للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار
فتحنا هذا الباب لإجابة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة، ونشترط
على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن يرمز
إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما قدّمنا
متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك لمثل
هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن لم
نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.
(أسئلة من المحلة الكبرى)
(س١٢ ١٥) من صاحب الإمضاء:
حضرة العالم العلامة المفضال السيد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فأرجو من فضيلتكم الإجابة عما يأتي، ولكم
منا الشكر ومن الله أعظم الأجر.
(س١) ما حقيقة الماسونية، ولم أنصارها يخفونها عن الناس، ومعلوم أن
الحق لا يخفى، فإن كان لِلَمِّ شعث أفراد متباينة عقائدهم الدينية والجنسية والوطنية
فهذا من المستحيل طبعًا، كما لا يخفى ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى
عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: ١٢٠) وإن كان الغرض
(التساوي) كما يزعمون بين أفراد البشر في جميع أرجاء المعمورة، فهو أشد
استحالة من الأول.
إذ إن الدين هو الذي يؤلف بين الأفراد فقط، فإن كان هذا دينًا فلن يتحمل
القلب دينين الماسونية والنصرانية، وهي والإسلام مثلاً، أو هي مع اليهودية..
إلخ فيتعين أن يكون الداخل فيها مجردًا من غيرها، وعلى ذلك فكل دين غير
الإسلام باطل، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل
عمران: ٨٥) وإن كانت جارية على أحكام الإسلام، فلا معنى إذًا للتفريع
والتسمية بهذا الاسم.
(س٢) على من اللوم؛ أعلى الحكومة التي بيدها الحل والربط أم على
الأمة التي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؟ وما هي التربية الصحيحة التي تعيد للدين
مجده وللوطن عزه؟ التربية في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية والإرساليات
التي تذهب إلى أوربا وتعود من غير دين بالمرة؟ أم التربية على مبادئ الدين،
وكيف يكون ذلك؟ ومتى يستطيع المصلحون وهل يمكن.
(س٣) ما هي البلاد التي يعظم فيها دين الإسلام، ويقام فيها بالعمل وأهلها
أشد الناس شكيمة على أعدائه.
(س٤) ماذا يصنع رجل أضناه حب العلم وما بلغ عمره الخامسة والعشرين،
وما ترك بابًا إلا طرقه ولا سبيلاً إلا سلكه إليه، ولم يجد من يساعده، وكلما ظن
في أحد عونًا تقاصرت همة المطلوب، ورجع الطالب بخُفَّيْ حُنَيْن.
... ... ... ... ... ... ... ... أفيدوني أثابكم الله
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر محمد
... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بمدارس الجمعية
... ... ... ... ... ... ... ... الخيرية الإسلامية
(الماسونية)
(ج١) الماسونية جمعية سياسية، وجدت في أوربا؛ لإزالة سلطة
المستبدين من رؤساء الدين والدنيا (كالبابوات والملوك) ولذلك كانت سرية، فإن
أهلها العاملين الساعين إلى مقاصدها كانوا على خطر من سلطة الأقوياء الذين تقاوم
الجمعية استبدادهم، وتعمل لسلب السلطة منهم وجعلها في يد الشعب، بحيث يكون
في يده التشريع والمراقبة على من ينصبه من الحكام للتنفيذ، فلهذه الجمعية الأثر
العظيم في الانقلابات السياسية التي حصلت في أوربة، ومنها الثورة الفرنسية
الكبرى من قبل، والانقلاب العثماني والبرتغالي الأخيرين من بعد، وقد كان
المؤسسون لها والعاملون فيها في أوربة من النصارى واليهود، واليهود هم
زعماؤها وأصحاب القدح المعلى فيها؛ لأن الظلم الذي كانوا يسامونه والاضطهاد
الذي يذوقونه كانا أشد مما ابتلي به ضعفاء النصارى من أقويائهم، وكذلك كان
اليهود أكثر الناس انتفاعًا من الانقلابات التي سعت إليها الماسونية في أوربة،
وسيكونون كذلك في البلاد العثمانية إذا بقيت سلطة الماسونية على حالها في جمعية
الاتحاد والترقي، وبقيت أزمة الدولة في يد هذه الجمعية، وهم يسعون مثل هذا
السعي في الروسية، ولكن الحكومة الروسية واقفة لليهود بالمرصاد، ولا يزالون
يتجرعون في بلادها زقوم الاضطهاد.
