تأليف المؤرخ الفيلسوف غوستاف لوبون الفرنسي والترجمة لعبد الباسط أفندي فتح الله البيروني
عقد المؤلف الباب الأول من كتابه هذا لبيان أغلاط قومه في الفلسفة السياسية الاستعمارية، وجعل موضوع الفصل الأول منه بيان المبادئ والقواعد التي جروا عليها في الاستعمار فقال: مبادينا الاستعمارية لا ريب في أن المنازعات الاقتصادية بين الغرب والشرق ستكون من شواغل الفكر الجدية في القرن العشرين، وستستتبع من الخراب والدم المهراق أكثر مما استتبعته حروب الأزمنة الخالية، وسيكون للمستعمرات في هذه الخصومات القائمة بين مدنية ومدنية الشأن الكبير، وإذا لم يبق اليوم من يمتري فيما لنا من المصلحة في الاحتفاظ بمستعمراتنا، فليس في وسعنا أن لا نبالي بما يتعلق بها من هذا القبيل. إن إدارة المستعمرات التي أنشأتها الأمم الأوربية تقوم على قواعد جد جلية. وإذ كانت هذه القواعد من بنات التجربة كان ينبغي أن تكون هي هي لدى الجميع، بيد أنها تختلف اختلاف الأمة عن الأخرى. قد يكون في هذا التعبير عن اختلافها شيء من المبالغة لأن طرق الاستعمار التي تسلكها الدول الأوروبية يمكن ردها إلى اثنتين، نسلك الأولى منهما نحن الإفرنسيين وحدنا، والأخرى يسلكها أعداؤنا من الأمم، وإنما تنشئ المستعمرة كل أمة لتستفيد منها وتبقى لها، أما نحن فإننا نترفع عن أمثال هذه الأفكار السخيفة، ولكن لا يبرح بالنا أن وظيفتنا هي إتحاف شعوب الأرض بمنافع المدنية، لذلك نرى أن نحكم فيهم بأوضاعنا وأفكارنا، تلك الأوضاع والأفكار التي هم - وياللأسف - مجمعون على إبائها، وإذا كنا موقنين بما لنا من الحق الصحيح فإنا نصر على العمل بمذاهبنا، وسنظل كذلك حتى يقوم لنا من الفشل المتواتر دليل قوي على أن مبادئنا الاستعمارية العظمى إن هي إلا أغلاط محزنة في كلتي جهتيها: النظرية والعملية على حد سواء. عقدت في كتابي (مدنيات الهند) فصلاً بينت فيه أصول الإدارة التي تعمل بها إنكلترة في فتح مستعمراتها وتدبير شؤونها خصوصًا الهند، وكيف أن هذه المستعمرة قد أخضعت بأموالها ورجاله نفسها، وبأي حكمة هي مسوسة، وكيف يمكن أن تذهب هذه الإمبراطورية العظيمة ذات يوم من أيدي المتغلبين عليها إذا هي حملت على مبدأ واحد من مبادئ الفلسفة السياسية الخاطئة، وإذا كنت مضطرًّا إلى الاختصار فسأقصر البحث في هذا الفصل على الآراء الرائجة في فرنسة لسياسة أدنى مستعمراتنا إلينا، وهي الجزائر , وعلى النتائج التي يؤدي إليها العمل بتلك الآراء. إن الكتابات عن الجزائر لا تعد، غير أن كتابين منها كتبهما مؤلفان مضطلعان بالأمر، فضمناهما الوسط من الآراء المقبولة، أحدهما ألفه العلامة (لوروابوليو) من أساتذة مدرسة فرنسة، والآخر ألفه موسيو (فينيون) من قدماء الأفاضل الإفرنسيين. ليس من غرضي في هذا الفصل التحقيق بالتفصيل عن نتائج استعمارنا الجزائري، ولكن أقصد إلى بيان قيمة الفلسفة السياسية التي كان - وسيكون - عليها مدار العمل في إدارة البلاد زمنًا طويلاً فيما أرى، وسيكون انتقادي للمبادئ فقط لا للرجال العاملين بها، لأن الذي يتصرف برجال الدولة هي الضرورات السياسية لا النظريات العلمية، ولما كانت الضرورات عبارة عن بنات الآراء فإلى الآراء ينبغي أن توجه المؤاخذة لا إلى المكرهين عن احتمالها، إذ ليس في استطاعة الواحد منهم أن يتولى الحكم بدونها، وأما تغييرها ففي غاية من