للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: رفيق بك العظم


الجامعة الإسلامية

كتب رفيق بك العظم الشهير بمباحثه التاريخية والاجتاعية رسالة في الجامعة
الإسلامية، أشرنا إليها في الجزء الماضي، ووفاء بالوعد نقتبس منها ما يأتي:
هل صحيح ما تقوله أوربا عن الجامعة الإسلامية؟
علمت أيها القارئ من هذا التمهيد أن الاجتماع يستدعي بطبيعته وجود الروابط
القومية والوطنية ... إلخ، وأن الغرض من هذه الروابط حفظ التوازن بين قوى
المجتمعات الإنسانية الميالة إلى المغالبة بحكم الأنانية والطمع، وأن أقل هذه
الروابط تأثيرًا في المجتمعات رابطة الدين، وأن المسلمين لم تجمعهم هذه الجامعة
يومًا، حتى ولا على التعاون على دفع الكوارث الكبرى التي حلت ببلاد الإسلام من
هجمات أهل الصليب والتتار، ولو اجتمع المسلمون أمام أمثال هذه الجوامع الكبرى
سواء في ذلك الوقت أو الآن أو كل زمان؛ لأتوا عملاً تستدعيه طبيعة الوجود لا
سبة فيه، ولا موآخذة عليه، إلا إذا محيت من صفحات الوجود قوانين الروابط
الاجتماعية بحكم الأخوة الإنسانية، والمساواة العامة بين أفراد البشر وأقوامهم، ولا
يكون هذا إلا إذا استبدل البشر بخلق آخرين من جنس الملائكة المطهرين.
إذا تقرر هذا؛ فاعلم أن دعوى القائلين بخطر الجامعة الإسلامية المتوقع بمعناه
الذي يريده أولئك القائلون مدفوعة من وجوه:
الوجه الأول: إن الجوامع الجنسية غالبة عند الأمم؛ وأخصها الأمة الإسلامية
لهذا نرى المسلمين قد مزقهم الأوربيون، وتشاطر ملكهم الدول المسيحية دون أن
يمد بعضهم يد المعونة إلى بعض باسم الدين والجامعة الإسلامية؛ لغلبة العصبية
الدينية ولتخاذلهم المعروف؛ المتأتي عن تحاسد أمرائهم الذين أعماهم الجهل وحب
الذات والأنانية الباطلة، حتى عن الاعتصام بالجوامع السياسية التي تقضي بها
أحيانًا المصالح المتحدة بين دول الأرض.
الوجه الثاني: إن المسلمين ولو اجتمعوا باسم الدين لمناهضة دول أوربا، فلا
يكون اجتماعهم خطرًا على المدنية كما يذهب إليه سياسيو الغرب، بل يكون وفاء
بحق القومية ورجوعًا إلى الاعتصام بالرابطة العامة التي يمكنها أن تقابل رابطة
الدول المسيحية الغربية التي اجتاحت أغلب ممالك الإسلام، وكانت خطرًا كبيرًا على
حياة المسلمين السياسة. وقد أبنَّا فيما سبق أن قوانين الاجتماع الطبيعية تقضي على
الشعوب بالذود عن مجتمعها، والذب عن استقلاله، ما لم يصبح البشر كله في حقوق
الإنسانية والتمتع بثمرات الحياة سواء.
الوجه الثالث: إن القول بالجامعة الإسلامية واتحاد الإسلام، وغير ذلك من
الألفاظ الوضعية التي أراد واضعوها إيغار صدور الأمم على المسلمين، إنما هي
من موضوعات السياسيين في هذا العصر، لم ترد في تاريخ الإسلام، وليس لها في
الدول الإسلامية شأن غير سياسي أصلاً؛ وهو شأن الدول القائمة والأمم الفاتحة في
كل عصر، وعلى تقدير أن هناك ما يدعو إلى الظن باتحاد المسلمين في هذا العصر
فمنشأُوه اتحاد أوربا على اكتساح ممالك الإسلام واستعباد المسلمين. فليسموا اتحاد
المسلمين بإزاء اتحادهم الاتحاد الديني، أو الجامعة الإسلامية، أو الشرق والغرب،
أو ما شاءوا من الأسماء. أفليس معنى ذلك كله أن المسلمين يريدون الاعتصام
بجامعة كبرى، تقابل اجتماع الدول المسيحية على اهتضام حقوق
الأمم الإسلامية؟
من العجيب أن الدول الأوربية التي تسوغ لنفسها الحق بالاستيلاء على الممالك
الشرقية والقضاء على حياة المسلمين السياسية، لا تسوغ للمسلمين الحرص على
هذه الحياة، بأن يحموا بقوة الاجتماع والتآلف ذمارهم، ويصونوا من عبث العابثين
استقلالهم، وأن ينادي ساستهم أن في وجود الجامعة الإسلامية خطرًا على أوربا.
