(كتب بمناسبة تلك الزلازل الشديدة التي انتابت المدن الكبرى في بلاد اليابان، فخربت العمران، وقتلت مئات الألوف من السكان، وسارت أخبار أهوالها الركبان، وقد جمعت المقالة للمجلد السابق ومرت سنة كاملة ولم يمكن نشرها، وإنما ننشرها الآن للعبرة بها والتذكير بحقارة هذه الدنيا وعمرانها والترغيب في العمل للآخرة التي يندر في هذا العصر من يذكر بها. قال الكاتب) : رمى الحدثان أهل اليابان بمأساة صمدوا لها صمودًا، وقرحوا أعينًا وخدودًا، ولا عجب، فإن الخطب الذي لحق بهم من أقسى الأرزاء التي أصابت الإنسانية من غليان مراجل الأرض التي اتخذ الناس مسكنهم منها، واعتمدوا في معاشهم عليها، ولكن الإنسان جبل على النسيان، فمن ذا الذي يذكر زلازل مسيني التي أودت بما يزيد عن مائتي ألف نفس، وزلازل صقلية التي خربت مرارًا مدنها وقراها , ونخص بالإشارة منها تلك التي خربت في عام ١٦٩٣ وحده أربعًا وخمسين مدينة وثلاثمائة قرية , وقتلت ستين ألف نسمة! فكأنما قيل لأهل تلك الجزيرة الجهنمية: لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكمو يصير إلى تراب ولكن ليس بسير الأمور إلى الزوال بالسنة الطبيعية المطردة، بل فجأة وغيلة بغدر الطبيعة وحسن ظن الناس بدنياهم. دار الردى وقرارة الأكدار ومن ذا الذي فكر قبل مصيبة (طوكيو ويوكوهامة) وغيرهما من مدن اليابان وقراها أو بين وقوعها وبين حدوث التثور الأخير لبركان أثنة في صقلية في أن ليسابونه (أو ليشبونة) عاصمة البرتغال منها أصابتها مثل هذه الأرزاء مرارًا، وأنها في شهر نوفمبر من عام ١٧٥٥ رجتها الزلازل رجة شعر بها في مقدار جزء من اثني عشر جزءًا من سطح الكرة الأرضية، وصيرتها أطلالاً تدفن تحت ترابها وأحجارها , وخشبها وحديدها أكثر من ستين ألف شخص! نعم، لا يذكر إلا القليل من أهل التاريخ - الذين مهمتهم أن يحفظوا ذكرى الحوادث - تلك الكوارث التي انتابت الإنسانية في عام ٧٩ قبل الميلاد حيث زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها في ساحل نابولي وما اكتنفه، فقوضت أعراش بومبئي وهركولانوم، وأطغت عليهما سيلاً من المواد الذائبة التي لفظها بركان لم تطفئ الأيام إلى الآن جمر صدره - وهو بركان فيزوف - وما أصاب منها أرجاء البحر المتوسط في عامي ١٩ و ٥٢٦ بعد المسيح , حيث قضت في كل مرة على نحو مائة وعشرين أو مائة وخمسين ألفًا من البشر , وما كان لهم من أموال وأنعام، وفي مدينة نابولي نفسها التي رجت أرضها عام ١٦٣٨ رجة قضت على ما فوق ثلاثين ألفًا من الأنفس، وجزيرة جامايكا التي اهتزت اهتزازًا كفى لإزالة مدينة وأهلها من عالم الأحياء؛ إذ محت مدينة بور روايال , وأماتت أكثر من ثلاثة آلاف نفس من أهلها، وفي ليما وكالاس حيث دمرت المدينتان , وفارق ثمانية عشر (ألفًا) من السكان الحياة فيهما، وفي المارتينيك حيث صارت مدينة سان بيير إلى ما صارت إليه بور روايال. لا يذكر سوى المؤرخين ذلك وغيره مثل طغيان الماء على الأرض في مدينة (جالفستون) بسبب حركة الزلازل التي دمرت المدينة كلها، وحكمت طوفان السيل فيها، وما لحق