المقالة الثامنة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل
(النوع الثاني عشر: إمساك اللسان عن الكلام وانطلاقه) لم يذكر السبكي أمثلة لهذا النوع ولو ذكر شيئًا منها لوضح الحق من خلاله أشد من وضوحه بالبحث فيه من غير ذكر للوقائع التي سماها كرامات وخوارق عادات. والظاهر أنه يعني بإمساك اللسان وانطلاقه أن بعض الناس يحضر مجلس الرجل الصالح فيريد الكلام فيحصر وتأخذ الحبسة لسانه لما يعروه من الهيبة والإجلال ثم يزول ذلك بالأنس أو المباسطة. وهذا أمر يقع كل يوم من المعتقدين مع الصالحين ومن المرؤوسين مع الرؤساء ومن أفراد الرعايا المهضومين مع الأمراء. وما يقع منه بين رجال الأديان، ومَن يعتقد رياستهم الروحانية من المقلدين كثير في كل أمة وملة ولكن كل فريق يعد هذا مزية له وكرامة من كراماته يجهل حال الآخر؛ إذ العارف بأحوال الملل وشئون الناس لا يغتر ولا يستسلم للنصارى وأهلها فالآفة الكبرى هي الجهل والجهل سياج الدجَّالين، ولذلك تراهم في كل ملة يعادون العلم وينهون عنه ويزعمون أنه حجاب دون الدين، ومفسد لعقائد المؤمنين، ويصدقهم في ذلك الجاهلون، ويتعصبون لهم على الذين يعلمون والذين يتعلمون.
* * * (النوع الثالث عشر: جذب القلوب النافرة) لم يذكر السبكي لهذا مثالاً أيضًا، وهو نحو الذي سبقه وأضعف منه؛ فإن كثيرًا من أهل الشهرة ما نالوا شهرتهم إلا بجذب القلوب؛ وذلك أن في كل صنف من الناس مَن له هذه الخاصية فمنهم من يختلب القلوب بمهابته، ومنهم من يسحر الألباب ببلاغته، ومنهم من يستحوذ على النفوس بقوة روحه وتوجيه إرادته، ومنهم من يخدع بعض البسطاء بزيه وشارته وقد رأيت بعيني كثيرًا من الناس ناقمين على رجل من أهل الفضل منكرين عليه نافرين منه مسيئي الاعتقاد به وقد حضروا مجلسه واحدًا بعد واحد وما منهم إلا وقد انجذب قلبه إليه وامتلأ هيبةً وإعظامًا له وصار من المتعصبين له اللاهجين بالثناء عليه. والسبب في ذلك أن النفور الأول كان لسوء ظنٍ أحدثه سماعُ كلام الحاسدين، ولما شاهدوا الرجل رأوه بالضد مما كانوا سمعوا، رأوا فضلاً كبيرًا وعلمًا واسعًا وأمارات تنطق بحسن القصد وإخلاص القلب من حيث كانوا يتوهمون خلاف ذلك فتحولت قلوبهم مرة واحدة. فهل نقول إن هذا مِن باب الخوارق وننظمه في سلك الكرامات والسبب فيه معروف والعلة ظاهرة؟ ! حَسْبُ العاقل دليلاً على فتنة الناس بمسألة الكرامات أن يرى العالم الأصولي منهم (كالتاج السبكي) يعد ميل القلب إلى شخص بعد النفرة منه كرامة له، كأن الفتنة قد سحرت النفوس وأفسدت العقول وأعمت الأبصار وأصمت المسامع وساوت بين العَالِم والجاهل والذكي والغبي في عدم التمييز بين المعتاد وخارق العادة والغفلة عن الوقائع المتشابهة المتماثلة في مثل هذا الأمر التي تقع لمن يعتقدون كرامتهم ومَن يعتقدون كفرهم أو ابتداعهم، وفي طبقات السبكي كثير من هذه الوقائع يحكيها هو والمؤرخون عن زعماء الفتن ودعاة