الصعوبة؛ لأن الشعب الإفرنسي الذي هو بحسب الظاهر أدنى إلى الانقلاب من كل شعب قد يكون في الحقيقة أكثر شعوب الكون تمسكًا بالقديم. إن الجزائر تساوي فرنسة في مساحتها ولكنها قليلة السكان، يقطنها ستة ملايين من المسلمين المخلصين لأوضاعنا على رواية التقارير الرسمية، ولكن الحق الواقع أن هذا الإخلاص محتاج في تمكنه إلى جيش مؤلف من ٦٠٠٠٠ رجل أعني قدر الجيش الذي يستخدمه الإنجليز لاستبقاء طاعة ٢٥٠ مليون هندي، منهم ٥٠ مليون مسلم [١] هم أكثر مهابةً وأصعب مراسًا من أهل الجزائر إخوانهم في الدين. ثم إن بين سكان الجزائر المسلمين ثمانمائة ألف من الأوربيين نصفهم فرنسيس فقط، والنصف الآخر أسبان وطليان ومالطيون إلخ، هذه العناصر الأوربية على اختلاف أصولها لا تتزاوج مع المسلمين وإنما تتزواج فيما بينها، ولا تلبث أن يتكون منها شعب ذو أخلاق متميزة مصالحه ستكون بالطبع أدنى إلى مصالح الجزائر منها إلى مصالح أم الوطن [٢] تلك التي هي بمثابة صيرفي - كما هو الظاهر حتى الآن - دأبه أن يمنح البلاد سككًا حديديةً، ومؤسسات عموميةً وعطايا مختلفةً. والمسلمون الذين هم القسم الأعظم من أهل الجزائر يحتوي سوادهم على سلالات من كل فاتح من فاتحي أفريقية، ويظهر أن جمهورهم ثلثاه من البربر والثلث الآخر من العرب، وبين الفريقين فوارق ولكنها ضئيلةً، أهمها ما به ينقسمون إلى بدو وحضر، وسترى فيما يأتي - خلافًا للرأي الشائع - دليلاً على أن كلاًّ من العرب والبربر، منهم البدو ومنهم الحضر. وأما كتاب (موسيو لوروابوليو) فيمكن تلخيصه بكلمة واحدة تعرب عن الفكرة السائدة في فرنسة بشأن الجزائر وهي: فرْنَسَة المسلمين، أي إنحالهم عادات الفرنسيس وأخلاقهم، والطريقة السياسية التي سلكت حتى الآن لفَرْنَسَة هؤلاء المسلمين، أو الاستيلاء عليهم بالفتح المعنوي تشبه مناهج الأمريكان الأولى في معاملة أولئك الحمر الجلود؛ إذ كانوا يغتصبون أرضهم التي فيها صيدهم، ثم يتركونهم يموتون كما يشاءون جوعًا، هذه هي طريقتنا الإدارية في الاكتساح على وجه التقريب، ولقد أجاد في وصفها مسيو فينبون إذ قال: لما رأت الدولة أن الولاة يصادرون قسمًا من أرض القبائل عقب كل ثورة حسبت أن العدالة تمكنها من منح أحاسن تلك الأراضي للمستعمرين بعد صد أربابها الوطنيين عنها. وكلما انتشر العنصر الأوربي كان الوطنيون يُطردون عن تراث آبائهم بحيث أمسى الكثير من القبائل بعيدًا عن الناحية التي كانت وطنًا له. وأما نتائج مثل هذه السياسة التي استمرت أكثر من ثلاثين سنةً فلا يمكن أن تكون مبهمةً: وهي أن العربي الذي رأى نفسه في رجوع مستمر لم يبق له شيء من الثقة بأن يجني ثمرة عمله، ولم يعد يفكر في إتقان حرثه ولا تحسين أرضه، والذي حُرم أرض قبيله المزدرعة ومُنع حق الانتفاع بموارد الماء، لم يعد يستطيع الصبر على المحْل وقلة القوت وموتان الماشية وانقراضها، وكل هذه الآلام والمصائب ما كانت إلا لتذكي الضغن في قلب الوطني على المستعمر وتزيد في انفراج مسافة الخلف بينهما. وأما قرار مجلس الشيوخ الذي صدر سنة ١٨٦٣ وأعلن حق تمليك الأراضي للقبائل التي كانت متصرفةً فيها - فلم تكن فيه نهاية لطريقة دفع القبائل وصدها عن أراضيها، ولكنه غير اسمها وهيئتها إذ صارت تسمى اليوم باسم (الاستملاك لأجل المنافع العمومية [٣] ) وتمتاز هذه الطريقة بخاصتين: إعطاء الأرض إلى