وأما الماسونية في بلاد الشرق كمصر وسورية وغيرهما من البلاد، فقد يصح
ما يقوله الكثيرون من أهلها أنها لا تعمل للسياسة ولا للدين وأنها أدبية اجتماعية،
وقد يصح من وجه آخر أن لعملها علاقة بالسياسة والدين، لكل قول وجه يصححه
فلا تناقض بينهما، هي لا تطعن في دين من الأديان ولا تبحث في ترجيح دين على
دين، ولا تدعو الداخلين فيها إلى ترك دينهم ولا إلى الإلحاد، ولا تعمل الآن في
مصر لتغيير الحكومة الخديوية، ولا في سورية لتغيير الحكومة العثمانية أو
مقاومتها، فهذا معنى كونها ليست مناصبة للدين ولا لسياسة البلاد.
وأما علاقة عملها بالدين والسياسة فمعروفة مما ذكرناه من مقصدها الذي
أنشئت لأجله، فإذا لم تشتغل بالمقصد مباشرة فهي تشتغل بالتمهيد له؛ كجمع كلمة
أهل النفوذ في كل بلد، وتكثير سوادهم وتقوية عصبيتهم وإضعاف رابطتهم الدينية
السياسية، والانتقال بهم في الإقناع من درجة إلى درجة، حتى يتم الاستعداد بهم
إلى تغيير شكل الحكومة وإزالة السلطة الدينية والشخصية، الذي هو مقصد الأخير
ولو بالثورة وقوة السلاح.
فالماسونية سياسية في الأصل، وتبقى سياسية في كل مملكة فيها سلطة
شخصية أو سلطة دينية إلى أن تزول صبغة الدين من الحكومة واستبداد الملوك
والأمراء، فحينئذ تكون الجمعية أدبية اجتماعية يجتمع أعضاؤها في المحافل؛
لإلقاء الخطب والمحاضرات والتعارف بالكبراء من الغرباء.
أما اتفاق المختلفين في الدين على هذا المقصد، فهو لا يكون عادة إلا
بالتدريج والاقتناع بأن المصلحة محصورة فيه، ومن طرقه الجرائد التي ينشر فيها
المرة بعد المرة بالأساليب المختلفة أن محل الدين المساجد والكنائس دون
الحكومات والمصالح الدنيوية، ومنها رابطة الوطنية وهي أن يكون أهل الوطن
سواء في الحكومة ومصالحها وفي جميع المصالح والمرافق، ولأجل هذا ترى
رجال الدين المسيحي كالجزويت يحاربون هذه الجمعية. وأما رجال الدين الإسلامي
من الفقهاء والمتصوفة فقلما يعرفون شيئًا من أمور العالم، فإذا علم السائل هذا
وعرف الواقع تبين له أن ما أورده من الآيات في غير محله.
***
(الحكومة والأمة)
(ج٢) الحكومة ملومة على ما تقصر فيه مما يمكنها أن تعمله من الإصلاح،
والأمة ملومة كذلك، وقد يعذر كل منهما بالجهل، إذا عد الجهل عذرًا، وإنما
كانت الأمة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؛ لجهلها بقوتها وكيفية الانتفاع بها، وقد
تجهل حكومتها ذلك مثلها، أو تعرفه وتراه مخالفًا لمصلحتها، فتحب أن تبقى الأمة
على جهلها، وإنما ترتقي الحكومات والأمم بالزعماء الذين يؤثرون العمل للمصلحة
العامة على كل شيء، وباستعداد الأمة للاستفادة منهم والعمل بما يرشدونها إليه،
والاستعداد إنما يكون بمجموع حوادث الزمان ووقائعه، وقد يتصدى للزعامة غير
أهلها فيزيد الأمة وهنًا على وهن، إذا آثرته بجهلها على الأهل، وأصحاب النفوذ
الباطل يناهضون كل من يرونه أهلاً للزعامة الحقيقية والنهوض بالأمة؛ لئلا
يضعف نفوذهم أو يشاركهم فيه، وقد وجد في مسلمي مصر زعيم مستوف لشروط
الزعامة التي ترتقي بمثلها الأمم، فلم يؤهلهم استعدادهم لاتباعه لينهض بهم، ووجد
في القبط زعيم، فاجتمعت عليه كلمتهم واستفادوا منه، فازدادوا ارتقاء.
