للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


ترجمة جديدة للقرآن الكريم
رسالة للأمير شكيب أرسلان

من المستشرقين الكبار الذين يليق ذكرهم ويصح الاستشهاد بأقوالهم الأستاذ
إدوار مونته Montet Edouard مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف، وهو
مشهور بين الاوربيين من جميع الأجناس، فتجد مؤلفيهم يستشهدون بكلامه في
المسائل الشرقية والإسلامية ويقدرون آراءه قدرها.
والأستاذ مونته هو من القسم المنصف بين المستشرقين لا يتحامل على
الإسلام، ولا يقصد في مباحثه إظهار عورات ومثالب للإسلام كما يفعل غيره، بل
يحاكم عقيدة الإسلام وتاريخ الإسلام، وكل شيء عائد للإسلام محاكمة من ينظر إلى
الأشياء كما هي لا كما يخيلها الوهم، أو كما يصورها الضلع، مما هو دأب كثير
من الأوربيين الذين يخوضون في هذه المباحث وصدورهم ملأى بالضغن وسوء
النية، وليس المسيو إدوار مونته مع ذلك بمسلم ليقال إنه في أحكامه وآرائه هذه
متأثر بالتربية الدينية الإسلامية، أو إنه اقتنع بالإسلام فاتخذه دينًا، وأصبح لا يجد
فيه عيبًا ولا يقبل عليه مطعنًا، لا إن المسيو مونته لم يتخذ الإسلام دينًا، وربما
كان غير معتقد بكل ما في النصرانية أيضًا، فهو يقول فيهما آراءه بكل صراحة،
ويحسِّن منهما ما يراه بحسب نظره هو حسنًا وينتقد ما يراه خليقًا بالانتقاد، وقد
بدرت منه انتقادات ومؤاخذات في كلامه على تاريخ الإسلام تدل على كونه غير
دائن بدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكنها تدل أيضًا على أنه غير مضمر سوءًا
ولا متعمد ثلبًا، ولهذا آثرنا أن ننقل بعض كلامه لأنه لا يمكن أن يؤتى من قبل
تعصب للإسلام، ولا أن يقال عنه: إنه مسلم يدافع عن عقيدته.
وقد نضطر إلى تصحيح بعض معلومات ناقصة جاءت في كلام الأستاذ
المذكور أو إلى بيان رأينا في المسائل التي تختلف وجهتنا عن وجهته فيها.
فمن الكتب التي صنفها الأستاذ إدوار مونته كتاب جليل اسمه الإسلام
Lislam أخرجه سنة ١٩٢٣، وطالعناه وأشرنا على مواضع كثيرة منه لنقلها إلى
اللسان العربي، وكانت تعوقنا عن ذلك كثرة الأشغال. وكتاب آخر أخرجه في
السنة الماضية يحتوي على ترجمة القرآن المجيد بتمامه إلى اللغة الفرنسية طالعنا
جانبًا منه، وقابلنا الترجمة بالأصل فوجدنا الترجمة حَرِيَّة بأن توضع في الطبقة
الأولى من تراجم القرآن الكثيرة، وقد صدَّر الأستاذ مونته هذه الترجمة القيمة
بمقدمة نفيسة سننقل إلى قراء المنار عدة أنموذجات منها، وها أنذا أنشر الترجمة
الحرفية لديباجة مقدمته لها كما يلي:
(القرآن في الحقيقة هو ذو قيمة خارقة للعادة، فهو بين الكتب الدينية من
أعظمها شأنًا، وهو يشتمل على الحياة الروحية لقسم من النوع الإنساني يقدَّر
بمائتين وخمسين مليونًا على الأقل، ومن أهم ما في القرآن استقاؤه من المنابع
اليهودية والمسيحية: التوراة العبرانية والتقاليد اليهودية من جهة، والإنجيل
والتقاليد النصرانية من أخرى [١] .
فالعقيدة القرآنية إذًا هي ذات علاقة وثيقة مع العقيدة اليهودية والعقيدة
المسيحية، والآثار التاريخية اليهودية المتعلقة بالأنبياء والآباء، وكذلك الآثار
النصرانية المتعلقة بالمسيح هي موضوع صفحات عديدة من القرآن، فهذا التشابه
في الفكرة الدينية بين الإسلام والنصرانية هو واصل إلى الحد الذي لا يفهم معه
الإنسان لماذا وُجد المسيحيون والمسلمون أعداء إلى هذه الدرجة [٢] مدة هذه الأعصر
الطويلة، وقام بعضهم على بعض بمصارعات هي في الواقع مصارعات إخوان
لإخوان؛ لكنها صبغت القرون الغابرة بالدم الغزير.
على أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا الاتحاد في أصليْ الإسلام والنصرانية أن
الإسلام القرآني فاقد للاستقلال، وأنه ليس ذا صفة خاصة أصلية، فالأمر بالعكس
والإسلام دين لا يمكن خلطه مع دين آخر من الأديان السامية، فهو دين سامي تحت
صورة عربية خاصة تتجلى فيه روح اللغة العربية.
