ما وصلت إليه الأمة إلا وحط عن كاهلها جميع الأتعاب والبلايا والاضطهادات والرزايا. ولا رقي إليه شعب إلا وأمن غائلة الإعنات والاعتساف. وتحصنت أعماله من جائحة السلب والاعتداء. فصاحبه هو الساكن في منازل الرغد والهناء، واللابس حلة الإسعاد، نقول ولا مغالاة في الحق: إنه الضامن لتوطيد أركان العمران، والكفيل بتشييد دعائم الاجتماع، كيف لا وهو الحقيقة الجامعة لكل فرد من أفراد الكمالات، من غير فرق بين أن يكون أدبيًّا أو ماديًّا، حسيًّا أو معنويًّا، فالتفنن في الصنايع فصل من فصوله، والتسابق في ميادين العلوم باب من أبوابه، والتجافي عن مواضع النقيصة جزء من أجزائه، والتجميل بالأخلاق الفاضلة نبذ من جواهره، فإذًا لا بدع إذا قلنا: إن صاحبه هو السعيد والواطئ بنعله غرف النعيم، جد في طلبه من أدرك نتيجته من الأمم، فجنى ثمره اليانع، نراه يتقلب على بساط العز، ويتدرج في معارج الإجلال والجمال، عمرت دياره بعد أن كانت قاعًا صفصفًا بالأبنية العالية، وتزينت بالأسواق الفسيحة والصنائع العديدة، وصارت محط رجال السياسة، ومطمح أنظار النبلاء، ضاق بسيطها عن القيام بنفقاته الواسعة فطار على جناح العلم يستطلع بقاعًا خربتها الجهالة، وثلمتها يد البغي، ليكون فيها هو الوارث بعد بنيها، يستخرج منها الكنوز بحكمته، ويفجر منها الينابيع بقدرته، ليجني وأهلها الغارسون، ويقضي وهم المطيعون. تسمع أهل تلك الديار صدى صوته في العشي والإبكار، والغدو والآصال، ولكن يغالطون الحس ويكابرون بإنكار البداهة، ويسلون أنفسهم بأن هذا الأجنبي لا سطوة له ولا حكم، وإنما هو غريب، دعته الحاجة للتجول في البلاد لطلب الرزق، ثم تحثهم خواطرهم بأننا أرفع شأنًا من أولئك الغرباء، وأسبق منهم يدًا في المدنية، ولئن تأخرنا عنهم حينًا من الزمن لكنا لحقنا بهم في انتظام الهيئة، وحسن السلوك، وهذه قصورنا المشيدة، وثيابنا الملونة، وقدودنا المجملة، وأطعمتنا المتنوعة تشهد بأننا قوم غمسنا في الترف، وحظينا بالثروة، ونهجنا الصراط المستقيم. يحسبون تلك الأوهام حقائق تجعلهم من ذوي النعمة واليسار، والعزة والكمال اعتمادًا على كونها سنة الأمم المثرية، والشعوب المتنورة. وايم الله إنها بالنسبة لأولئك البسطاء لداعية الفقر المدقع، ومجلبة الشر، وإن هذه الصور الظاهرية التي يظنونها تمدنًا كسحابة حُشِيَتْ بالصواعق، يتوهم الغافل من بريقها ولمعانها أنها تأتي بوابل ينعش البقل ويحيي الموات، ولكن إذا حل الأجل أمطرت ما يذهب بالحياة ويبدد الأجسام، وذلك لأن الأمم المتمدنة وإن أنفقت الأموال الكثيرة في تشييد القصور وتزيين الملابس وتحسين الأثاث إلى غير ذلك من المصارف، فإنما يَكُون على نسبة مخصوصة من إيراداتهم الحائزين لها بالكد والتعب في إبراز المصنوعات الجميلة، والمخترعات الجمة التي تكسب صاحبها في قليل من الزمن ثروة واسعة، وقدرًا رفيعًا. ولا يجيزون الإنفاق من رأس المال إلا إذا مست ضرورة لا محيص عنها، ومع ذلك فنفقاتهم هذه لا تتجاوز حد اللزوم ولا تخرج عن دائرة احتياجاتهم، فكلها مؤسسة على قاعدة جلب المصلحة ورفع الحاجة. تدخل منزل الرجل منهم ترى غرفه ومخادعه مشغولات بأمتعته وبضائعه ونقوده، وليس فيه قدر شبر عُمِّرَ لغير حاجة، حتى حديقته، ولا يشتري ثوبًا له أو لزوجته وأولاده إلا بقدر العوز، وحلي آل بيته ثلاثة أرباعه من النحاس مهما كثرت ثروته، وليس في إصطبله سوى عربة أو حمار للركوب، لا يجمع بينهما إلا نادرًا، وفرشه وغطاه لا يخرج عن نوعي القطن والصوف كثيابه. أما أهل تلك الديار الذين يزعمون أنهم قوم متمدنون (وهم في ذلك مخطئون) ، فقد ركبوا الشطط وحملوا أنفسهم ما لا يطيقون من النفقات الباهظة، يصرف الواحد منهم آلافًا من النقود في سبيل تعمير أرض فسيحة، وربما كفاه ما لا يبلغ العشر من مساحتها، ويفرشها من أعلى أنواع الفرش، ويزينها بأبهج أصناف الزينة، فتبقى غرف المنزل بلا ساكن، يعلو التراب على ما فيها من الأثاث والفرش المغشاة بالفضة والذهب حتى يبيدها، وربما لا يستعملها مرة في العام. يتختم في إصبعه بما تجاوز قيمته عقد الألوف من الفرنكات، ولدى زوجته من الألماس والجواهر ما يكفي ربحه لنفقات بيته أو يزيد، لو استعمل ثمنه في شيء يتجر به (إذا كان ممن يفقهون) إلى غير ذلك من المصارف التي يضيق بنا المقام عن تفصيلها، وما حمله عليها سوى الطيش والانهماك في الشهوات والسفه المفرط الذي بلغ مرتبة الجنون. فإن رجعنا إلى سيرهم في طرق جلب المنافع، وتخفيف أتعاب المعيشة، وتحسين وسائل الاكتساب، رأيناهم واقفين على نقطة واحدة من آلاف من السنين. فإيراداتهم الآن واقفة عند الحد الذي كانت عليه قبل أن كانوا يسكنون المنازل المصنوعة من اللبن الأخضر، المفروشة بقصب (الحَلْفاء) ، المعرشة بقضبان شجر (الجميز) وجذوع النخل، مكتفين من الثياب بما يستر البشرة، ومن الطعام بما يذهب النهمة فمزروعاتهم الآن هي على ما كانت عليه في تلك الأيام، لم تغير أشكالها، ولم تتبدل أصنافها، نعم قد زادت حاصلاتها نظرًا للتسهيلات التي أجريت في طرق الري (هذا في بلاد الكاتب) ولكن هذا النمو لا ويعادل في الحقيقة الضعف الذي يلم بتجارة أبناء البلاد، فقد كان يوجد قبل ورود الغريب إليهم في القرية الصغيرة أشخاص عديدون يتجرون في جميع أصناف المزروعات وغيرها من الأقمشة والمأكولات، يربحون من ذلك مالاً عظيمًا. أما بعد ذلك فلا ترى بَنِيهِمْ إلا يتضورن جوعًا، ويئنون تحت أحمال المشقات، لبوار التجارة وكسادها واختصاصها بيد النزيل. ويتبع ذلك سقوط صنعة النجارة والحدادة والحياكة، وغيرها من أصناف الحرف اللاتي نسختها متحدثات الأمم المتمدنين. وربما ينتهي بهم الأمر لو استمروا على الجهالة والسفه إلى خلو أيديهم من الزراعة أيضًا؛ لوجود من يحسنها سواهم. ولا عجب بعد هذا إذا رأينا هؤلاء السفهاء واقعين في وهدة الفاقة والاضمحلال، يئنون تحت أثقال الديون التي تستغرق جميع ما في حوزتهم من الأملاك، وهذا يجعلهم حقراء أذلاء في قبضة الدائن الذي يكونون رهنوه أملاكهم، يتصرف فيهم بما يريد فيلاقون منه شمماً لا تقدر على تحمله النفوس، ولا تستطيعه الطباع، وربما كان الدائن من سفلة قومه، والمدين من أعيان بلاده، ولا تغني عنه يومئذ قصوره العالية ولا ثيابه المزركشة ولا أثاثاته الخَزِّية والحريرية، وهذا فضلاً عما يعتريه من البلبال، وكثرة الوساوس والأفكار، يبيت ليله يتقلب على الفراش ولا تقلبه على جمر الغضا، يقدر محصولات زراعته قبل بذرها وينسبها لمقدار المطلوب في إبان الحصاد، فإذا وجدها على قدره حصل له نوع من الاطمئنان ذاهلاً عما عساه يحدث من الغرق أو الشرق أو الأندية المتساقطة من الجو، حتى إذا حل الأجل ولم يجد لديه ما يفي بالمطلوب لإصابة الزرع بأحد الأسباب التي ذكرناها ضرب كفًّا على كف، واسود وجهه، وساءت حالته، وتسول الناس ليكفلوه عند عميله (دائنه) إذا لم يف ما عنده بالرهن، فلا يجد مجيبًا ولا نصيرًا. لعمر الحق إن المفترش للحصا، المتوسد لحجر الصخر، المستكن في منازل الحيوانات، المتكفف في معيشته، خير من هؤلاء الناس الذين لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال (ومما يسوؤنا أن نراهم أكثر من الكثير في بلادنا) ، أهذا ما حسبوه تمدنًا وزعموه نعيمًا مقيمًا. كلا، بل هو الشقاء الأبدي الجالب للفقر المدقع والعذاب الأليم. هذه مشاربهم في أحوالهم المعاشية، تحزن المحب، وتفرح قلب العدو، ولعلمنا بأن تلك الحالة لا يرضاها الشرع ولا القانون جئنا بهذه النصيحة، آملين أن تنفع الذكرى، فينهج هؤلاء صراطًا مستقيمًا، وما ذلك على الله بعزيز.