البدع، ومؤسسي المذاهب الباطلة والطرق المعوجة الملتوية، وما رأيت في التاريخ أشد جذبًا بالنفوس، وتلاعبًا بالعقول من رجال طوائف الباطنية فلقد كانوا يفعلون بالألباب ما لا تفعل الخمر، ويؤثرون في النفوس ما لا يؤثر عن فعل السحر. فإن قال قائل: إن جذب أئمة الكفر وزعماء البدع قلوبَ بعض أتباعهم أو بعضَ الضعفاء المستضعفين لقبول ضلالتهم هو من باب الاستدراج والإملاء ليسترسلوا في غيهم حتى يأخذهم الله تعالى بالانتقام في الدنيا أو بالموت الذي يسوقهم إلى الانتقام في الآخرة. وأما أولياء الله تعالى فإنهم يجذبون القلوب إلى الحق ويؤثِّرون فيها تأثير الخير النافع، وبهذا كان جذبهم من الكرامة دون جذب غيرهم. ونقول في الجواب إننا نسلّم بأنَّ ما ذكرتم يصح أنْ يعد كرامة إذا سلمتم معنا بأنَّ الكرامة ليست من الخوارق الحقيقية وإنما هي من الخصائص الشريفة النافعة فإنَّ أمرًا يُعقل سببه وتعرف علته ويقع من جميع أصناف الناس ومن أهل كل ملة ودين لا يصح للعاقل أنْ يجعله من خوارق العادات التي على غير النظام المعهود والسنن المطردة ولكم بعد ذلك أن تأولوا ما يقع من ذلك للصالحين من أهل الملل الأخرى فإنه يوجد في كل أمة الصالح والطالح كما لا يخفى على المنصف الخبير. وإننا نختم الكلام في هذين النوعين - المهابة التي تمنع الكلام وجذب القلوب- بشيء من العبرة بما كان لرؤساء الباطنية من الاحترام الروحي في نفوس أتباعهم ولم يصل الصوفية الصادقون إلى مثل ذلك. قال المؤرخون: إنَّ الحسن بن الصباح زعيم الإسماعيلية قد استهوى قلوب أتباعه واستحوذ على نفوسهم حتى كانوا يطيعونه في السر والجهر ولو بما يذهب بأرواحهم. ولقد كان مِن أمره لمّا أرسل السلطان يطلب منه الطاعة أنْ دعا نفرًا مِن أتباعه وقال لأحدهم: اقتلْ نفسك، ففعل بدون توقف ولا تردد! وقال لآخر: ارمِ بنفسك مِن هذا الحصن، فرمى بنفسه ومات! ثم التفت إلى رسول السلطان وقال له: قل لمولاك هكذا يطيعني سبعون ألفًا من الرعايا الأمناء، فمَن كان هذا شأنه وهذه منزلته في نفوس أتباعه فكيف تكون مهابته في نفس مَن يحضر مجلسه وكيف يكون انجذاب القلوب المعتقدة بفضله أو المستعدة لقبول عقيدته إليه وتحويمها عليه؟ الصوفية الذين ينقل عنهم جذب القلوب والتسلط على نفوس المجالسين بالهيبة والوقار كانت سيرتهم على مقربة من سيرة زعماء الباطنية؛ بل هم فرقة منهم وتأثيرهم من نوع تأثيرهم، فالمؤرخ لا يكاد يفصل بين هذا وهذا إلا بالانتماء للمذاهب المعينة كالإسماعيلية وغيرهم، وأما كلامهم في الدين وتفسيرهم للقرآن والحديث فإنه متشابه؛ لأنهم يقولون فيه أقوالاً تنكرها اللغة وأساليبها وتأباها سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وحجة الفريقين فيها واحدة وهي الاطلاع على الحقائق الخفية، والوقوف على أسرار الدين الروحانية وقد سلم الناس لهم بذلك تسليمًا لا سيّما بعد موت العلم بحمل الناس على التقليد وحظر الأخذ بالدليل