع الساعين {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) .