***
(التربية الصحيحة والتعليم والإصلاح)
(ج٣) سألتم عن التربية التي تجمع بين مجد الدين وعز الوطن، أهي
التربية التي في المدارس المصرية وتربية من يرسلون إلى أوربة؟ أم التربية
الدينية؟ ولا شك أنكم تريدون أن التربية الدينية هي التي تفيد تلك الفائدة، وأنكم
تعلمون أن المدارس المصرية من أميرية وأهلية ليس فيها تربية دينية ألبتة.
وسألتم كيف السبيل إلى التربية، ومتى تكون؟ وهل هي ممكنة؟ والجواب:
أنها ممكنة لا مستحيلة، وينبغي أن تكون مسعى الجمعيات الخيرية الدينية، ولا
ندري متي يكون ذلك، وها نحن أولاء قد أسسنا جمعية دينية خيرية؛ لأجل التربية
الدينية وتخريج المعلمين والمرشدين الذين يقومون بذلك على وجهه إن أمدنا أغنياؤنا
بالمال. ولكننا نريد أن نجعل إصلاحنا خاصًّا هذا بالدين، وعمران الدنيا من طريق
الأمة لا من طريق الحكومة، أعني أننا لا نريد بعملنا إصلاح حكومة من الحكومات
ولا تربية الموظفين لها، وحسبنا أن نربي مرشدين يعلمون العامة عقيدتهم وعبادتهم
وآدابهم الدينية، وينفرونهم من المعاصي التي تذهب بثروتهم وصحتهم، فتغتال
دينهم ودنياهم؛ كالسكر والزنا والقمار والحسد والتباغض بين أهل وطنهم، وما
أشبه ذلك من المعاصي الضارة، ودعاة يقيمون الحجة على حقية الإسلام، ويدفعون
شبهات الطاعنين فيه، ويزيدون عدد المهتدين به. وأما الحكومة بأشكالها ومذاهبها
وسياستها فإنا عنها مبعدون، ولها أحزاب من دوننا هم لها عاملون.
***
(أي البلاد تقيم الإسلام وتشتد على أعدائه)
(ج٤) جميع البلاد التي يغلب فيها الإسلام تعظم فيها شعائره، وما يعد فيها
من شعائره، وإن لم يكن منها كالموالد والاحتفالات المبتدعة والقبور المشرفة،
ويعمل جمهور أهل الحضارة منها بأكثر ما يعرفون أنه لا بد منه من أعماله،
ويتركون أكثر الكبائر من محرماته، وقد ترك كثير منهم بعض أركانه وأقامها
آخرون؛ كالزكاة، فإن الذين يؤدونها في جزير العرب وبلاد فارس والتتار
وبخارى وتركستان هم الأكثرون، والذين يؤدونها في مصر هم الأقلون، أعني من
الذين تجب عليهم.
وربما كان أهل اليمن ونجد أشد المسلمين استمساكًا بالدين وشدة على من
يعاديهم، ولكن عمال الدولة الفاسقين قد نشروا الفسق في المدن الكبيرة التي يقيمون
فيها كصنعاء والحديدة، وأما الأشداء من المسلمين على من يعاديهم في دينهم فهم
الذين تغلب عليهم شدة البداوة، ولم يسر إليهم ترف الحضارة الغربية وأفكارهم؛
كأهل الغرب وجزيرة العرب والفرس والأفغان، ولكن أكثرهم لا يلتزم في شدته
أحكام الدين؛ لأنهم لا يعرفونها، ولا يعرفون كيف يحفظون شرف دينهم ولا دنياهم
بها على النهج الذي سار عليه الإفرنج من العقل والحزم والحكمة والنظام، حتى إن
الأجانب يسلطون بعضهم على بعض وهم لا يشعرون، فتراهم يوقدون نار الحرب
فيفتك بعضهم ببعض باسم الدين؛ لمخالفة عادة أو خرافة تنسب إلى الدين زورًا
وبهتانًا، وربما كانوا مدفوعين إلى ذلك من أعدائهم وأعداء دينهم؛ ليمكنوا له بذلك
من أرضهم وديارهم وأموالهم رقابهم.