المستعمر بعد سلبها من الوطني، وتكوين مناطق أوربية محضة يزاح عنها الوطني، وإن كان من المالكين، ويُقضى عليه بعد انتزاع ملكه بالفقر، نعم إن مالك الأرض الأول يعوض عن أرضه ببدل نقدي تعينه المحاكم وهو يترواح بين ٥٠ -٦٠ فرنكًا لكل هكتار أي أنه يبدل بثلاثين أو أربعين هكتارًا من الأرض التي كانت تؤتيه كل موارد العيش الرغد مدة حياته مقدارًا من المال (١٥٠٠ - ٢٠٠٠) فرنك لا يكاد يقوم بأوده عامًا واحدًا أو عامين. وكان الاستعمار الرسمي أغرب أشكال التنفيذ لسلطة الحكومة القادرة على كل شيء في الجزائر، أما لو تقرأ تاريخه في الكتاب الذي اقتبست منه الشاهد المتقدم إذن لرأيت نتائج إقطاع تلك الأراضي مجانًا كل فئة من الساقطين الذين لا توازي قابليتهم لحرث الأرض إلا كفاءتهم لتعليم اللسان السانسكريتي، ولرأيت نتائج إنشاء تلك الضياع الرسمية التي صارت اليوم قاعًا صفصفًا. هذه التجربة المهلكة وما استلزمته من النفقات الباهظة لم تكن كافيةً لهداية عمالنا؛ لأن أحدهم قد طلب منذ بضع سنين خمسين مليونًا لينتزع بها من العرب أملاكًا ينشئ فيها ضياعًا مكان الضياع التي أذلها وأشقاها الخراب، ولكن دار الندوة - ولحسن الحظ - ردت اقتراحه هذا لأنه - ولا ريب - يدعو المسلمين إلى الثورة ويحتفر هوةً جديدةً تتردى فيها ملايين أم الوطن [٤] . ألا وإن في عرض مثل هذا الاقتراح والبحث فيه - حتى أوشك أن يستجاب له - لدليلاً على أن الرأي الاستعماري الإفرنسي لا يزال في الدرجة السفلى من التثقيف. ولا عجب إذا كلفتنا الجزائر المبالغ الجسام بفضل أمثال هذه التجارب لأن ما أنفقناه عليها يقدر بأربعة مليارات عدا جبايتها نفسها، فهل ترانا أمَّنَّا البلاد على الأقل بهذا المقدار من الأموال المبذولة؟ إذا صدقنا بذلك فلا ينبغي أن ننسى أن علينا أن نقوم بنفقة جيش عظيم ليحفظ فيها السلام حفظًا ما. منذ فتح الجزائر تَناوَبَ سياسَتَنا الاستعمارية مبدآن كان يرجح الواحد منهما على الآخر تبعًا لحركة الرأي العام، أما إحداهما فهو انتزاع ملكية العرب ودفعهم إلى الصحراء، وأما الآخر فجعلهم (فرنسيسًا) بحملهم على أوضاعنا. غير أن العرب لم يندفعوا بما أقاموا من الحجة البالغة، وهي أن الصحراء لم يعد فيها معاش لأحد، وقبل أن يرضوا بالموت جوعًا جعل الملايين منهم يعارضون بالمقاومة، فلا هم قبلوا التفرنج، ولا هم رضوا بالاندفاع لأنه لم يوجد حتى الآن شعب تمكن من تغيير وضعه المعنوي من أجل انتحاله وضع أمة أخرى فكلتا الطريقتين ممقوتتان، والانتقال من إحداها إلى الأخرى لا يرجى منه إصلاح لهما، وبناءً على هذا فستظل سلسلة هذه التجارب المدمرة تزداد حلقةً بعد حلقة إلى أن يأتي يوم يهتدي فيه حكامنا، فيعترفون أن أبسط حل لهذه المشكلة وأقله مؤنةً وأوفره حكمةً، هو أن يتركوا للبلاد المفتتحة أوضاعها وعاداتها وشكل حياتها وعقائدها، كما تفعل الأمم المستعمِرة كلها خصوصًا الإنكليز والفلمنك. أما هذا الحل فقد يكون الآن ضربًا من المحال لأن الرأي العام ضد له بدليل ما ترى من سلوك أهل الحل والعقد فينا، وما نجد من الأفكار المنبثة في الجرائد والمؤلفات. ولما كنا نحن أهل الغرب قد أطلقنا من قيود العقائد الدينية [٥] فإنا نظن الأمر كذلك في أرجاء العالم كافةً، وقليل من المؤلفين الأوربيين الذين أدركوا أن أمر الدين في الشرق فوق كل الأمور، فإن الأوضاع