وبعبارة أوضح على سياسة دولها الموجهة إلى تدويخ الممالك الأسيوية والأفريقية،
ولا يجوز أن يقول المسلمون: إن في وجود الجامعة المسيحية الأوربية خطرًا على
الممالك الإسلامية، مع تحقق الخطر من قبل هذه، وانتفائه من قبل تلك.
إن ساسة الغرب يوهمون العالم أن الجامعة الإسلامية خطر على المدنية؛
لاصطباغها بصبغة دينية، مع أنها خير على المدنية، وأرجى لنفع الإنسانية، لو قام
بها المسلمون. وإليك البيان.
الإسلام والجامعة الإسلامية
من المعلوم بالضرورة أن معنى الدعوة إلى الدين هو ربط أفراد كثيرين وأقوام
عددين بعقيدة واحدة، فالأمة التي تدين بدين واحد مسوقة بضرورة المشاركة في
الاعتقاد إلى المشاركة في العواطف، وهذا هو الارتباط الديني، الذي قلنا: إنه كباقي
الروابط طبيعي بين البشر مادام لهم دين أو أديان، والإسلام من هذه الوجهة كباقي
الأديان إلا أنه يمتاز بأمرين جديرين بالنظر والاعتبار: وهما تنويهه بشأن الارتباط
الأخوي بين المسلمين ارتباطاً خاصًّا، ثم الارتباط الإنساني بين الناس كافة ارتباطًا
عامًّا. ومما جاء في الأمر الأول قوله تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) ، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) ، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا
عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) ، وفي الحديث النبوي (المسلمون تتكافأ
دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) وفي الحديث أيضًا
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، ولذا كانت رابطة التعاون والإخاء
عقيدة من عقائد المسلمين وإن تناسوها، ولم يعملوا بها إلا قليلاً.
ومما جاء في الأمر الثاني في الرابطة الإنسانية، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣) ، وفي الحديث: (لا فضل لعربي على
عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى) [١] .
وأنت ترى من هذا أن الإسلام له رابطتان: رابطة العواطف التي يشترك بها
كل أرباب دين، ورابطة التعاون والإخاء التي يدعو إليها بالفعل، إلا أنه بيَّن معنى
هذا التعاون في أنه على الخير دون الشر، وعلى البر بالناس دون العدوان عليهم لكي
يكون ارتباطهم بجامع الإخاء الديني، واجتماعهم عليه غير مقصود به العدوان،
بل المحاسنة والإحسان، وصريح قوله بالاجتماع وعدم التفرق محمول على ما
تستدعيه حالة الاجتماع من لزوم حفظ البيضة، وكف الأيدي العادية عن المجتمع،
وهذا ضروري للمجتمعات كما أشرنا إليه في التمهيد.
ثم لكي لا تكون جامعة الدين سببًا للعدوان مع الآخرين، بل وسيلة إلى التدرج
في مدارج الإنسانية في أعم مظاهرها؛ وهي المساواة العامة بين أفراد البشر
وأقوامهم فيما تقتضيه حقوق الإنسان على الإنسان من الكرامة وحسن الجوار،
وتبادل المنافع والأعمال التي جعلت الإنسان مدنيًّا بالطبع؛ أي محتاجًا إلى التعاون،
مفتقراً بعضه إلى بعض، قال الله - تعالى- إرشادًا للمؤمنين إلى ذلك {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} (الحجرات: ١٣) الآية.
هذه هي الوحدة الدينية التي يدعو إليها الإسلام. أفلا يرى المنصفون من كل
قبيل أن الجامعة الإسلامية التي يوهم ساسة الغرب العالم المسيحي بخطرها على
المدنية إذا اصطبغت بصبغة الدين هي خير للمدنية من أن لا تصبغ بهذه الصبغة [٢]
وأن فوضى العقول عند الطوائف الإسلامية تأتي بما هو شر على المدنية مع
تنكر نفوس المسلمين لهذا العهد؛ لما تأتي به دول أوربا لمضادتهم ومضادة دولهم
من أساليب المكر والخديعة؛ توصلاً لامتهان حقوقهم، وسلب استقلالهم، ووطء
بساط ملكهم حيثما كان.
اللهم، إن المسلمين ما قذف بهم في لج الحيرة، ووقف بهم عن السير مع
الأمم الراقية في سبيل المدنية الصحيحة، وكشف ما بينهم وبين الأمم المتمدنة،
فرموهم بكل نقيصة ونالوهم بكل سوء - إلا انفصامُ عروة وحدتهم الدينية،
والخروج عن قانونها الجامع الذي يرمي إلى غرض الاجتماع الصحيح والمدنية
الفاضلة، ويريد الشعوب على توحيد الكلمة؛ لضرورة القيام على شؤون الحياة
المدنية. وإنما يتحقق معنى الحياة في قوم أعزوا جانبهم، وذادوا عن حوضهم،
وكانوا يدًا على من ناوأهم، وأقسطوا في المعاملة إلى من عداهم، وهذا ما يريده
الإسلام.