وجملة القول: إنني لا أعرف قطرًا ولا بلدًا في الأرض يقام فيه الإسلام كما
أمر الله تعالى في كتابه، وعلى الوجه الذي مضت به سنة رسوله صلى الله عليه
وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين، ولا على ما كان عليه المسلمون في عصر الأمويين
والعباسيين والأيوبيين، فإن الفتن التي حصلت في القرون الأولى لم تفسد دين الأمة
ولا بأسها، بل كانت تدور حول السلطة العليا أي حفظها في أهل بيت معين، لا
تتعدى ذلك إلا قليلاً.
***
(ما يصنع عاشق العلم لا يجد المساعد)
(ج٥) لا ندري أي علم يعشق هذا المتيم المضنى فنرشده إلى ما ينبغي له،
فإن من العلوم ما يمكن تحصيله في كل مكان، ومنها ما لا يمكن تحصيله إلا في معاهده
الخاصة كالعلوم والفنون التي يتوقف تحصيلها على الأعمال والتجارب بالآلات،
وقلما يصدق أحد في عشق العلم وتقوى عزيمته في طلبه، ولا يهتدي السبيل إليه،
ومن الناس من يسمي التنمي والتشهي عشقًا وعزمًا وهو غالط في ذلك، قال الشيخ
محيي الدين بن العربي في أول فصل من فتوحاته عقده لبيان ما على المريد الذي لا
يجد المرشد:
إذا لم تلق أستاذا ... فكن في نعت من لاذا
وقطع نفسه والليـ ... ـل أفلاذًا فأفلاذًا
فتأتيه معارفه ... زرافات وأفذاذًا
يريد أنه ينبغي له أن يطلب الحق بالجد والاجتهاد وسهر الليالي.
وقل من جد في أمر يحاوله ... واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
ولو راجع المرء تاريخ النابغين من الأولين والآخرين، لوجد أكثرهم من
الفقراء والمساكين الذين لم يعتمدوا إلا على جدهم واجتهادهم دون المدارس والأساتذة
ويظهر أن العاشق في السؤال، ليس كذلك بدليل طروقه أبواب من كان يرجوا
مساعدتهم، ويعتمد على أموالهم.
نعم.. إن علوم المدارس الرسمية التي غايتها نيل شهادة تجيز لحاملها أن
يجلس على كراسي الحكومة، لا تكاد تنال في هذا العصر إلا بالمال، وطالب هذه
العلوم هو المضنى بحب الوظائف لا حب العلم، فإن المضنى بحب العلم أحد
رجلين: رجل يطلب العلم إرضاء لشهوة عقله، ومحاولة إشباع نهمة نفسه، ورجل
يحب أن يستعين به على إصلاح حال الناس، وكلا الرجلين يسهل عليه أن يجد ما
يطلبه بجده واجتهاده حيث كان، سواء وجد أم لم يجد المال، ومن يطلب العلم بهذا
القصد يحصل في الزمن القصير ما لا يحصله غيره في الزمن الطويل، ويكون ما
يحصله أنفع مما يحصله غيره؛ لأنه لا يعنى إلا بما ينفع، ومن ليس له مثل هذا
القصد يضيع زمنه بكل ما يلقى إليه، لا يفرق بين نافع وضار، ولا حق وباطل.
***
(أسئلة من (لنجه) في خليج فارس)
(س ١٦ ١٩) من (أحد طلاب العلم بلنجه محمد بن عبد الرحمن بن
يوسف سلطان العلماء) .