ولا ينبغي لقارئ القرآن أن يُعجب من التكرار الذي يجده فيه؛ فإن مثل هذا
التكرار معهود في أعظم الكتب الدينية مثل التوراة ومثل كتاب الاقتداء بالمسيح
الذي هو الغذاء الروحي للنفوس المسيحية [٣] والقارئ يجد في القرآن صفحات في
غاية الإبداع سواء من جهة الفكر، أو جهة القالب الذي وُضع فيه الفكر، وكذلك
يجد فيه لآلئ فريدة في علم الروح معروضة في آيات هي أعلى ما يمكن من
الأسلوب الشعري [٤] ، وهو فيه أسلوب قائم بذاته، وفي القرآن منازع دينية ذات
سعة مدهشة لا سيما بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه ذلك المصلح العربي،
فالإبداع يتلألأ في هاتيك القطع الباهرة تلألؤ الكواكب الكبرى، ولا غرو أن ينظر
إليها القارئ كمثال أعلى للأسلوب الشعري الشرقي.
ومما يجعل للقرآن هذه الأهمية أنه الكتاب الديني للأمم الإسلامية التي تمثل
في شرقي أوربة، وفي العالم الآسيوي وفي ماليزيا وفي أفريقية دورًا ليس مهمًّا
وحسب، بل دورًا ذا صلة شديدة بالأمم الغربية المسيحية.
وتظهر عظمة هذا الدور بزيادة في المستعمرات الأوربية التي هي في مختلف
أقسام العالم الشرقي والأفريقي، وفي البلدان التي تحت الحماية الأوربية والبلدان
التي تحت الانتداب المتولد من الحرب الكبرى.
فأوربة مكافلة في وجودها اليومي للأمم الإسلامية التي هي تحت حكومتها،
أو هي ذات علاقة شديدة معها، ولقد ثبت هذا الأمر ثبوتًا كل أحد يعلم مقداره في
الحرب العالمية من ١٩١٤ إلى ١٩١٨.
وأخيرًا نقول: إن الذي يجعل للقرآن هذه الأهمية الخاصة التي نشير إليها هو
المستقبل المدَّخَر للشعوب الإسلامية، إذ لا ينكر أن مستقبلاً فخمًا ينتظر هذه
الشعوب على مقدار ما يقتبسون من الحضارة الأوربية.
فتركيا وسورية وبلاد العرب وفارس وأفغانستان وشعوب شمالي إفريقية،
والثمانون مليون مسلم الذين في الهند الإنكليزية، والثلاثون مليون مسلم الذين في
الصين، والشعوب الإسلامية التي لا تكاد تحصى في ماليزيا (جاوى، سومطره ...
إلخ) هي كلها على مراحل متفاوتة من قبول الحياة الاقتصادية والصناعية والفكرية
التي عليها أوربة.
وإن هذه النتيجة قد تكون غير منتظرة عند من يجهل هذه الأمم، أو من لم
يقدر أن يفهمهما حق الفهم، أو لم يُوفق لفهم عقيدتها التوحيدية التي هي أعلى
صورة روحية وُجدت في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الآرية) انتهى.
ولا بد لنا أن نعقب على هذه الديباجة ببعض ملاحظات، منها أن المؤلف قال
عن عدد المسلمين أنه ٢٥٠ مليونًا على الأقل، ولقد أصاب جدًّا في قوله (على
الأقل) لأن المسلمين على التحقيق يزيدون على ٣٠٠ مليون نسمة، وربما كانوا
٣٣٠ مليونًا، وأما قوله (إن للمسلمين مستقبلاً عظيمًا على قدر ما يقتبسون من
الحضارة الأوربية) فليس معناه ما تذهب إليه ملاحدة تركيا وما يقلدهم فيه هذا النفر
القليل الملحد المتفرنج في مصر والعراق وسورية من أنه يجب عليهم نبذ التعليم
الديني الإسلامي، وأن يستبدلوا به تعليمًا لا دينيًّا مارقًا من كل صبغة دينية إسلامية،
لا، هذا لم يخطر ببال الأستاذ العلامة مونته، ولا هو من أبحاثه في كثير ولا قليل،
ولو كان هذا مقصده لما كان معجبًا إلى ذلك الحد بأكثر مبادئ الإسلام وأصوله،
ولما كان ألف فيه هذه التآليف الممتعة، ولما قال (إنه أعلى صورة روحية وجدت
في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الأم الآرية) (أي الأوربية) .
وإنما كان مقصد الأستاذ مونته العلوم الاقتصادية والصناعات التي تفوقت بها
أوربة اليوم، والأساليب الصحيحة التي تسير عليها في حضارتها، وهذه يندب
شرعًا الاطلاع عليها والتحقق بها، حتى لا يفوت المسلمين شيء من أسباب القوة
والمنعة، وحتى لا يكونوا مقصرين فيها عن شأو أعدائهم أو أندادهم، وهي لعمري
مما يقترن بالتعليم الديني الإسلامي، بل مما تزداد الرغبة فيه بقوة هذا التعليم
وتأثيره، كما أن الأمم الأوربية واليابانية قد بلغت هذه المبالغ القاصية من هذه
العلوم الحديثة والصناعات الناشئة عنها، ولم تزل متمسكة بأديانها وعقائدها، ولم
يبرح التعليم الديني عندها سائرًا جنبًا إلى جنب مع التعليم الطبيعي، والروح فيها
متآخية مع المادة.
... ... ... ... ... ... لوزان ٩ أكتوبر ١٩٢٩ ...
... شكيب أرسلان