المدنية والسياسية والحياة الاجتماعية والقروية هي عند أتباع محمد , كما هي لدى أتباع صاوا وبوذه مرجعها إلى الشريعة الدينية، والأكل والشرب والنوم والحرث، كلها أفعال عبادة عند أهل الشرق. ولقد أدرك الإنكليز ذلك حتى إنهم رغم تصلبهم في مذهبهم البروتستانتي ليرممون في الهند معابد الوثنيين، ويجرون على كهنتها الوظائف الواسعة على حين يضنون على رسل دينهم بأدنى مساعدة، وإنك مهما تحريت لا تعثر برجل واحد تحت سماء إنكلترة يؤيد القول بأن دمار المستعمرة أولى من تعطيل مبدأ. ولقد كان ينبغي أن يكون أساس سياستنا حماية الدين الإسلامي، والاستظهار بذوات النفوذ من جمعياته الدينية، وتأييد سلطة الفقهاء عوضًا عن مناجزتها وإضعافها، إن أول (مقيم) إفرنسي في تونس كان من نوادر الحكام المضطلعين بشؤون الشرق فقد دل على مبلغه من الحصافة في السياسة؛ إذ طلب إلى باي تونس إذ ذاك أن يصدر منشورًا دينيًّا يثبت للمؤمنين مشروعية الأحكام التي كان يريد وضعها! لكن ما كان أسرع أولي الأمر منا إلى عزله. احترام شعائر الدين عند العرب هو باحترام أوضاعهم؛ لأن الأوضاع إنما هي متفرعة عن العقائد الدينية كما بينت آنفًا - بيد أن (موسيو لوروابوليو) يرد هذه السياسة، وينعتها بسياسة (التعفف) ويقول: (إن الاحترام التام لسنن ما يسمى بالقومية العربية وأخلاقها وعاداتها، يقضي بترك جيشنا ومستعمرينا لأرض أفريقية) لماذا - يا ترى - قد ذهل المؤلف عن بيان السبب، وإنه ليعسر عليه - فيما أظن - أن يجد لرأيه طلاءً من سبب معقول، إن السياسة التي أقرها هنا هي عين السياسة التي يجري عليها الإنكليز مع المسلمين في الهند دون أن يكون لهم (أي الإنكليز) أقل ميل إلى ترك ملكهم ذاك العظيم. وأما الوسائل التي يشير بها (موسيو لوروابوليو) فهي موافقة لآرائنا في المساواة العامة، ومؤداها (مزج العنصر الوطني بالعنصر الأوربي) وتعريف هذا المزج (حالة لجماعة تجري فيها على شعبين مختلفين في الأصل أحكام اقتصادية واجتماعية واحدة، وقوانين عامة واحدة مع خضوعهما من حيث الإنتاج لمؤثر واحد) . هذه الصورة تبدو باهرةً وهي مرسومة على الورق، وإنها لأمنية المساواة التي يتمناها أهل النظر منا من أبناء سنة ٩٣ والوقت الحاضر، ولكن يسخر منها أدنى المستخدمين في حكومة الهند الملكية، ولا عجب فقد يمكن أن يكون الرجل عالمًا مشهورًا، ولا يكون له إلمام بالهاوية التي تفصل الشرقي عن الغربي في الأفكار والوجدان. على أنا نجد المؤلف يتنبه لبعض العقبات في سياسته المزجية، ولكنه يتسورها بسهولة، فهو يوقن من غير دليل (أن البدو لا يختلفون عن الأوربيين إلا في أمر واحد) ألا وهو الدين! فما أعظم هذا الخطأ، وقد يكون الأقرب إلى الحقيقة أن يقال: إن بين غلوي من عصر برينوس، وبين باريزي من أبناء اليوم من الفرق العظيم مثل ما بين أوروبي متمدن، وبين بربري من أبناء الزمن الحاضر، ويزعم (موسيو لوروابوليو) أنه لما كان البربر والأوربيون من أصل واحد بقي العرب وحدهم موضوعًا (للفرْنَسَة) فهم الذين ينبغي أن (يُفرنَسوا) ويظهر له أن الأمر سهل جدًّا، ينبغي - حسب إيضاحه - أن تغير مناهج القبيلة تغيرًا تامًّا، وكذلك طريقة الملك وتعدد الزوجات، فإذا تم ذلك لم يبق إلا تفاريع نظفر بها بمرور الزمن. هذه التساؤلات الصغيرة التي قد تسر الخلص من الاشتراكيين يراها المؤلف من السهولة