جاءتنا الأسئلة الآتية في كتاب مطول، وكان لنا أن لا نجيب عنها؛ لأنها
جاءت على غير شرطنا في قبول الأسئلة، وهي أن تكتب في ورقة على حدتها
حتى لا نتكلف استخراجها من تضاعيف كلام آخر ونسخها، ولكننا نلخصها ونجيب
عنها عناية بمرسلها وبها، وقال السائل - زاده الله علمًا وفهمًا -: إن هذه الأسئلة
رفعت إلى والده وسيجيب عنها (ولعله فعل) وهي:
إلى حضرة من سما سماء المعارف، وأحاط بمقاصد الدين ومطالب العوارف،
قد أبديتم في المحفل الشريف (يريد موضع درس الأستاذ المستفتي أو مجلسه)
حسن سيرة المنار؛ وأنه يحيي السنة ويقمع البدعة، فلا يخفى على حضرتكم أنه
يأمر بعدم توقيف الذهن على ما ذكره المفسرون.
وعليه فلو ادعى مدع أن العدل بين الزوجتين غير واجب لوجوه:
(الأول) إخبار الله تعالى بأن العدل غير مستطاع، وأكد ذلك بالنفي بلن،
وهي وإن لم تفد التأبيد، فلا تنكر إفادتها التأكيد.
(الثاني) تقيد المنهي عنه بجعلها كالمعلقة أي: فلا بأس بما دون هذه الحالة.
(الثالث) جعله تعالى الأزواج قوامين، ولا يليق بالقوام أن يكون مذللاً مقادًا
بعنان من هو قوام عليها، والأحاديث ما فيها (من مال إلى إحدى امرأتيه) فالمراد
الميل المصير لها كالمعلقة. وما فيها (من لم يعدل) فهو بمعنى مال، فهل إذا ادعى
ذلك أحد يؤجر على ذلك أم ينكر؟ فإن قلتم يؤجر، فهو وإن قلتم ينكر عليه فما
وجه ذلك، مع أن المنار قد فسر آية التيمم بوجه لا يوافقه أحد، وأول أحاديث في
ذلك أوضح وأظهر من الأحاديث الدالة على وجوب العدل.
(سؤال آخر) كيف يؤمر بالمعروف وينهى عنه المنكر، مع قولكم إن كل
كائن بالتقدير، ولا تقولون كما تقول المعتزلة بالخلق، ولا كما تقول المجبرة، فهل
هذا إلا تناقض.
فيا سيدي إمام العصر ومقتدى المسلمين مولانا السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار، المرجو من ألطافكم أن لا تحقروا هذه الديار، ولا تنظروا إليها إلا
نظر الوالد إلى ولده، فإن أهل هذه الديار إلى الآن، كانوا على قدم الجد في إقامة
شعائر الدين. لكن منذ سنين قد حدث فيهم بعض المتفرنجين، فإذا هم على شفا
جرف هار لولا عناية الله ثم إرشاد العلماء الجامعين بين المعقول والمنقول، أجيبوا
جعلكم الله مجدد الملة. ا. هـ يتعلق بالاستفتاء من الكتاب.
(المنار) ههنا مسائل:
(١) العدل بين الزوجتين.
(٢) تفسير المنار لآية اليتيم.
(٣) مسألة التزام أقوال المفسرين الميتين في فهم القرآن أو عدمه.
(٤) الأمر بالمعروف والقدر.
(العدل بين النساء)
الذي يؤخذ من مجموع الروايات في تفسير السلف لهذه الآية أن اللام في
العدل ليست للجنس بل للعهد، فالمراد بها عدل خاص لا مطلق العدل، فإن بعضهم
فسره بالعدل في الحب، وهو الذي يدل عليه التفريع بقوله: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ} (النساء: ١٢٩) وحديث: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا
أملك) رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن المنذر من حديث
عائشة وإسناده صحيح، وفيه وردت الأحاديث التي أشار إليها السائل، وفسره
بعضهم بالوقاع، وهو وإن كان فيه من الاختيار ما ليس في الميل الذي هو سببه،
فالعدل فيه محال، وإذا كانت الآية دالة على أننا لا نكلف هذا العدل الخاص؛ لأنه
غير مستطاع ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فلا ينفي ذلك أن نكلف العدل المستطاع
في المبيت والفقه وحسن المعاملة في الحديث والإقبال ولو تكلفنا، ولا وجه لحمل
الآية على إثبات كون مطلق العدل غير مستطاع؛ لأن الآية لا يمكن أن تكون
مخالفة للواقع المعروف بالضرورة.