بالإنسانية قبله وبعده من الجوائح والمصائب بل سينسى أهل اليابان أنفسهم ما لحق بجزائرهم في أوائل هذا الشهر، كما نسوا ما حل بهم من قبله، وسينسى أهل مسيني ما أصابهم من أثنة وزلازل مسيني وصقلية، وأهل إيطالية ما أصاب أنحاءهم الجنوبية، كما سينسى أهالي الدرمانال منهم طغيان النيل في هذا العام. ولولا ذلك لما سكن أحد نابولي وليشبونه ومسيني وأراضي صقلية وجزائر اليابان والأقيانوسية وغيرها، ولما اتخذت إيطاليا نابولي أهم مرفأ لها، ولما شنت الأمم الحروب بعضها على بعض، مع إنه لم تخرج أمة مرة من حرب ولو ظافرة إلا وأسفت على ما ضاع من النفوس والأموال، وفضلت الرغبة إلى نعيم السلام، الذي هيهات أن تسمح به الأيام ...... ولكن أين يذهبون إذا أرادوا السكنى في جهة لا زلازل تحركها؟ إن شرقي آسية ووسطها وجنوبيها وجزائر الأقيانوسية ووسط أفريقية وشماليها وجنوبيها ووسط أوروبة وجنوبيها وغربها أراض صلبة , هي من أكثر الأراضي تأثرًا بالزلازل , وفيها كثير من البراكين لا تزال تلفظ اليحموم وسيول المواد الذائبة والنار، كما أن أميريكة من أراضي أمير الويلس (برنس أوف ويلس) وإسلانده أو (آيلند) - إذا اعتبرنا إسلانده من أميريكة (- وهو على رأينا أصح من اعتبارها من أوروبة) - شمالاً إلى رأس القرن (كاب هورن) في أراضي النار جنوبًا بلاد أوجدتها سلسلة براكين , قد تكون سبب زوالها بعد أن كانت سبب وجودها. ولقد أصابت اليابان قبل الآن من هذا القبيل مصائب كثيرة , أخصها مصيبة زلازل عامي ١٨٩١ و ١٨٩٦ وأكثر منهما مصيبة ١٨٥٥ التي دمرت طوكيو وكانت وقتئذ تدعى (ييدو) ، كما أن زلازل كراكاتا التي لم تقتصر على رج ما على القشرة الأرضية من جزائر الأقيانوسية وجنوب الصين والصين الهندية وسيام الهند، بل وصلت تموجات الارتجاج إلى جنوب أفريقيا، بل إلى جنوب أميريكة أيضًا، بل إلى ما وراء رأس القرن غر. وكذلك الهند التي أصابها ارتجاج عقب زلازل طوكيو ويوكوهامة، هذه الأخيرة هزتها كلها زلازل عام ١٨٦١ هزة عنيفة , وكذلك أواسط آسية , رأت من الزلازل ونتائجها كثيرًا مما يروع ويفزع، وخصوصًا زلازل أرجاء بحيرة البيكال التي طرأت في عام ١٨٨٨. ولقد ذكرنا زلازل ليشبونة في عام ١٧٥٥ وقد اهتزت لرجاتها أرجاء الجزيرة (أو شبه الجزيرة!) الأميرية - أي: البرتغال وأسبانية وإفرنسة وسويسرة وجزء من شمالي إيطاليا وجزء من غربي ألمانية وشماليها وجنوبي السويد , وجنوبي النرويج وغربيها وجزء من شماليها , وأراضي الدانمارك وهولاندة و (بلجيكة) وجزيرتي إنكلترة وأيرلندة كلها. ولم تكن أمريكة الشمالية ولا أمريكة الجنوبية بأسعد حظًّا، فقد أصابت الأولى زلازل كثيرة، نخص بالذكر منها زلازل ١٨٧٥ التي رجت شرقيها، وزلازل ١٨٩٥ التي رجت وسطها، وزلازل ١٨١١ و ١٧١١ التي رجت كل أراضي جنوبي أميريكة الشمالية، وبعض أراضي شمالي أمريكا الجنوبية وما بينهما من جزائر الانتيل , وأما الثانية - أي: أمريكة الجنوبية - فقد أصابها في شمالها ووسطها وجنوبها الغربي والشرقي ما دونته سجلات التاريخ، وقماطر علم الأرض، وخصوصًا زلازل ١٨١٥ التي أصابت الشيلي، وزلازل ١٨٩٥ التي عمت الشيلي وقسمًا كبيرًا من الجمهورية الفضية (الأرجنتين) والأوروجواي والباراجواي وبوليفية، وجزءًا من البرازيل. فهل سلمت أراضي الشرق العربية - ونعني بها ما جاور مصر - من تلك الزلازل؟ لا، بل تناوبتها الزلازل حينًا بعد حين، نخص بالذكر منها تلك التي لم تمر عليها ثلاث وخمسون سنة كاملة، وهي زلازل عام ١٨٧٠ التي شملت مصر وقسمًا كبيرًا من سودانها وطرابلس الغرب وتونس غربًا، وقسمًا كبيرًا من بلاد العرب وسورية والأناضول والبلقان وجنوبي إيطالية! وأما أراضي الجزائر والمغرب الأقصى فهي جبلية بركانية في أكثر مساحتها , ومن المعلوم أن أفريقية كانت متصلة بأوروبة - وعلى الأخص في جهة المغرب الأقصى , وما فصلتهما سوى الزلازل التي مزقت القشرة الأرضية البارزة عند مقترب المحيط الأطلسي والبحر المتوسط وأنشأت بينهما بحر الزقاق أو ممر جبل طارق. وإذا لم يسجل التاريخ زلازل في صحراء أفريقية الكبرى ولا في غربيها ووسطها وجنوبيها , فليس ذلك لأنه لم تحدث هناك زلازل؛ بل لأن الطوارق وأهالي السودان والكونغو والهوتانتوتيين وغيرهم , لم يسجلوا ما لحق بهم منها، ولم يقيسوا مدى تموجاته بآلات قياس الزلازل ... بل لم يرتقوا إلى تدوين أمثال هذه الأحداث الكونية في تواريخ بلادهم. لقد درس علماء الأرض والباحثون منهم في الزلازل خاصة هذه الشؤون، واستعملوا ما يستخدمون من آلات رصد الزلازل كالبندول الأفقي , وآلة مقياس الزلازل وغيرهما، فوجدوا أنه لا يوجد مقدار شبر من الأرض خلوا من الاهتزاز الذي قد يشتد يومًا , فيكون زلزلة تميد بها الدور والقلاع والجبال ... ولا تترك من البروج المشيدة إلا الأطلال ... فأين يقطن الناس المساكين ليأمنوا أن تخسف بهم الأرض؟ ؟ ؟ لعمري إن آمن أنواع المساكن ضررًا هي الأهرام لمن أراد سكنى قصور الأحجار , وما بنى بالبتون على نمط مخازن الذخائر في القلاع، وأخفها وأسلمها الخيام التي يقطنها البدو آمنين أن تسقط عليهم السقوف والجدران ... فهل تعود المدنية بعد ازدهارها ورفاهتها، إلى ما كانت الإنسانية عليه في بداوتها وتقشفها؟ لقد كان اليابانيون ولا يزال بعضهم إلى الآن يبنون دورهم بقصب البمبو جاعلين جدرانها من الورق ... كما كان أهل الآستانة يبنون مساكنهم بالخشب , ثم هؤلاء وأولئك اتبعوا حركة (المدنية) الحديثة في البناء بالأحجار والبتون والحديد، ومنهم من فكر في اتباع الطريقة الحمقاء , أو طريقة وضع الربح فوق كل اعتبار آخر - وهي الطريقة الأميركية الفظيعة التي تشيد بها منازل ذات طباق تعد بالعشرات ... فإذا ارتجت الأرض تداعت جدران هذه الأبراج المشيدة , وسقط سكانها من أعلى عليين إلى أسفل سافلين تحت الأنقاض وفيما بينها! إن هذه الحماقة في التقليد نراها هنا في ألمانية أيضًا .... فإن كثيرًا من الشركات اغتنمت حلول الحكم الجمهوري الذي ترك الأعنة لكل النزعات في محل الحكم القيصري الذي كان يحرم على الناس أن يعلوا دورهم، فأخذت في بناء الدور الشاهقة التي تريد بها أن تضارع (المحتكات بالسحب) الأميركية.. ويعلم الله متى يعاقب البانون