عليهم، فمَن لا دليل له يسلم لكل مَن يعظم الناس أمره. وما رأيت في أمر الذين يسمى صنفهم صنف علماء الدين أعجب من تسليمهم لهؤلاء الباطنية الذين يدعون الولاية كل ما يقولونه وإن لم توافق تقاليدهم فهم يسلمون لهم القول المخالف بغير دليل ويحجرون على غيرهم المخالفة بالدليل. وأنت تعلم أنَّ مبنى علومهم كلها على الكشف وسيأتي الكلام عليه مفصّلاً في النوع الرابع عشر، ولذلك جعلنا هذه المقالة مختصرة حتى نتمكن من جعل الكلام في الكشف في جزء واحد. هذا وقد كنت قرأت في بعض الجرائد أنَّ رجلاً دخل على أحد علماء الكهرباء وهو في عمله وبين يديه الآلات والبطاريات فحدث في الكهربائية تأثُّر بدخوله لم يبق في ذهني ما هو ذلك التأثر الذي شوهد في الآلات فقال العالم للرجل: أقبلْ فأقبل ثم قال له: أدبرْ فأدبر فكان التأثر بإقباله غير التأثر بإدباره؛ إذ كان أحدهما في الكهربائية الإيجابية والآخر في السلبية وكان لقربه أشد التأثير. فإذا صحت الرواية فلا بد أنْ يكون هذا الاكتشاف مفتاحًا لمعرفة أسرار كثيرة كسر الحب والبغض والتأثير في النفوس؛ فإن في كل أحد كهربائية ويظهر أنها في بعض الناس أقوى منها في بعض فلا عجب إن كان صاحب الكهربائية القوية يؤثر في صاحب الكهربائية الضعيفة وأن يكون لتوجيه الإرادة والهمة عملاً في قوة التأثير ولا مانع مِن أنْ يكون لاختلاف الكهربائية في الشخصين شأن في الحب والبغض فقد يبصر الإنسان الجمال البارع في شخص ويمقته بلا سبب ظاهر مع اعترافه بجماله وقد يعشق ولا جمال. ومن الناس أفراد يستثقلهم كل أحد وأفراد يحبهم كل مَن عرفهم ويعبّر الناس عن سبب الحب في هؤلاء بالجاذبية يقولون: فلان ذو جاذبية وفلانة ذات جاذبية ويصفونهم بخفة الروح وخفة الدم. ومن الناس من يهابهم كل من يجالسهم؛ وإنْ كان من أقرانهم ولعلَّ للكهربائية أثرًا في كل ذلك تُظهره الأيام ويكشفه العلماء. فأين حديث الخوارق الكونية من هذه العلل الطبيعية؟ ! ولا يهولنّ القارئ تأثير الإنسان في الآلات الكهربائية فقد ثبت أن للسنانير تأثيرًا عجيبًا فيها، تنبهوا إلى هذا حين ثبت أنَّ قطًا وقف على سلك من أسلاك المسرة (التليفون) فأبطل عمله. فإن قلت: إنه ما أثر فيه إلا باتصاله به فكيف يؤثر الإنسان في كهربائية لم يتصل بآلاتها؟ أقول: لا يبعد أن ينتقل التأثير بواسطة كهربائية الجو أو الهواء أو الأثير ونحن في عصر يتخاطب الناس فيه بالكهربائية من غير واسطة الأسلاك وهو ما يسمونه (تلغراف ماركوني) فهل يليق بأهل هذا العصر أن يقلّدوا الميتين من بضع مئين من السنين أو أكثر في مزاعم غريبة عن العقل غير قريبة من الشرع، ويقولوا مع ذلك إن عقولهم أرقى من عقولنا، وعلومهم أغزر من علومنا، كلا، إنما يرضى بهذا مَن احتقر نعمة الله على أهل عصره، وسجل الخِزْيَ والخَسار على نفسه، فأنكر كرامة الله له ليثبت كرامته لآخرين، وخسر بجهله الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.