فالوجه الأول: من الوجوه التي ذكرها السائل مسلم، ولكنه يفيد أن العدل في
الميل غير واجب؛ لأنه غير مستطاع لا مطلق العدل، ولولا التفريع لكان الأظهر
أن يقال: إن العدل الذي لا يستطاع هو العدل التام الكامل الذي يشمل الحب وما
يترتب عليه؛ مما يعلم بالضرورة أنه لا يدخل في الاختيار مهما حرص المرء عليه
ولا ينفي هذا ولا ذاك أن يكون العدل المستطاع واجبًا، وقد تقدم معنى العدل في
التفسير من عهد قريب، وكونه من جعل الغرارتين على ظهر البعير متساويتين في
الوزن، وهذا غير ممكن على حقيقته في الأخلاق والأمور المعنوية؛ ولذلك قيل:
إن العدل التام الكامل هو صراط الحق الذي وصف بأنه أدق من الشعرة وأحد من
السيف. وهذا ما كان يحرص عليه المؤمنون طلاب الكمال كما تدل الآية.
وأما الوجه الثاني: فهو لا يدل على كونه مطلق العدل غير واجب كما هو
فرض السائل، وإنما يدل على أن بعض العدل في الميل مستطاع وواجب؛ لأن
الميل قسمان: ميل القلب وما يترتب عليه من ميل الجوارح بالالتفات والإقبال
والمؤانسة، فمن مال إلى إحدى زوجتيه كل الميل، فجعل الأخرى بذلك محرومة
من مقاصد الزوجية كلها، وهي: السكون والمودة والرحمة، كان آثمًا لأنه جعلها
كالمعلقة التي ليست متزوجة ولا أيمًا، ومن مال بعض الميل وهو ميل القلب فقط
الذي لا سلطان لاختياره عليه فهو غير آثم.
وأما الوجه الثالث: فليس بشيء، فإن العدل فيمن يقوم المرء بأمر الرياسة
عليهم، ليس ذلاً بل هو العز الحقيقي كالحاكم العادل، يكون عزيزًا بعدله ظاهرًا
وباطنًا.
هذا وإن العدل الذي يدخل في اختيار الإنسان واجب، حتى في معاملة
الأعداء كما هو منصوص في آيات كثيرة، فكيف يتعلق الاجتهاد بتفسير الآية،
فيما يخالف النصوص القاطعة المعلومة من الدين بالضرورة؟ .
فظهر بهذا أن من يستدل بالآية على عدم وجوب العدل بين الزوجتين مطلقًا
ينكر عليه؛ لأنه فسرها بما لا تدل عليه، وبما يخالف النصوص القطعية الكثيرة
المعلومة من الدين بالضرورة، وسيأتي تفسير الآية مفصلاً في موضعه.
* * *
(تفسير المنار لآية التيمم)
التنظير بين هذه المسألة وبين ما نقله المنار من تفسير الأستاذ الإمام لآية
التيمم، وإيضاحه له بالدلائل غير وجيه، فإن ذلك التفسير ليس مخالفًا لنص آيات
أخرى، وإنما هو موافق لما ورد في رخصة الفطر في رمضان، ولا مخالفًا لنص
حديث قطعي، ولم يضطر فيه إلى تأويل أحاديث تدل على خلاف ما اختاره في فهم
الآية كما قيل، بل خرجها على الأصول المعروفة على أنه إذا تعارض القرآن
والحديث ولم يظهر وجه للجمع، فالواجب ترجيح القرآن ورد الحديث إليه ولو
بالتأويل، ولا يرجح على القرآن شيء قط، ولا يعدل به عن ظاهره؛ لأجل اتباع
أحد من المفسرين أو غير المفسرين.