والساكنون على هذا الخطأ الفظيع، نسأل الله السلامة لنا وللناس من عواقب حماقتهم , واندفاعهم وراء الربح بغير تروٍ ولا تفكير! تسجل مراصد الزلازل في أنحاء العالم آلافًا من الزلازل في كل عام، ولا يفهم الناس أنهم يعيشون ويبنون قصورهم على قمة بركان , إذا كان لم ينفجر اليوم فقد ينفجر غدًا أو كما قال أحد الناس في إبان الثورة الأفرنسية إنهم يرقصون فوق وعاء أو (برميل) بارود) . إن هذه الأرض التي يظنها الناس ساكنة لها في (بدنها) حركة دائمة، وكيف تستقر قشرة رقيقة على نواة غليظة من الجمر؟ وما البحر بآمن من الأرض فإنه على زلازل أنوائه وأمواجه، له زلازل من تحته كالأرض. فمتى تعقل الإنسانية وتتخذ لنفسها الحيطة من خطر هي معرضة له في كل طرفة عين؟ فليرجع الناس إلى ما كانت عليه مبانيهم من البساطة والصغر، وإذا كان العلم قد أفادهم، فليتخذوا وسائل لمنع سقوط السقوف والجدران، والوقاية من الحريق الذي كان يلتهم أخشاب الآستانة وورق اليابان... إن مصيبة اليابان على فداحة ضحاياها من الأنفس والأموال، لا يقف مدى خطبها لدى ما ظهر من جسامة الرزء , بل إنها أكبر بكثير من كل مصيبة حلت بتلك الأرض الجهنمية. فإنها ضربت (اقتصاد) اليابان من زراعة وصناعة وتجارة ضربة تكاد تكون قاضية عليه , إذا لم يبذل في إصلاح ما أفسدت فوق ما يستطاع من الجهد الإنساني، وإذا لم تمد لها الأمم الأخرى يد المعاونة والمساعدة، ومتى تعيد اليابان بناء مصانعها ومتاجرها ومزارعها التي قوضتها الزلزلة وأعفت النار ثارها؟ ومتى تعيد دور علومها وأماكن فنونها، وتستعيض عمن قضت عليه هذه الكارثة من رجال العلم والسياسة والاقتصاد؟ نعم، إنه لا يجوز اليأس ما دامت في اليابان أم تلد (والأمهات يلدن كثيرًا في اليابان - ويفاخرن أمم العالم بكثرة من يلدن) ولكن مما لا يجوز للشك أن يتطرق إليه، هو أن خطب اليابان أعظم خطب رأته أمم الإنسانية بعد خطب عاد وثمود. (المنار) بعد كتابة هذه المقالة وقبل نشرها نقلت صحف العالم عن أحد علماء الفلك في إنكلترة، أنه بعد الدراسة والبحث في أسباب الزلازل عشرين سنة، قامت عنده دلائل أقنعته بأن هذه الأرض ستخرب في سنة كذا- وذكر سنة قريبة نسيتها الآن - بزلزلة تعم الغرب والشرق فتطغى بها البحار على اليابسة إلخ. وقد صار الناس يتمارون بأمثال هذه النذر المحددة لموعد خراب الأرض وهلاك عالمها , أو قيام الساعة؛ لتعدد الذين تنبؤوا بها وظهر كذبهم , وكان الناس يصدقونها في القرون الوسطى حتى كانوا يتوبون إلى الله، ويتركون المعاصي ويكثرون الصدقات استعدادًا للقاء الله تعالى , وقد وقف الألوف من أهل أوروبة أملاكهم للكنائس في إثر مزعم من هذه المزاعم. ولكن أقوال علماء الفلك والزلازل في خراب العالم مبنية على أصول علمية , إذا لم تبلغ فروعها درجة القطع وتحديد الزمن , فلا يستطيع أحد أن ينكر أصولها وإمكان وقوع ما أخبر به هذا العالم الإنكليزي في وقت ما , وقد صرح كتاب الله تعالى بأن للساعة زلزلة عظيمة تتقدمها , ولكنه قال: {لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: ١٨٧) .