بحيث لم ير في بيان الوسيلة إليها فائدةً، غير أني أظهر أن كل من ألف النظر في طبيعة العرب المعنوية يجد أن ما في إحداث هذه التغييرات من الصعوبة لا يقل عما يوجد منها في جعلك واحدًا من أبناء أوسترالية أستاذًا في كلية فرنسية. و (موسيو بوليو) ليس بذي شفقة على العرب الذين ينظر إليهم نظره إلى فئة من الهمج، ويحسب أن مجتمعهم مكون على الصورة القديمة لكل شعب بدوي، فهو يظهر أن كل العرب من قبيل الرعاة وأن البربر من أهل الحضر. ومن يقرأ ما كتبه ابن خلدون في القرن الرابع عشر يعلم أن قسمة بربر الجزائر إلى بدو وحضر ليست ببنت الأمس، وإنما التمييز بين البربر والعرب الذي جنح له فريق من المؤلفين من حيث القابلية للتمدن فإنه كان مبنيًّا على ملاحظات جد سطحية لا يستطاع اليوم تأييدها، ولما كان شكل الوجود متعلقًا بالبيئة كانت الحياة الاجتماعية بنوعيها - بدويةً وحضريةً - تابعةً لطبيعة الأرض لا لطبيعة السلالة، ففي السهول المرملة يكون كل من العرب والبربر من الرحل، كما أن كلاًّ منهم يكون مقيمًا في الجهات الخصبة، وفي كل قطر يسكنه العرب، كالجزائر ومصر وسورية والجزيرة تجد منهم البدوي والمتحضر، غير أني لا يظهر لي أي من العرب المتحضرة والبربر المتحضرة يفوق الآخر من حيث الكمال العقلي، وإذا لم يكن بد من الميل إلى إحدى الطائفتين، فالأولى أن يكون إلى العرب أصحاب تلك المعيشة القديمة الباذخة؛ لأن البربر ما كانت لهم إلا مدنية طفلة ناقصة. وأكثر ما يلح به (موسيو بوليو) من الإصلاح: منع تعدد الزوجات، ولكنه يذهل دائمًا عن أن يبين لنا الوسيلة العملية لذلك، فهو يفيض في بيان فوائد وحدة الزوج، ويظهر لمعاصريه أن البيت هو في الأصل ملك المرأة الفرد، وبدونها تفقد العائلة روحها، ويفقد البيت أداة سعادته، ويقول: إن التعدد من أعظم الأسباب في ركود المجتمع العربي. بيد أني لا أريد أن أدخل جوف المسألة، ولا أن أعترض بأنه لما كان تعدد الزوجات مذهبًا للشرقيين كافةً كان لا بد لهذه العادة من أسباب قوية، كما أني لا أتكلف توجيه النظر إلى أن التعدد الشرعي عند المشارقة هو خير من التعدد النفاقي عند الأوربيين، وما يتبعه من المواليد الحرام، فإن في كتابي (تاريخ الحضارة العربية) شرحًا كافيًا لهذه المسائل وغيرها، والناظر فيه يجد أن دور (الحريم) في عهد الدولة العربية أنتجن من [bas-bleus] والنساء العالمات قدر ما أنتجت مدارس إناثنا من ذلك، ولقد اتضح اليوم أن تعدد الزوجات ما كان قط سببًا في ركود المسلمين، وهل من حاجة بعد إلى التذكير بأن العرب وحدهم هم الذين أظهروا لنا العلم اليوناني - اللاتيني، وأن مدارس أوربة الجامعة- ومنها جامعة باريس - عاشت ستمائة عامًا بفضل ما ترجم من كتبهم، وبنهجها مناهجهم؟ ثم إن المدنية العربية كانت من أبهر المدنيات التي عرفها التاريخ، نعم إنها قضت كما قضى كثير غيرها، ولكن من القناعة بالأدلة السطحية أن نعزو إلى تعدد الزوجات ما هو نتيجة لغيره من العلل المهمة. على أنه لم يتضح لنا السبب في كراهية الأستاذ الفاضل لتعدد الزوجات، وهو ينبئنا أن التعدد محصور في البيوتات الموسرة، وأنه قد قل انتشاره فإذا صار التعدد إلى غاية من الندرة وقلة التأثير فما باله يبغي إبطاله؟ وكيف يمكن إقامة الدليل على أن هذه العادة (من أعظم الأسباب في الركود الذي يتصف به المجتمع العربي [٦] ) .