* * *
(التزام أقوال المفسرين الميتين والاستقلال دونهم)
المفسرون طبقات؛ منهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم، ولم نر أحدًا منهم
التزم فهم أحد معين منهم، فمجاهد يروي التفسير عن ابن عباس، وينفرد هو
بأقوال يخالف فيها ابن عباس، وابن جرير يروي عن الصحابة والتابعين بأسانيده،
وينفرد هو بأقوال لم يقل بها أحد ممن صحت عنده الرواية عنهم، ويجزم أهل
السنة بأنه لا عصمة لأحد من أولئك المفسرين في فهمه، ولا حجة في قوله، ولا
عصمة للجمع منهم أيضًا. ومسألة إجماع المجتهدين مسألة أخرى، وفيها من
المباحث ما فيها، وحسب السائل منها ما تقدم في تفسير الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: ٥٩) ... إلخ.
وجملة القول: إنه لا يوجد مفسر إلا وقد انفرد بأقوال لم يقل بها غيره، ولولا
ذلك لم يكن مفسرًا ولا ممن يفهم التفسير بالاستقلال، والقرآن بحر لم يحط أحد بما
فيه من الدرر والجوهر، ولكل غائص نصيب (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في
القرآن) ومن كان مقلدًا لا يعنيه ما يقوله المستقلون سواء وافقوا غيرهم أو خالفوه،
ومن كان مستقلاً يستفيد من بحثهم بصيرة ولا يقلدهم فيه، وإنما يعمل بما يظهر له أنه
الحق، فوجود المستقلين في فهم القرآن والسنة لا يضر أحدًا قط، ولكن فقدهم ضار؛
لأنهم حملة الحجة والبرهان، والمقلد لا حجة له وقصارى علمه أن ينقل حجة غيره،
فإذا طرأت شبهة على الدين، لا يجد لها جوابًا منقولاً عمن يقلدهم، بقي حائرًا ويكون
الدين حينئذ عرضة للزوال أو الزلزال إذا حار به أهل الشبهات الجديدة.
(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن آمن بالقدر)
بينا في المنار غير مرة مسألة القدر بما تدل عليه جملة آيات القرآن الواردة
فيها، وأنها ليست كما يقوله الفلاسفة والمتفلسفون من المتكلين، بل هي عبارة عن
إثبات النظام والحكمة في خلق الله تعالى، يجعل كل شيء بمقدار معين لا يعدوه،
فالمسببات تكون دائمًا بقدر أسبابها، ولا يكون شيء من الأشياء أُنفًا كما تزعم
القدرية المبني مذهبهم على قاعدة (الأمر أُنُف) أي إن الله تعالى يستأنف خلق كل
شيء يخلقه استئنافًا، كما يفعل الحاكم المستبد كل شيء، عندما يسنح له ويخطر
في باله استحسانه من غير بناء على نظام معين ولا التزام لمقادير مقررة من قبل،
وقد حدثت بدعتهم في العصر الأول، واتفق سلف الأمة ثم خلفها على ضلالهم في
هذه العقيدة، وأجمعوا أن كل شيء بقدر كما هو نص القرآن الحكيم، ومن شاء
التفصيل في بيان هذه المسألة فليرجع إلى الفتوى الثانية عشرة من فتاوى المجلد
الحادي عشر من المنار (ص ١٨٩، ٢٠٠) .
أما فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع جريان الأمور بمقاديرها
بحسب سنن الكون في ربط الأسباب بالمسببات، فهي لا تتجلى كمال التجلي إلا
لمن يعرف سنن الله تعالى في ارتباط الأعمال بأسبابها، وقد بينا ذلك في التفسير
وغير التفسير من أبواب المنار مرارًا كثيرة، ونشير إلى ذلك هنا بكلمة وجيزة.