من الظلم أن يمثل ساسة الغرب الجامعة الإسلامية بصبغتها الدينية في صورة
ينكرها الإسلام، ويأباها العدل، ولا تنطبق على نص من نصوص الدين كما
رأيت. وحسبك من الدين والتاريخ دليلاً على أن الإسلام لا يحض أهله على
الجامعة إلا ليكونوا يدًا على من ناوأهم، وأن يقسطوا إلى من سواهم وإن افترق عنهم
في الدين، ما لم يبادئهم بالعدوان ويرد بهم السوء - أن بعض القرشيين من
المشركين كانوا يزورون بعض المهاجرين من ذوي قرابتهم في المدينة، فلا يقبلون
عليهم، ولا يحسنون إليهم؛ لما عُرِفت به قريش من الشدة على المسلمين،
والإصرار على الشرك، فنزلت في تنبيههم إلى أن الدين لا يمنع من الإحسان إلى
غير أهله، ماداموا غير مناوئين للمسلمين هذه الآية {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: ٨) .
وهذا التسامح الذي عرف به الإسلام، ونبه عليه القرآن هو الذي سد كل منفذ
من منافذ الأغراض السياسية التي تفسد نظام الاجتماع، وتفرق وحدة الإنسانية
وتلقي العداوة والبغضاء بين بني الإنسان، فلم يستطع زعماء السياسية في الدول
الإسلامية جمع الشعوب العائشة في البسيط الإسلامي على كلمة الإسلام بقوة الإكراه
ولم يسعهم أن يعاملوا مخالفيهم في الدين بضروب من العنت، تلجئهم ولو إلى
الهجرة والجلاء من بلاد بسط عليها الإسلام جناح سلطانه، وآخر من نعهد أنه حاول
ذلك من ملوك المسلمين السلطان سليمان العثماني، فإنه لما رأى شغب المسيحيين
في ولاياته الأوربية، وتوالي خروجهم عن الطاعة، وعلم أن بقاءهم على النصرانية
خطر على تلك الولايات، استفتى علماء عصره في إكراههم على الإسلام فأبوا أن
يفتوه بذلك، وكان ما توقعه ذلك السلطان من الخطر على تلك البلاد فضلاً عما لاقته
الدولة العثمانية من النصب والتعب في سياسة أهلها، ولم تزل تلاقيه فيما بقي منها
في حوزتها إلى الآن.
إن السياسيين وأهل الأنانية المتوحشة في أوربا الذين يرجفون بخطر الجامعة
الإسلامية، لا يرون أن من الخطر على المدنية والعبث بنظام الألفة الإنسانية،
والوحدة البشرية، اضطهاد المسلمين الذين تحت كنفهم وإرهاقهم بضروب من
الإذلال والإعنات؛ قصد القضاء عليهم واستئصال شأفتهم باسم السياسة، ويرون أن
من الخطر على المدنية وجود جامعة إسلامية، تعامل باسم الدين مخالفيهم في
السياسة والدين معاملة الأكفاء في الإنسانية والعشراء في الوطنية كما سبق بيانه،
أفليس في هذا ما يدعو إلى الحكم على رجوع الإنسانية القهقري، وتقدم المدنية إلى
الوراء.
حقًّا إن هذه (السياسة) المطلقة من قيود الإنسانية والوجدان، ومن قيود
الحق والعدل، تشبه في تشكيلها حكايات الغيلان الواردة في أساطير الأولين وتماثيل
إله الشر عند اليونانيين. فالسياسيون إذا ساقوا الشعوب إلى الدمار، وقتلوهم
بالسيف والنار، قالوا: إنها السياسة. وإذا وطئوا بأقدامهم الحقوق، وامتهنوا
الشرائع، اتهموا السياسة. وإذا أخطأوا خطأ يجلب على بلادهم الدمار وعلى دولتهم
العار، تدرعوا بالسياسة. وبالجملة حيثما سنحت لهم سانحة شر قدموا أمامهم
السياسة. فالسياسة عندهم (كالجسم المرن) قابلة للتشكل بأشكال الأهواء التي
تنبعث في نفوسهم، وتدعوهم إليها أطماعهم. ولهذا لما استباحوا لجامعتهم
الأوربية المسيحية السياسية اضطهاد الجامعة الإسلامية في ملكها ودينها
وأهلها، ورأوا أن يأتوا لهذا العهد على البقية الباقية، أخذوا يصيحون بخطر
الجامعة الإسلامية؛ تمهيدًا لمقاصدهم السيئة، وتكفيرًا عن إجرامهم إلى
المسلمين أمام العقلاء وأنصار العدل والفضيلة من أهل البلاد الأوربية،
ولسوف يعلمون أنهم مخطئون اهـ.
(المنار)
ويلي هذا فصل في الرسالة عنوانه (أوربا والجامعة الإسلامية) فيه كثير من
الحقائق التاريخية والعبر.