جرت سنة الله تعالى بأن العمل الاختياري يصدر من الإنسان عند جزم إرادته به
، وأن جزم إرادته به لا يكون إلا بالعلم بأن فيه منفعة له أو دفع مضرة عنه في العاجل
أو الآجل، سواء كان العلم بذلك وجدانيًّا ضروريًّا أو كسبيًّا بالنظر في الأدلة. والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر قد يفيد المأمور والمنهيّ علمًا يبعث إرادته إلى العمل به
فيكون نفعا مفيدًا، ولهذا كان واجبًا، وقد ثبتت فائدته بالتجربة فالمراء فيه مراء باطل
، ولا يعارضه الإيمان بالقدر بل يؤيده ويعد دليلًا عليه.
***
(البطالة يوم الجمعة)
(س٢٠) من أحمد حمدي أفندي النجار الدمشقي بأم درمان (السودان) ،
سيدي الأستاذ العلامة الفاضل السيد محمد رشيد رضا دام فضله.
اجتمع منذ شهرين فريق من تجار هذه البلدة مؤلف من اليهود والنصارى
والمسلمين، وقرروا فيما بينهم بأن يكون لكل ملة يوم راحة من العمل بالثلاثة الأيام
المعروفة، وهي الجمعة للإسلام والسبت لليهود والأحد للنصارى؛ لمجاراة إخوانهم
النصارى بالخرطوم جارتهم، جعلوا غرامة على من يخالف ذلك بواسطة الحكومة،
ومن ذلك الوقت أصبح عموم اليهود والنصارى يبطلون الاشتغال باليومين
المذكورين، ونفر قليل من المسلمين باليوم الثالث، ورفض باقي المسلمين البطالة
بحجة أنه محرم أو مكروه؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: ١٠) ... إلخ، وأنه وردت بذلك أحاديث كثيرة بالبخاري وغيره من كتب
السنة، تحرم تفضيل أو تعظيم هذا اليوم على غيره، وحصلت بذلك مجادلات بينهم
كثيرة، وراجع بعضهم بعض العلماء هنا فأفتوهم بكراهة عدم الشغل بذلك اليوم
وتفضيله، وما زال بعضهم يعتقد وجوب تعظيم هذا اليوم والبطالة به، وأخيرًا
أجمع الكثيرون باستفتاء فضيلتكم بهذا الأمر فأفتونا بمعني الآية الكريمة، وبما ورد
بكتب السنة وبخلاصة ما ينبغي العمل به، فلا زلتم ملجأ لحل المعضلات
وضياء لهذه الأمة، وأطال الله بقاكم.
(ج) بُلِيَ المسلمون بالخلاف والجهل بآداب دينهم وبمنافعهم الدنيوية
ومصالحهم الاجتماعية، وقد رأيتم ما كتبناه في الموضوع في مقالات (المسلمون
والقبط) وفيه الإشارة إلى الأحاديث الصحيحة في فضيلة يوم الجمعة، وكونه عيدًا
للمسلمين كالسبت والأحد عند أهل الكتاب، ودعوى بعضهم وجود أحاديث تحرم
تفضيل يوم الجمعة على غيره باطلة وغريبة جدًّا، والأمر بالانتشار في الآية
للإباحة لا للوجوب، فهي كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (المائدة: ٢)
ولم يقل أحد من العلماء بوجوب الصيد بعد انتهاء الإحرام، بل المراد إباحته بعد أن
كان محرمًا في الحرم، وكذلك الانتشار بعد صلاة الجمعة، فإن الأمر بعد النهي
يراد به رفع النهي السابق، والذي ينبغي للمسلمين أن يجعلوا هذا اليوم عيد
الأسبوع كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وفضله على غيره وأن يجعلوه
للاستحمام والصلاة والعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء، وإن كان البيع فيه لا
يحرم إلا في الوقت المخصوص، على أن البيع لا يحرم في يوم العيدين السنويين
عيد الفطر وعيد النحر مطلقًا، فمن احتاج أو اضطر إلى عقد بيع أو غيره في أيام
العيد أو الجمعة غير وقت صلاتها، وعقده يكون صحيحًا ولا يأثم المتعاقدان، وهذا
لا يمنع أن يجعل الجمهور هذه الأيام أعيادًا سنوية وأسبوعية، فالإسلام شرع لنا
كل ما فيه الخير لنا من غير تضييق علينا.